الحنين إلى ما لم يعد موجوداً
في كتابها "مستقبل النوستالجيا" تستكشف سفيتلانا بويم، أستاذة الأدب السلافي والمقارن بجامعة هارفرد، العلاقة بين اليوتوبيا والفن الهابط، الذاكرة والحداثة، بين الحنين للوطن والمرض في المنزل. وتستعرض تاريخ الحنين إلى الماضي كمرض وهو نوعان: "الحنين التصالحي" الذي يحتوي على عناصر تآمرية (ثمة من دمّر المكان)، و"الحنين التأملي" الذي يؤدي إلى الشعور بعدم القدرة على العودة إلى المنزل تسهب في وصف مدن ما بعد الشيوعية مثل موسكو وسان بطرسبورغ.
سفيتلانا بويم، مؤرخة بارعة تتبنى مقاربة عاطفية وشخصية لأبحاثها. الأجزاء الثلاثة تناقش مدن أوروبا الشرقية والأدب الروسي. كتاب طويل ومكثف يشرح تاريخ الشوق إلى المكان، انطلاقاً من أن الحنين يحدث عندما يكون المرء بعيداً من منزله وهو ما يلاحظ عند المهاجرين. إنه نوع من نسيان الماضي الحقيقي والتشبث بصورة مثالية عنه... ويعود أصل الكلمة Nostos (نوستالجيا) إلى الجذر اليوناني والذي يمكن العثور عليه في مواضيع الشعر الهوميري، سواء في الإلياذة أو بشكل أكثر وضوحاً في الأوديسة، إلى الحضارات القديمة: قصيدة ديان مهابارتا إلى ملحمة جلجامش والحكايات المصرية. هذا الحنين هو نوع من المشاعر الأساسية المثبتة، الشوق والألم معاً وشغف الروح العنيف. في الحروب كان آلاف الرجال يعانون الحنين السريري إلى الماضي.
في كتاب "مستقبل النوستالجيا"، وكذلك الأقسام الأخرى العرضية إلى حد ما، تتعامل الكاتبة مباشرة مع مسألة تحديد مكان الحنين إلى الماضي وتنظيره، إلى جانب فصول طويلة جداً سردت التاريخ الاجتماعي والثقافي لسان بطرسبورغ وموسكو وبرلين وبراغ. يذكرك أسلوب الكتاب بفلسفة والتر بنيامين، وكتب مثل "الزمن وفن العيش" لروبرت جرودين وشكلوفسكي، وحتى القليل من سيبالد، ثم تقوم في الأجزاء الأخيرة بتشريح أعمال فلاديمير نابوكوف وجوزيف برودسكي وغيرهما من الفنانين والكتاب الروس. من الفلسفة والتاريخ والأدب وتجربة الأفراد النازحين، تستكشف شبكة الذاكرة والأساطير التي تدعم توق الفرد إلى عوالم متلاشية. بين التفكير النقدي ورواية القصص بأمل فهم إيقاعات الشوق وإغراءاته وشراكه، وهي هنا لا تمنح حياة جديدة لفكرة قديمة وحسب بل تقدم عدداً من المصطلحات الأصلية التي يمكن استخدامها في وصف التجربة.
تشمل اهتمامات سفيتلانا بويم البحثية عموماً الأدب الروسي في القرن العشرين والدراسات الثقافية والأدبية. بعد حصولها على درجة البكالوريوس في اللغات الإسبانية وآدابها من معهد هيزرن التربوي في لينيغراد، كما كانت تسمى حينها، حاولت الهجرة إلى الولايات المتحدة، فقيل لها أنها إن فعلت ذلك فلن تتمكن من العودة وأنها لن ترى والديها مرة ثانية. بعد قضاء بعض الوقت في مخيم للاجئين في فيينا، وصلت إلى أميركا العام 1981. ُيحرم والداها من وظيفتهما ومن تأشيرات الخروج وسيعمل والدها في ما بعد كحارس ليلي.
