عازف الكلارينت محمد نجم لـ"المدن": لستُ ضحية..ولا أفكّر كضحية
في شباط الماضي، صدر عدد من مجلة "بوليتيس" الفرنسية بعنوان: "شباب غزة، المقاومة بالفن والرياضة". غالباً ما تعود تلك العناوين في معرض الحديث عن الشعوب "الضحية" سواء كانوا في الشرق الأوسط، في العالم العربي، أو حتى في الحديث عن أي من الدول المستضعفة التي تعيش حالة حرب، والتي تبقى في عيون المشاهد الغربي محدودة في تلك التسمية وكل ما تحمله من تعميمات مقيدة لحاملي تلك الجنسيات.
وللفنانين الشباب منهم، الذين ذكرتهم "بوليتيس"، مصنفةً ما يقومون به بفعل المقاومة بالفن، يبقى السؤال: كيف لهم أن ينجحوا خارج أسوار هذا التصنيف؟ وهل يبقى الفنان أسير جنسيته في هذا الجزء من العالم؟ وما أخطار أو حتى فائدة تلك التصنيفات على اللاجئين منهم؟
في صدد الاستعداد لإطلاق ألبومه "زهر يافا"، كان لـ"المدن" حديث مع المؤلف الموسيقي وعازف الكلارينت محمد نجم، عما تقدمه موسيقى فنان من فلسطين، وعن تلك الإشكالية ومدى تأثيرها في مسيرته وعمله، كفنان فلسطيني الجنسية مقيم في فرنسا.
تتلمذ نجم في معهد ادوارد سعيد في بيت لحم، لينتقل بعدها لدراسة الموسيقى في "كونسرفاتوار أنجيه" في فرنسا، حيث تخصص في آلة الكلارينت. عاد بعدها إلى معهد الانطلاقة الفلسطيني ليدرّس، فباريس مجدداً بعد ثلاث سنوات، حيث أسس رباعي محمد نجم لموسيقى الجاز. وقد كانت للفرقة مشاركات في مهرجانات عديدة في فرنسا، ألمانيا، رومانيا، بريطانيا، الغابون وقطر.
البيت الصغير
تتميز موسيقى رباعي محمد نجم ببعضٍ من الخجل، وكثير من التآلف مع المادة الموسيقية، والتي كأنما تتحدّث في خجلها عن الرحيل والذاكرة دونما الاضطرار إلى التلفظ بتلك الكلمات. يصف نجم عالمه على أنه زيارة موسيقية يشارك فيها المستمعين ومضات من طفولته ورحلته الصغيرة، محاولاً ذِكر الأماكن والأشخاص الذين كان لهم أثر في حياته كجدّه وأبيه، مضيفاً: "يبقى العالم كالبيت الصغير، لكل شخص غرفته وخصوصيته، لكننا نلتقي جميعاً في الصالون". وعليه، تفتح الموسيقى أبواب ذلك الصالون على اتساعها لدعوة الجميع إلى سهرة سَمر، ينحت فيها كل منا النغم بما يتناسب مع ذكرياته.
وعن عزفه آلة غربية بروحية شرقية، يوضح نجم: "لست شرقياً بشكل كافٍ للعرب (الشرقيين) ولست غربياً بالنسبة للغرب، لكن أعتقد أنّ ثمة وضوحاً في اللونين بما يرضي الذوقَين العربي والغربي. يبقى حلمي أن تُعزف الكلارينت بأسلوب عربي". أما عن الفرق بين اعتباره فناناً فلسطينياً أو فناناً من فلسطين، فيضيف: "أريد أن يحضر الجمهور إلى عروضي الموسيقية حباً في ما أقدم موسيقياً أو بداعي الفضول الفني والموسيقي. لا أريد جمهوراً متعاطفاً مع كوني من فلسطين، فأنا لا أبحث عن تعاطف أو مساعدة، وأريد أن يتم تجريدي موسيقياً وفنياً من هويتي، ليتم الحكم على ما أقدمه استناداً إلى محتواه، لأن أصحاب القضية والحق في موقع قوة وليس العكس. لست ضحية ولا أفكر كضحية".
