الزلزال وبراميل الأسد.. حكمة السوري في الصمت
- "ما هو عظيم، هو أن تكون روحك بين شفتيك مستعدة للرحيل، وبذلك نكون أحراراً ليس باسم وحق المواطنة ولكن باسم وحق الطبيعة" (سنيكا).
شيء من تاريخ السلطة هو إضفاء وعي للفرد المحكوم على تربية وتهذيب نفسه ليعيش بشكلٍ ما. في الواقع السوري، تبدأ درجات التهذيب النفسي والكياني من تحمل كل شيء، بدءاً من البرد، انتهاء بالجوع وبصمت مطبق وذلّ فريد. ويتحمل السوري بالطبع، متكيفاً مع هالة من الرعب والهوس المخيالي الجسدي لعواقب التمرّد أو الرفض. هذا الخوف يحتل لغتنا اليومية كسوريين.
شيء من السلطة السورية نظم الذات والشخص بوصفه أمام طبيعة قدرية، شيء لا يكون فيه البشر متحكمون بواقعهم وتصرفاتهم وقراراتهم. هناك دس (numinos) بمعنى القدسي أو القدري أو الإلهي في فهم النظام السوري والتعايش معه. قدرية النظام وقدسيته جراء استحالة التمرّد عليه أو تغييره، كانت بديلاً عن الإلهي في شقه الطبيعي الفطري – الأديان الثلاثة - المتعارف عليه منذ الأساطير الناظمة للعلاقات وصولاً للأديان. يأخذ النظام دوراً إحيائياً مقدساً في قوته الرمزية، مُحولاً المؤمن البسيط المتدين، أو حتى عالم الاجتماع والسياسي، إلى إزاحة قدرية النظام لعدم الاعتراف بقدسيته نحو الإله الكُلي، إله الأديان، إله السموات والأرض والذي من الممكن تقبل قراراته وإجراءاته، أما قدسية النظام السوري وعسفه فذات منشأ إلهي، ووجوده حاكماً علينا كابتلاء هو انخلاع أنفسنا وابتعادنا عن الله. والله وحده هو من يزيل هذا المصنوع.
السوريون في فهمهم للحياة يميلون لرجاء الإله ليحسن أوضاعهم دون أي أحدٍ سواه، لتجاوز القدر الذي يجسّده النظام عنوة ونقضاً له، أو يدعون الله لإبراز عدالته على النظام لرفضهم أن يكون مقدس النظام مقدساً أيضاً ويحلُ الله العادل بدلاً من حكم النظام، وقسم يتفرج على السوريين وهم يلومون ذواتهم لما فعلوه مع الإله ليصيبهم بهذا الجوع أو البرد والفقر والذل (الابتلاء)، وقسم واقعي وعقلاني يبدو كئيباً وحائراً أمام كل شيء ويتفرج على الجميع.
براميل
كان الزلزال أشد وأكثر رعباً من كل ما يستطيع النظام فعله، ودرجات انفجار الناس وخوفهم تجسدت برعب من الإلهوي، رعب حقيقي، النظام يستطيع فعل كل شيء بتفتيت البشر وتجويعهم، لكنه لا يهز الأرض تحتهم، أقله الآن، من دون صواريخه وبراميله. انقسم المرعوبون السوريون، إما ميلاً لرجاء الرب، أو ميلاً للوم النظام، أو لوماً للعقل الديني بحد ذاته.
كانت الخاتمة التي يتلقاها السوري الذليل والفقير، بالزلزال، تنافساً قدسياً بين الإلهي القدري الزلزالي، وبين إلهي النظام المقدس بالعنف والدم والرعب والبرد والجوع. غالبية السوريين ترفض القدسي العائد للنظام بجعل الإله الصامت سيداً عليه، وأن الله يحتاج الشيطان المُتمثل في النظام لتسود الحقيقة في نهاية المطاف.
براميل
كان الزلزال أشد وأكثر رعباً من كل ما يستطيع النظام فعله، ودرجات انفجار الناس وخوفهم تجسدت برعب من الإلهوي، رعب حقيقي، النظام يستطيع فعل كل شيء بتفتيت البشر وتجويعهم، لكنه لا يهز الأرض تحتهم، أقله الآن، من دون صواريخه وبراميله. انقسم المرعوبون السوريون، إما ميلاً لرجاء الرب، أو ميلاً للوم النظام، أو لوماً للعقل الديني بحد ذاته.
كانت الخاتمة التي يتلقاها السوري الذليل والفقير، بالزلزال، تنافساً قدسياً بين الإلهي القدري الزلزالي، وبين إلهي النظام المقدس بالعنف والدم والرعب والبرد والجوع. غالبية السوريين ترفض القدسي العائد للنظام بجعل الإله الصامت سيداً عليه، وأن الله يحتاج الشيطان المُتمثل في النظام لتسود الحقيقة في نهاية المطاف.