من أعمالها: "الموت في علامات الاقتباس: الأساطير الثقافية للشاعر الحديث 1991"، "الأماكن المشتركة: أساطير الحياة اليومية في روسيا 1994"، "حرية أخرى : التاريخ البديل للفكرة 2010"، ورواية: "نينوشكا 2003 "، ومسرحية: "المرأة التي أطلقت النار على لينين 2005".
غرفة ونصف: جوزيف برودسكي والمنفى
أصبح جوزيف برودسكي منفياً، ولن يستطيع العودة إلى روسيا بشكل نهائي. الآن في مدينته الأصلية وفي منزل آنا أخماتوفا بالتحديد، تُعرض أشياء تخصه، تذكارات لمنزله المتلاشي. خلال المحاكمة الشهيرة سأله القاضي مراراً وتكراراً من عيّينه ليكون شاعراً، فأجاب: لا أحد. لو حدثت هذه المحاكمة في عهد ستالين لم يكن لينجو بالتأكيد، لكن في العام 1964 وبفضل الاحتجاجات التي سُمح بها لعدد من الكتاب والفنانين الروس والأجانب تمّ إرسال برودوسكي إلى قرية نورينسكوي النائية في أقصى الشمال. في العام 1972 أُجبر على مغادرة الإتحاد السوفياتي إلى الأبد، ليصبح شهيد جيل السبعينيات المأسوي، والذي سيحدد مصيره الشعري والحياتي أيضاً في ما بعد. ينتهي به الأمر في أرض الديموقراطية مع مشكلة وحيدة ألا وهي أن هذه الديموقراطية لا تضع للشعر قيمة. من هنا حافظ برودسكي على بنية الشعر التقليدي وإثارة الذاكرة الثقافية والماضي، ما أثار حفيظة زملائه الشعراء الأميركيين والروس الذين اعتقدوا أنه شاعر محافظ، من جهة أخرى لامس الفردية الديموقراطية التي تمارس في العزلة المميتة.
في أحد متاحف سانت بطرسبورغ، غرفة فسيحة مع صورة معلقة على الحائط للشاعر وهو ينظر بحزن إلى الآفاق الأجنبية وتبدو نيويورك في الخلفية. كتب قديمة الطراز، هدايا تذكارية، قواميس ضخمة روسية – إنكليزية، مجلدات ت.إس.إليوت، مع صور لأودن وأخماتوفا ووالديه. بطاقات بريدية من البندقية وتمثال نصفي لبوشكين وآخر من البرونز لسفينة قديمة، حامل شموع على طاولة: فوق هذا الضريح الرمزي تتبعثر بعض زجاجات الكحول، ساعة رخامية وبعض الهدايا التذكارية إلى الشيء الهش الذي ستشعر به لو قمت بسحب كتاب أو كتابين من الرف لربما انهار الصرح بأكمله.
شاعر مثله لا يحتاج إلى كتابة سيرة ذاتية، إذ يكفي ببساطة سرد الكتب التي قرأها. حيث تبدو خزانة الكتب مثل موقد، إضافة إلى ذلك كان لها وظيفة إضافية إذ ساعدت الشاعر على فصل نفسه عن والديه اللذين كان يتقاسم معهما الشقة: أصبح رف الكتب حاجزاً يجعله يمتلك حيزاً ضيقاً يفصله عن الغرف الأخرى، مكّنه من الحصول على نصف غرفة خاصة به، أصبحت على حدّ تعبيره مجاله الحيوي القابل للتوسع فعلياً، مساحة من المغامرة الجمالية والإثارة، هذه الأمتار المربعة القليلة سيتذكرها باعتزاز.
كان معظم سكان لينينغراد الذين من جيل برودوسكي يحلمون بالسفر إلى الخارج.