وللفنانين الشباب منهم، الذين ذكرتهم "بوليتيس"، مصنفةً ما يقومون به بفعل المقاومة بالفن، يبقى السؤال: كيف لهم أن ينجحوا خارج أسوار هذا التصنيف؟ وهل يبقى الفنان أسير جنسيته في هذا الجزء من العالم؟ وما أخطار أو حتى فائدة تلك التصنيفات على اللاجئين منهم؟
في صدد الاستعداد لإطلاق ألبومه "زهر يافا"، كان لـ"المدن" حديث مع المؤلف الموسيقي وعازف الكلارينت محمد نجم، عما تقدمه موسيقى فنان من فلسطين، وعن تلك الإشكالية ومدى تأثيرها في مسيرته وعمله، كفنان فلسطيني الجنسية مقيم في فرنسا.
تتلمذ نجم في معهد ادوارد سعيد في بيت لحم، لينتقل بعدها لدراسة الموسيقى في "كونسرفاتوار أنجيه" في فرنسا، حيث تخصص في آلة الكلارينت. عاد بعدها إلى معهد الانطلاقة الفلسطيني ليدرّس، فباريس مجدداً بعد ثلاث سنوات، حيث أسس رباعي محمد نجم لموسيقى الجاز. وقد كانت للفرقة مشاركات في مهرجانات عديدة في فرنسا، ألمانيا، رومانيا، بريطانيا، الغابون وقطر.
البيت الصغير
تتميز موسيقى رباعي محمد نجم ببعضٍ من الخجل، وكثير من التآلف مع المادة الموسيقية، والتي كأنما تتحدّث في خجلها عن الرحيل والذاكرة دونما الاضطرار إلى التلفظ بتلك الكلمات. يصف نجم عالمه على أنه زيارة موسيقية يشارك فيها المستمعين ومضات من طفولته ورحلته الصغيرة، محاولاً ذِكر الأماكن والأشخاص الذين كان لهم أثر في حياته كجدّه وأبيه، مضيفاً: "يبقى العالم كالبيت الصغير، لكل شخص غرفته وخصوصيته، لكننا نلتقي جميعاً في الصالون". وعليه، تفتح الموسيقى أبواب ذلك الصالون على اتساعها لدعوة الجميع إلى سهرة سَمر، ينحت فيها كل منا النغم بما يتناسب مع ذكرياته.
وعن عزفه آلة غربية بروحية شرقية، يوضح نجم: "لست شرقياً بشكل كافٍ للعرب (الشرقيين) ولست غربياً بالنسبة للغرب، لكن أعتقد أنّ ثمة وضوحاً في اللونين بما يرضي الذوقَين العربي والغربي. يبقى حلمي أن تُعزف الكلارينت بأسلوب عربي". أما عن الفرق بين اعتباره فناناً فلسطينياً أو فناناً من فلسطين، فيضيف: "أريد أن يحضر الجمهور إلى عروضي الموسيقية حباً في ما أقدم موسيقياً أو بداعي الفضول الفني والموسيقي. لا أريد جمهوراً متعاطفاً مع كوني من فلسطين، فأنا لا أبحث عن تعاطف أو مساعدة، وأريد أن يتم تجريدي موسيقياً وفنياً من هويتي، ليتم الحكم على ما أقدمه استناداً إلى محتواه، لأن أصحاب القضية والحق في موقع قوة وليس العكس. لست ضحية ولا أفكر كضحية".
بالنسبة إلى نجم، من السهل الانجرار إلى أروقة التصنيف، خدمةً للكثير من الصور النمطية والتي في معظمها، أبعد ما تكون عما يقدم فنياً: "دُعيتُ مثلاً في مناسبتين للعزف في مهرجانات لمجرد كوني فلسطينياً، وتمت برمجة مجموعة إسرائيلية قبل فقرتي، ما اضطرني إلى إلغاء المشاركة في المناسبتين... افتخر بكوني لاجئاً من يافا، مواليد القدس، ومن قاطني بيت لحم لفترة طويلة من حياتي، لكن ذلك لا يعني أني محكوم بأن أصبح سلعة للمنظمين للمتاجرة بإسمي. قد يقلق المنظمون في بعض الأحيان من كوني فلسطينياً، لأن بعضهم يظن بأن تنظيم عرض لي قد يضعهم في خانة المتضامنين مع فلسطين، أو يلزمهم بشروط، ومنها أنه إذا ما دعي فلسطيني هذه السنة، يجب دعوة إسرائيلي في البرنامج نفسه أو في السنة التالية... بمعزل عن ذلك كله، أطرح فقط ما أشعر به وما في داخلي من أفكار لَحنية وإيقاعية".
