يورغن هابرماس: سقطة الفيلسوف
قبل بضعة أيّام، أطلق الفيلسوف الألمانيّ يورغن هابرماس موقفاً مكتوباً ممّا يحصل في فلسطين وإسرائيل بعنوان «مبادئ التضامن». وقد وقّع النصّ، بالإضافة إليه، كلّ من الاختصاصيّة في العلوم السياسيّة نيكول دايتلهوف والحقوقيّ كلاوس غونتر والفيلسوف راينر فورست. حين تبنّى هابرماس هذا الموقف، يبدو أنّه سها عنه أنّ محمول نصّ من النصوص لا يقاس بما يقوله النصّ فحسب، بل بما لا يقوله أيضاً.
ومن ثمّ، فإنّ المشكلة الأبرز في موقف هابرماس وصحبه، الذي صيغ بكثير من الإيجاز، هي أنّه يتجاهل أنّ الصراع الفلسطينيّ-الإسرائيليّ لم يبدأ يوم السابع من أكتوبر من العام ٢٠٢٣. جوهر هذا الصراع هو أنّ ثمّة شعباً يتعرّض للحصار والاضطهاد والتشريد الممنهج منذ عقود، أي لعمليّة عنف بنيويّة تراكميّة تصبح معها ردود الفعل العنفيّة شيئاً يصعب تفاديه، حتّى إنّه من السذاجة الاعتبار أنّه لن يحصل. بكلمات المخرج اليهوديّ المقيم في فرنسا ناداف لابيد: لا يمكن مطالبة الغزاويّين بأن يروا في الإسرائيليّين أبرياء، لا جلاّدين، إذا لم تُتَح لهم الفرصة أن يروا «الجمال» في غزّة أوّلاً. يستطيع هابرماس أن يتضامن مع دولة إسرائيل وحقّها في الوجود ما طاب له ذلك. لكن من غير المسموح به إنسانيّاً، وفلسفيّاً طبعاً، أن يعزل الأحداث عن سياقاتها، أو أن يتعاطى معها كأنّ لا سياق لها. أخذُ هذا السياق في الحسبان لا يبرّر، بطبيعة الحال، قتل المدنيّين في إسرائيل. والفيلسوف يعرف جيّداً أنّ الفهم شيء والتبرير شيء آخر. غير أنّ هذا الأخذ يتيح لنا أن نعتصم، على نحو أفضل، بأحد المبادئ التي يطالب بها الفيلسوف نفسه في نصّه، أي التناسب. لكنّ التناسب الذي يعنينا هنا ليس ذاك المرتبط بحجم الردّ العنفيّ، والذي يومئ إليه النصّ من دون أن يدين صراحةً الجرائم الإسرائيليّة التي فاقت بأضعاف ما قامت به حركة «حماس»، بل هو التناسب في قراءة الأحداث وتأويلها عبر وضعها في سياقاتها الحقيقيّة.
هذا الابتعاد عن إنزال الأشياء في منزلها السياقيّ بالنسبة إلى المأساة الفلسطينيّة يقابله في النصّ إفراط في التركيز على السياق بالنسبة إلى المجتمع الألمانيّ، ما يجعل موقف الفيلسوف يقع في عدم توازن فاضح. طبعاً، ليس مطلوباً من هابرماس وزملائه أن يتجاهلوا سياق المجتمع الألمانيّ الذي يتوجّهون إليه. غير أنّ المطلوب منهم أن يفقهوا، وأن يفقّهوا هذا المجتمع، أنّ القضيّة إنسانيّة وأخلاقيّة بالدرجة الأولى، وهي تتخطّى متلازمة الذنب الحاضرة في ألمانيا بفعل المحرقة اليهوديّة. من الغريب أنّ نصّ السيّد هابرماس ينساق إلى الاختزال بالنسبة إلى القضيّة الفلسطينيّة كأنّ لا ماضي لها ولا حكاية، فيما لا يوفّر ذكر الهولوكست بوصفه أحد العناصر التي ترخي بظلالها على الثقافة السياسيّة في ألمانيا. لذا، يسقط النصّ الهابرماسيّ في فخّ اقتطاع الذاكرة عبر الاكتفاء بأن يختار منها ما يتناسب مع سرديّته، وكأنّه يحقّ لهذه السرديّة أن تحتكر «الخطاب» عبر تهميش السرديّات الأخرى.
أمّا الفشل الأخير للنصّ الذي نحن في صدده، فهو سعيه إلى أن ينزع عمّا يجري في فلسطين صفة الإبادة الجماعيّة لشعب برمّته (genocide). المسألة خلافيّة طبعاً. وهي ترتبط بكيفيّة تحديد هذا المصطلح الذي يُطلق في العادة على المذبحة اليهوديّة والمذبحة الأرمنيّة، على سبيل المثال لا الحصر. المشكلة ليست هنا، بل تكمن في أنّ النصّ يقع مجدّداً في فخّ ما لا يقوله. وهذا الذي لا يقوله هو أنّ ما يرتكبه جيش «الدفاع» الإسرائيليّ في غزّة هو بمنزلة جريمة حرب موصوفة حتّى لو لم يكن إبادةً جماعيّة، وهذا يكفي لإدانته، وذلك لا بشهادة الفلسطينيّين، بل باعتراف المنظّمات الدوليّة ذات الباع الطويل. لعلّ النصّ الهابرماسيّ، في سعيه إلى نفي صفة الإبادة عمّا يجري في غزّة، يهدف إلى تفكيك المقارنة التي يقوم بها بعضهم بين المذبحة اليهوديّة والجرائم الإسرائيليّة في فلسطين. لكنّه يغفل عن أنّ الأدبيّات الإسرائيليّة هي أوّل من قام بعمليّة الربط بين الهولوكست وما جرى يوم السابع من أكتوبر. فإذا كان لا بدّ من فكّ للارتباط، فإنّه يجب أن يشمل الطرفين معاً. بكلمات أخرى: إذا كان ما تقوم به إسرائيل ليس إبادةً جماعيّةً للشعب الفلسطينيّ، فإنّ ما قامت به حركة «حماس» ليس استعادةً لمنطق المذبحة اليهوديّة.
لقد اقتضى توضيح هذه الأشياء استناداً إلى العقل وإلى منطق العقل، الذي هو عماد الفلسفة. لكنّ الإغريق، عمالقة الفلسفة، يذكّروننا دوماً بأنّ الجهد العقليّ، مهما كان سامياً، يخسر صدقيّته إذا لم يكن في خدمة الفضيلة. بعبارات أخرى: الفكر الفلسفيّ يسقط إذا خسر مرجعيّته الإنسانيّة والأخلاقيّة. ومعه يسقط الفيلسوف مهما كان ذائع الصيت.