يأخذ الحنين شكل متاهة تتكون من العديد من المدن المرئية وغير المرئية بما في ذلك المدينة الأصلية، على عكس نابوكوف، فإن برودسكي لديه القليل من الحنين إلى طفولته، فهو يجمع بين أسطورتي الرومانسية العائلية، تتعارض كل منهما مع الأخرى: أوديسيوس وأوديب، فبدلاً من الهوس بفكرة العودة، يعيد تمثيل طقوس الهروب من المنزل مع الاحتفاظ بالماضي في ذاكرة بعيدة دون أن يكونا وجهاً لوجه. فالشاعر عندما ينظر إلى الوراء فهو لا يرى الوطن الذي يقيم وراء البحار، بل يرى فقط سلسلة من المنفيين. المنزل هدف متحرك، وغالباً ما يظهر كصورة معكوسة.
فكرة "الدولة الأجنبية" و"الغرب" هي من المنتجات السوفياتية المصنوعة للإستهلاك المحلي، مع ذلك لم يكن برودسكي الغربي سعيداً في الغرب، ويتذكر أنه اتصل بوالديه أوائل الثمانينيات مع علمه أنه تمّ التنصت على المحادثات.
بدأ في كتابة سيرته الذاتية باللغة الإنكليزية والتي مكّنته على نحو متناقض من التحدث بشكل مباشر عن المكان الأميركي.
يأخذ برودسكي الحريات مع الأساطير المألوفة، بالنسبة إليه أوديسيوس وأوديب ليسا متباعدين، فخطر العمى والموت يلاحقهما، وفي نسخة قديمة قُتل أوديسيوس حين عاد إلى المنزل قُتل على يد الابن، لتتحول الرومانسية العائلية بأكملها إلى مأساة.
يُعتبر برودسكي قارئاً مخلصاً للقواميس فيصف سانت بطرسبورغ على أنها مدينة أجنبية، تحمل تماثيلها وواجهات الجص المتصدع بصمات الحضارة العالمية التي شققتها قذائف المدفعية أثناء القصف النازي، واللغة الشعرية الروسية في رأيه هي أداة تذكارية للبقاء على قيد الحياة، وحنينه هذا ليس فقط للتقاليد الشعرية، بل لطرق القراءة والعيش في الثقافة ولأصدقائه في لينيغراد، مجتمع غريب الأطوار من "المنفيين الروحيين" الذين يعبدون حضارة خيالية. يحب أن يبدأ جملته التي تشير إلى "شخص" ما، والذي يقصده لغة سوفياتية مشتركة بالإضافة إلى كونها سمة من سمات اللغة الإنكليزية القديمة التي يمكن للمرء أن يتعلمها في القواميس الروسية. هذا النوع من التركيب ينقل التوتر بين الشخصي وغير الشخصي في وصف طفولته، إذ في هذه الاهتزازات الضمنية تكمن الفروق الدقيقة في حنينه، فلغة برودسكي الإنكليزية فيها القليل من الحنين إلى اللغة الروسية، ويصرّ على أن ما يدفعه ليس الحنين إلى البلد القديم، لكن محاولة زيارة عوالم والديه، وهو يفعل ذلك من خلال إعادة تمثيل طقوسهم الروتينية. وتحويل صورهما إلى استعارات خاصة به.
في السنوات الأولى من حياته في أميركا سيتمكن برودسكي من تحويل الكتابة إلى وسيلة لتسكين الألم، وتحديداً أثناء قراءة قصائده الأميركية المبكرة، لا يفهم المرء أين استقر المهاجرون: "اترك عصا المشي تسقط من يدك المرهفة، أنت في الإمبراطورية، يا صديقي".
هذه الإمبراطورية هي الاستعارة المركزية خاصته وتشمل الإمبراطوريات المعاصرة والتاريخية: الهيلينية، والرومانية، والعثمانية، والبيزنطية. وكلها تحتوي على عناصر من بيته الأول وبيته الثاني: منزله الشعري والمنزل الاستبدادي الذي هرب منه.