موقع الضحية
وعن تأثير تلك المبادئ في الفرص التي يمكن أن يحظى بها وسهولة الانتشار، يقول نجم: "من المعروف أنه كلما زادت مبادؤك، قلّت الفرص، وكلما زاد الوعي أُغلق المزيد أبواب، ونعم للأسف، عصر الاستفادة من موقع الضحية موجود، وهناك أمثلة كثيرة موجودة، سواء في وضع الضحية أو التسلّق على اسم أشخاص والتجارة بسِيَرهم ونتاجهم. لكن المهم أن يكون الفنان راضياً عن عمله، فيما يبقى استخدام لقب الضحية، الطريق السهل للكسالى".
من الملفت في مسيرة محمد نجم، تلك الحركة من وإلى فلسطين وفرنسا، وعند سؤاله عن سبب العودة إلى فلسطين ثم فرنسا بعد الدراسة فيها، يقول: "العودة كانت بهدف إعطاء الشباب الفرصة التي حُرمتُ منها وهي أستاذ يتكلم لغتهم ويتفهّم ويفهم! أردت أن أعطيهم مثالاً على أن الموسيقى يمكن أن تشكل مهنة، لا هواية فقط. أما فرنسا فعدت إليها لأسباب عديدة، منها صعوبة إيجاد موسيقيين للعزف معهم ومساحة وأماكن جديدة للالتقاء بجمهور وإقامة عروض. محدودية الحركة في فلسطين بسب الحواجز والأحداث كان لها تأثير أيضاً في قرار العودة إلى فرنسا".
وعن تجربته كفنان في الشتات وما قد يؤسس الركيزة لكل فنان يطمح لإطلاق مسيرته في الخارج، يقول نجم: "إطلاق مسيرة الفنان يجب أن تكون في بلده الأم، لتكوين هويته الثقافية، ثم البناء عليها لطرح سؤال: ما هو الفرق في ما أقدّم. وما طموحاتي؟ في رأيي، العالمية فخ. وقد تحتاج تجربة الفنان في الشتات إلى إصرار وتحدٍ ومثابرة لإثبات الذات والحصول على اعتراف، لكن تبقى لتلك التجربة إيجابياتها كما تحدياتها، فمن جهة، مطلوب منك مضاعفة مجهودك لتعطي صورة مشرفة عن بلدك أو حتى في بعض الأحيان عن قوميتك! لكن في كثير من الأحيان، تثمر تلك جهود، إذ يفوق تقدير موهبتك بأشواط مدى تقديرك في بلد المنشأ لأسباب كثيرة".
الموسيقى البديلة
في الحديث عما ينقص الفنان في فلسطين، أو في العالم العربي عموماً لتقدر مسيرته في بلده كما في الخارج، يوضح نجم: "ينقصنا التركيز على ما نسميه اليوم الموسيقى البديلة والملتزمة. علينا التركيز على تعليم الجيل الجديد مهارة الاستماع كما تعريض الجمهور عموماً للموسيقى الآلتية. ينقصنا كذلك إنشاء بيت مستقل يضم فنانين من مختلف الأجيال، ويعطي الفرصة لمشاريع الجديدة، ومؤسسة تدعم الفنان مالياً ولوجستياً ومعنوياً… تنقصنا منصات بصرية وسمعية، وتنقصنا الحرية في تقديم محتوى غير مقيّد، ووزارة ثقافة تعتني بفنانيها بغض النظر عن توجههم السياسي. حبذا لو نفصل السياسة عن الفن، فالفنان ليس سياسياً!".
وفي غياب ذلك كله، قد تكون أشكال التعاون الفني من أهم الحركات البديلة، التي قد تعوّض غياب البنى التحتية الكفيلة بتحسين ظروف ممارسة مهنة الفن في عوالمنا، وتساعد الفنانين في مسيرتهم في المهجر، وهنا يعلق نجم: "تعاونت مع كثير من العازفين والموسيقيين والمغنين في الماضي، وما زلت أرى أنّ في العمل الجماعي فرصة ذهبية للتعرف على عوالم جديدة. من المهم خلق شبكة بين الفنانين وتواصل وخلق مشاريع مشتركة لإثراء المشهد الثقافي والفني".
يلخص نجم العلاقة الفنان مع وطن المنشأ وبلد الإقامة بالقول: "الفنان في المهجر كالشجرة، يعود إلى وطنه في كل عمل يقدمه وفي كل مرة يتنفس… الشتات هو سمّ وبلسم، يعذب الروح ينعش الذاكرة… ومع كل ذلك ما زلت أحلم بأن أعزف في يافا وحيفا والقدس وبيت لحم والوطن العربي".