ولأن مازوشية نشطة تعلقت بالسوريين في تجاربهم الذُلية المتكرّرة، كان تسليم المقدس الإلهي الحق في الغضب، أكثر الإشارات ظهوراً، غالبية السوريين دعت الإله لرحمتهم من زلزاله الحكيم، واندفعت آلاف الصور والصلوات الزلزالية عبر الصفحات الاجتماعية. للمرة الأولى يتعرض الوازع الديني لهذا التعارض والإشكال، خصوصاً لدى استخدام البعض مصطلح الابتلاء العادل، هوس ما في فهم فجاعة ما يحصل بوصفه حكمة ربانية يوقدها ويُطفئها هو لحكمة يجري التفكير فيها وتأملها أثناء الجلوس في البيت أو النوم.
سرد وسجال من هذا يبدو قديماً ومعتاداً في العقل السوري منذ بداية الثورة. في أحد أهم أزماتهم وفواجعهم على مستوى الموت والدمار والقتل، مال السوريون لتبرير موتهم بأن الله هو ما يصنع لنا أحوالنا، كتوازٍ مع البهيمة، أو الحياة الحيوانية كنفورٍ من الامتياز الطبيعي للإنسان – المُعطى إليهاً - في اختيار حياته وتسويتها او السيطرة عليها.
قرابين
قرابين
لا تملك الذات السورية إلا ركوباً على تراجيديا ما، قروسطية لائمة للنفس، وكأن كل ما يحصل غواية إلهية للتناقض مع الشيطان الذي يداخلنا ويسيطر علينا، ومردّ كل هذا الألم لإعادة النفس لعلاقتها مع الله دون البشر، دون العقل الذاتي الأثري التعاوني. شيء من هذا أخذ موضع الشماتة بالنفس مازوشياً. "الموتى في الزلزال قرابين لكي نتعلم"، "أرانا الله كم نحن لا شيء أمامه"... "شو عاملين يا رب".. لقد انتصر الإله الكُلي علينا، أرانا ما نحن فيه من ضعف، وكأن الله يتنافس جدياً مع نظام يحكمنا، ومن ثم علينا الصلاة له وتقبّل هذا ونقض أنفسنا ليقينا من زلزال آخر. لقد اعترف لنا الرب في الزلزال بقدرته على الانتصار على الأسد، وفي تفسير أفضل، الله انتصر على الجميع نحن والنظام في هامش القوة والاستباحة.
يشاع أيضاً في هذا تنمر علماني أصيل، شماتة أيضاً في المضمون الوحيد القادرة عليه الذات الإنسانية حينما يحدث الزلزال، مقارنات هزلية، وكثير من التندر الساخر والسخيف على صلوات الناس وآمالهم في مناجاة الرب رغم عدم معقوليتها وسذاجة طرحها عبر الصف. درجات من استخدام الذات كوضع الصلوات الجاهزة لكل زلزال أو فاجعة وتخصيص قديس لكل حادثة أو دعاء خاص لها. مقولات دينية عن الزلزال، جُلها استخدمتها الكتب السماوية للدلالة على قدرة الرب وعوز البشر، لا مراعاة قولية نحو الرب من أجل البشر.
مرضٌ ما، أو يبدو أنه دفع لمقولة أصيلة داخل النفس الإنسانية في تحويل مخاوفها لمناجاة وتطريزها فنياً والدفاع عنها. حتى كارل يونغ بذاته يُشير إلى أصالة الشعورية الربانية لدى البشر ويدعونا لعدم محوها بالاتصال بالإلهي والأسطوري لأن الإله البديل لها هو إله صنمي آخر.
"ارحم يا رب" هي أكثر الجملة استخداماً وتوقاً لاندفاع البشر قيمياً رغم محدوديتهم لتحصين أنفسهم وأمام الزلزال لم تكن الضدية مع قائليها سوى فزلكة ساذجة ولا تساوي أبداً مرحلة فكرية أو سياقاً تحليلاً. رحلة القيمة في سلوك السوريين تحمل مبالغة دوماً، بين طبيعة لاهوتية صرفة مازوشية، أو طبيعة غير عقلانية ولا علمانية محورها نقض ضحايا بسطاء باسم التفكير الديني المعقلن، أو العلمانية الصرفة.
وصولاً للزلزال، كان النظام السوري بريئاً من قدر السوريين الذي منحها الله لهُ، الآن يتوق السوري مرة أخرى إلى معرفة السر الإلهي وهو يمضي في بساطته وبجعل ذاته ضحية السر الإلهي دوماً. الأكثر سلباً في هذا نقاشات العتمة والموت والدم والنسيان، كل ما استكان له السوري. لم يعد كافياً الزلزال بداية جديدة لتكيف الذات السورية على الذل وهي في أكثر مراحلها جهلاً.