كما يمحو التمييز بين السجن والحرية، بين مكان الولادة والبلد المتبنى، فالمرء برأيه دائماً ما يكون مسجوناً ومنفياً داخل نفسه. تصالح مع فكرة الفقدان، فالرهانات الشخصية للفرد موجودة في أماكن عديدة، في اللحظة ذاتها.
مات أثناء نومه في شقته في نيويورك من دون أن يترك وصية.
سفيتلانا بويم، مؤرخة بارعة تتبنى مقاربة عاطفية وشخصية لأبحاثها. الأجزاء الثلاثة تناقش مدن أوروبا الشرقية والأدب الروسي. كتاب طويل ومكثف يشرح تاريخ الشوق إلى المكان، انطلاقاً من أن الحنين يحدث عندما يكون المرء بعيداً من منزله وهو ما يلاحظ عند المهاجرين. إنه نوع من نسيان الماضي الحقيقي والتشبث بصورة مثالية عنه... ويعود أصل الكلمة Nostos (نوستالجيا) إلى الجذر اليوناني والذي يمكن العثور عليه في مواضيع الشعر الهوميري، سواء في الإلياذة أو بشكل أكثر وضوحاً في الأوديسة، إلى الحضارات القديمة: قصيدة ديان مهابارتا إلى ملحمة جلجامش والحكايات المصرية. هذا الحنين هو نوع من المشاعر الأساسية المثبتة، الشوق والألم معاً وشغف الروح العنيف. في الحروب كان آلاف الرجال يعانون الحنين السريري إلى الماضي.
في كتاب "مستقبل النوستالجيا"، وكذلك الأقسام الأخرى العرضية إلى حد ما، تتعامل الكاتبة مباشرة مع مسألة تحديد مكان الحنين إلى الماضي وتنظيره، إلى جانب فصول طويلة جداً سردت التاريخ الاجتماعي والثقافي لسان بطرسبورغ وموسكو وبرلين وبراغ. يذكرك أسلوب الكتاب بفلسفة والتر بنيامين، وكتب مثل "الزمن وفن العيش" لروبرت جرودين وشكلوفسكي، وحتى القليل من سيبالد، ثم تقوم في الأجزاء الأخيرة بتشريح أعمال فلاديمير نابوكوف وجوزيف برودسكي وغيرهما من الفنانين والكتاب الروس. من الفلسفة والتاريخ والأدب وتجربة الأفراد النازحين، تستكشف شبكة الذاكرة والأساطير التي تدعم توق الفرد إلى عوالم متلاشية. بين التفكير النقدي ورواية القصص بأمل فهم إيقاعات الشوق وإغراءاته وشراكه، وهي هنا لا تمنح حياة جديدة لفكرة قديمة وحسب بل تقدم عدداً من المصطلحات الأصلية التي يمكن استخدامها في وصف التجربة.
تشمل اهتمامات سفيتلانا بويم البحثية عموماً الأدب الروسي في القرن العشرين والدراسات الثقافية والأدبية. بعد حصولها على درجة البكالوريوس في اللغات الإسبانية وآدابها من معهد هيزرن التربوي في لينيغراد، كما كانت تسمى حينها، حاولت الهجرة إلى الولايات المتحدة، فقيل لها أنها إن فعلت ذلك فلن تتمكن من العودة وأنها لن ترى والديها مرة ثانية. بعد قضاء بعض الوقت في مخيم للاجئين في فيينا، وصلت إلى أميركا العام 1981. ُيحرم والداها من وظيفتهما ومن تأشيرات الخروج وسيعمل والدها في ما بعد كحارس ليلي.
من أعمالها: "الموت في علامات الاقتباس: الأساطير الثقافية للشاعر الحديث 1991"، "الأماكن المشتركة: أساطير الحياة اليومية في روسيا 1994"، "حرية أخرى : التاريخ البديل للفكرة 2010"، ورواية: "نينوشكا 2003 "، ومسرحية: "المرأة التي أطلقت النار على لينين 2005".