للعودة إلى يافا، طبّق نجم مقولة "فن الممكن" في تأليف ألبوم "زهر يافا"، بدعم من مؤسسة عبد المحسن القطان وبمنحة من برنامج حراكات، وهو يحتوي على 12 مقطوعة موسيقية، ومنها "زهر يافا"، وذلك بالعودة إلى جدّه الذي كان قد هُجّر منها وأمضى حياته متمنياً العودة إليها: "أعدت بناءها بالموسيقى، من صور من مخيلتي ومن قصص جدي، هو الذي لم ينس رائحة زهر البرتقال ولا حاراتها حيث كان يلعب صغيراً. أردت أن أوثق هذا كله، أنا الذي بتّ أقطن يافا وأذكرها في مقطوعتي، عساي أحقق أمنية جدّي في أن يعود إليها... وإن غادرَنا. يافا، تلك مدينة التي لم أزرها وباتت تزهر في قلبي مذاك. يافا، التي تتخطى الجغرافيا، تلك المساحة الكونية التي يجتمع فيها الماضي والحاضر والمستقبل".
بالإضافة إلى جده إبراهيم، يهدي نجم، الألبوم، لأبيه خليل، ويخصص مقطوعة "إلى أبي" للتعبير عن مدى اشتياقه له وحزنه على فراقه. يصف نجم الألبوم على أنه محاولة لرسم الصور التي يحملها في ذاكرته، بعض القصص، ورحلة عبر عينيه، في عالمه الخاص المتجرّد من الحدود والهويات. وقد تكون مقطوعة "الطريق" خير دليل على تلك الروحية، والتي بحسب نجم، تمثل مزيجاً بين الأفكار والصور التي تخاطبنا وتلهينا بينما نأخذ طريقاً طويلاً. ***
تتكلم موسيقى رباعي محمد نجم بصوت الذاكرة. هي لتلك اللحظات التي، ولسببٍ ما، قلما نتمكن من فهمه أو تفسيره، نربط بها شيئاً من معاشنا وواقعنا بإحساسٍ ماضٍ: قد تكون لنسمةٍ باردةٍ وكيف لامست ذراعنا، نسمة كفيلة بإعادتنا إلى شرفة منزل الجدّة في "الضيعة" عند ساعة المغيب، بعد يومٍ كامل من اللعب مع الأصدقاء والتنقل بين أروقة بيوت القرميد التي تفوح منها رائحة منقوشة الزعتر الساخنة.
قد يكون لصوت أوراق الشجر في المدينة وانزلاق قطرات المطر بين أغصانها، صوتٌ يعيدنا إلى أول قصة حب، إلى التسلّل بالسيارة عند أول يومٍ ماطر من كل عام، لرؤية المدينة التي نكرهها وتكرهنا، والتي تتبدّل مشاعرنا تجاهها لمجرد تغير الفصول... ركن تلك السيارة المتآكلة في شارعٍ عبثي، حتى يتكدّس الضباب على النوافذ أمامنا ومن حولنا ونغفو على صوت المطر الطارق على الأسطح المسنّة.
هي له، "الطابق الرابع" (عنوان مقطوعة من ألبومه السابق)، ولكلٍ منا بعضٌ من رحلته، ورحيلٌ باكٍ، وقطع مسافاتٍ، وتغير أحوالٍ، وتخلٍ عن حياةٍ ألفناها، والدوران في حلقاتٍ بحثاً عن حياة، أقل ما يقال فيها أنها مضنية، منهكة ومثقلة بنغمٍ سريعٍ... هي أصواتٌ لحيوات رديفةٍ في بيوتٍ ليست لنا، مع عوالم لا تشبه ما كناه في صغرنا.
هي له، "الطابق الرابع"، وللبعض منا بحثٌ في علب الذاكرة، لأيامٍ كان صوتنا يعلو فيها ضاحكاً مع أبسط الرسوم المتحركة والقصص المصورة... هي للبعض منا أحلامٌ صغيرة وأسفارٌ ورحلات متخايلة ما عهدنا يوماً أننا سنقف عند ذكراها الذي أصبح واقعاً، ونبتسم لأنفسنا الصغيرة، التي ما زلنا نحتفظ بها في مكانٍ ما، ونظهرها بغير قصدٍ كلما عادت الموسيقى.