غرفة ونصف: جوزيف برودسكي والمنفى
أصبح جوزيف برودسكي منفياً، ولن يستطيع العودة إلى روسيا بشكل نهائي. الآن في مدينته الأصلية وفي منزل آنا أخماتوفا بالتحديد، تُعرض أشياء تخصه، تذكارات لمنزله المتلاشي. خلال المحاكمة الشهيرة سأله القاضي مراراً وتكراراً من عيّينه ليكون شاعراً، فأجاب: لا أحد. لو حدثت هذه المحاكمة في عهد ستالين لم يكن لينجو بالتأكيد، لكن في العام 1964 وبفضل الاحتجاجات التي سُمح بها لعدد من الكتاب والفنانين الروس والأجانب تمّ إرسال برودوسكي إلى قرية نورينسكوي النائية في أقصى الشمال. في العام 1972 أُجبر على مغادرة الإتحاد السوفياتي إلى الأبد، ليصبح شهيد جيل السبعينيات المأسوي، والذي سيحدد مصيره الشعري والحياتي أيضاً في ما بعد. ينتهي به الأمر في أرض الديموقراطية مع مشكلة وحيدة ألا وهي أن هذه الديموقراطية لا تضع للشعر قيمة. من هنا حافظ برودسكي على بنية الشعر التقليدي وإثارة الذاكرة الثقافية والماضي، ما أثار حفيظة زملائه الشعراء الأميركيين والروس الذين اعتقدوا أنه شاعر محافظ، من جهة أخرى لامس الفردية الديموقراطية التي تمارس في العزلة المميتة.
في أحد متاحف سانت بطرسبورغ، غرفة فسيحة مع صورة معلقة على الحائط للشاعر وهو ينظر بحزن إلى الآفاق الأجنبية وتبدو نيويورك في الخلفية. كتب قديمة الطراز، هدايا تذكارية، قواميس ضخمة روسية – إنكليزية، مجلدات ت.إس.إليوت، مع صور لأودن وأخماتوفا ووالديه. بطاقات بريدية من البندقية وتمثال نصفي لبوشكين وآخر من البرونز لسفينة قديمة، حامل شموع على طاولة: فوق هذا الضريح الرمزي تتبعثر بعض زجاجات الكحول، ساعة رخامية وبعض الهدايا التذكارية إلى الشيء الهش الذي ستشعر به لو قمت بسحب كتاب أو كتابين من الرف لربما انهار الصرح بأكمله.
شاعر مثله لا يحتاج إلى كتابة سيرة ذاتية، إذ يكفي ببساطة سرد الكتب التي قرأها. حيث تبدو خزانة الكتب مثل موقد، إضافة إلى ذلك كان لها وظيفة إضافية إذ ساعدت الشاعر على فصل نفسه عن والديه اللذين كان يتقاسم معهما الشقة: أصبح رف الكتب حاجزاً يجعله يمتلك حيزاً ضيقاً يفصله عن الغرف الأخرى، مكّنه من الحصول على نصف غرفة خاصة به، أصبحت على حدّ تعبيره مجاله الحيوي القابل للتوسع فعلياً، مساحة من المغامرة الجمالية والإثارة، هذه الأمتار المربعة القليلة سيتذكرها باعتزاز.
كان معظم سكان لينينغراد الذين من جيل برودوسكي يحلمون بالسفر إلى الخارج.
يأخذ الحنين شكل متاهة تتكون من العديد من المدن المرئية وغير المرئية بما في ذلك المدينة الأصلية، على عكس نابوكوف، فإن برودسكي لديه القليل من الحنين إلى طفولته، فهو يجمع بين أسطورتي الرومانسية العائلية، تتعارض كل منهما مع الأخرى: أوديسيوس وأوديب، فبدلاً من الهوس بفكرة العودة، يعيد تمثيل طقوس الهروب من المنزل مع الاحتفاظ بالماضي في ذاكرة بعيدة دون أن يكونا وجهاً لوجه. فالشاعر عندما ينظر إلى الوراء فهو لا يرى الوطن الذي يقيم وراء البحار، بل يرى فقط سلسلة من المنفيين. المنزل هدف متحرك، وغالباً ما يظهر كصورة معكوسة.
فكرة "الدولة الأجنبية" و"الغرب" هي من المنتجات السوفياتية المصنوعة للإستهلاك المحلي، مع ذلك لم يكن برودسكي الغربي سعيداً في الغرب، ويتذكر أنه اتصل بوالديه أوائل الثمانينيات مع علمه أنه تمّ التنصت على المحادثات.
بدأ في كتابة سيرته الذاتية باللغة الإنكليزية والتي مكّنته على نحو متناقض من التحدث بشكل مباشر عن المكان الأميركي.
يأخذ برودسكي الحريات مع الأساطير المألوفة، بالنسبة إليه أوديسيوس وأوديب ليسا متباعدين، فخطر العمى والموت يلاحقهما، وفي نسخة قديمة قُتل أوديسيوس حين عاد إلى المنزل قُتل على يد الابن، لتتحول الرومانسية العائلية بأكملها إلى مأساة.
يُعتبر برودسكي قارئاً مخلصاً للقواميس فيصف سانت بطرسبورغ على أنها مدينة أجنبية، تحمل تماثيلها وواجهات الجص المتصدع بصمات الحضارة العالمية التي شققتها قذائف المدفعية أثناء القصف النازي، واللغة الشعرية الروسية في رأيه هي أداة تذكارية للبقاء على قيد الحياة، وحنينه هذا ليس فقط للتقاليد الشعرية، بل لطرق القراءة والعيش في الثقافة ولأصدقائه في لينيغراد، مجتمع غريب الأطوار من "المنفيين الروحيين" الذين يعبدون حضارة خيالية. يحب أن يبدأ جملته التي تشير إلى "شخص" ما، والذي يقصده لغة سوفياتية مشتركة بالإضافة إلى كونها سمة من سمات اللغة الإنكليزية القديمة التي يمكن للمرء أن يتعلمها في القواميس الروسية. هذا النوع من التركيب ينقل التوتر بين الشخصي وغير الشخصي في وصف طفولته، إذ في هذه الاهتزازات الضمنية تكمن الفروق الدقيقة في حنينه، فلغة برودسكي الإنكليزية فيها القليل من الحنين إلى اللغة الروسية، ويصرّ على أن ما يدفعه ليس الحنين إلى البلد القديم، لكن محاولة زيارة عوالم والديه، وهو يفعل ذلك من خلال إعادة تمثيل طقوسهم الروتينية. وتحويل صورهما إلى استعارات خاصة به.
في السنوات الأولى من حياته في أميركا سيتمكن برودسكي من تحويل الكتابة إلى وسيلة لتسكين الألم، وتحديداً أثناء قراءة قصائده الأميركية المبكرة، لا يفهم المرء أين استقر المهاجرون: "اترك عصا المشي تسقط من يدك المرهفة، أنت في الإمبراطورية، يا صديقي".
هذه الإمبراطورية هي الاستعارة المركزية خاصته وتشمل الإمبراطوريات المعاصرة والتاريخية: الهيلينية، والرومانية، والعثمانية، والبيزنطية. وكلها تحتوي على عناصر من بيته الأول وبيته الثاني: منزله الشعري والمنزل الاستبدادي الذي هرب منه.
كما يمحو التمييز بين السجن والحرية، بين مكان الولادة والبلد المتبنى، فالمرء برأيه دائماً ما يكون مسجوناً ومنفياً داخل نفسه. تصالح مع فكرة الفقدان، فالرهانات الشخصية للفرد موجودة في أماكن عديدة، في اللحظة ذاتها.
مات أثناء نومه في شقته في نيويورك من دون أن يترك وصية.