"الحياة في ضوئك" لعبدالله طايع... رواية أوجاع الولادة
ليست رواية "الحياة في ضوئك" لعبدالله الطايع، سهلة. ليس بسبب اسلوبها، إنما بسبب قصتها التي تدور حول ماليكا، أُمّ الكاتب نفسه. إذ إن هذه القصة هي قصة نجاة مستمرة، والحديث عن نجاة هنا يعني الحديث عن قسوة، أو بالأحرى عما نسميه شظف العيش الذي كانت البطلة، ماليكا، قد تعرضت له. فهي ولدت في بلدة من بلدات الريف المغربي، داخل عائلة فقيرة للغاية، تزوجت من علال، الذي ذهب ليحارب في صفوف الجيش الفرنسي على جبهات الهند الصينية، لكنه لم يعد.
بعد حزن طويل عليه، التقت ماليكا بمحمد الذي اقترنت به، منجبة عدداً من الأولاد. سكنت وإياهم في الرباط. وإن كان الظرف الاجتماعي-الاقتصادي في الريف صعباً عليها، فهو، قد صار في المدينة شديداً، إذ إنها وأسرتها لامست ما يشبه البؤس. قصة ماليكا هي قصة هذا البؤس، مثلما أنها قصة تدبيرها له. بالطبع، لا يمكن قياس هذا التدبير على أساس النجاح والفشل. بل لا بدّ من تقريبه من كونه رتقاً لثوب ممزق، يدعى العيش. تبرع ماليكا في هذا الرتق، لكن المشكلة أن الثوب نفسه يشتمل على تمزقات عديدة.
فعلياً، وبالاستناد إلى استعارة الرتق هذه، يمكن القول إن الطايع نفسه، وعلى نحو أمّه ماليكا، يرتق نصه عنها أيضاً. الرتق هنا يتعلق بأن هذا النص، وبفعل البؤس نفسه، كان ممزقاً قبل أن يُكتب، أما عندما كانت ماليكا تكتبه، بما هو عيشها، فلم تفعل ذلك سوى على أساس "خواطري". قد تكون التركيبة اللغوية الأكثر ذيوعاً في رواية ابنها هي الخاطرة، لا بمعناها النيتشوي، إنما بمعنى الفكرة التي تخطر في وجدان ماليكا حول مواقف قهرها. فماليكا تكتب نصها بينها وبين نفسها، تردد أفكارها في رأسها، وتعقد النية عليها، كما لو أنها مشاريعها التي قد لا تجد طريقها إلى الحصول. كتابتها لنصها، بهذا الشكل، ظلت كتابة مشتتة، وقد جعلت هذا النص، وعلى نحو عيشها، على تمزقات مختلفة: تمزق مرتبط بالقمع الطبقي، تمزق متعلق بالعنف المجتمعي ضد النساء، تمزق متصل بآثار الاستعمار، تمزق ينم عن قلق حيال مصير الأولاد، وعن كون الغد لا أفق له... كل هذه التمزقات شققت نص ماليكا، وراح ابنها يرتقه بالسرد.
لقد رتق الطايع نص أمّه بحذر، ومفاده أنه يريد أن يكون أميناً لماضيها، وفي الوقت نفسه، يريد أن يبتعد عن جعلها قديسة، وبالإضافة إلى ذلك، يريد أن يحيط بكل تعقيدات وتفاصيل شخصيتها. على طول حذره هذا، يحاول ألا يكون ابنها، كما لو أنّ كل الإشكالية التي تطرحها روايتها هو هذه: كيف يكتب الابن عن أمه بلا ان يكون ابنها، لكن بلا أن تكون أمه أيضاً؟ بالطبع، لا يمكن له ألا يكون ابنها بالمطلق، ولا ألا تكون أمّه دوماً، لكن سرد الطايع، أو بالأحرى رتقه، سعى الى تحقيق ذلك، أي تحقيق كتابة عن ماليكا لا تمت إليها بصِلة عائلية. هل نجح؟ مرة أخرى، الرتق، وكتدبير البؤس، لا يُقاس بالنجاح والفشل، انما بأثره الأولي، بجعل النص الممزق أقل تمزقاً، وهذا فعلياً ما أفضى إليه.
بيد أن الحذر السردي الذي لازَم الطايع، ليس وحده الذي يحرك كتابته، إنما أن هذه الكتابة في الواقع تنطوي على شيء غيره، يمكن ملاحظته من مطلع الرواية إلى نهايتها: الحب. هناك حذر سردي، لكن هناك أيضاً حباً سردياً، ولا يمكن فصل الاثنين عن بعضهما البعض، إذ أنّ الطايع يكتب عن ماليكا بحذر لأنه يكن لها الحب الذي تعبّر هي عنه في نواحٍ كثيرة من نصها. ربما يمكن الاعتقاد أنّ حبّ الطايع، بما هو عاطفة السرد لماليكا، لا يدور حول كونها والدته، انما حول هذه القدرة التي تتحلّى بها هذه الشخصية لاجتياز كل ما تقاسيه، فتقول: "معاً، نعيش وننسى كل الرطمة التي مررنا بها. التكبد، هذا هو الحل. نأمل أن نجد يوماً النسيان". فرواية ماليكا هي رواية التكبد والنسيان.
بعد حزن طويل عليه، التقت ماليكا بمحمد الذي اقترنت به، منجبة عدداً من الأولاد. سكنت وإياهم في الرباط. وإن كان الظرف الاجتماعي-الاقتصادي في الريف صعباً عليها، فهو، قد صار في المدينة شديداً، إذ إنها وأسرتها لامست ما يشبه البؤس. قصة ماليكا هي قصة هذا البؤس، مثلما أنها قصة تدبيرها له. بالطبع، لا يمكن قياس هذا التدبير على أساس النجاح والفشل. بل لا بدّ من تقريبه من كونه رتقاً لثوب ممزق، يدعى العيش. تبرع ماليكا في هذا الرتق، لكن المشكلة أن الثوب نفسه يشتمل على تمزقات عديدة.
فعلياً، وبالاستناد إلى استعارة الرتق هذه، يمكن القول إن الطايع نفسه، وعلى نحو أمّه ماليكا، يرتق نصه عنها أيضاً. الرتق هنا يتعلق بأن هذا النص، وبفعل البؤس نفسه، كان ممزقاً قبل أن يُكتب، أما عندما كانت ماليكا تكتبه، بما هو عيشها، فلم تفعل ذلك سوى على أساس "خواطري". قد تكون التركيبة اللغوية الأكثر ذيوعاً في رواية ابنها هي الخاطرة، لا بمعناها النيتشوي، إنما بمعنى الفكرة التي تخطر في وجدان ماليكا حول مواقف قهرها. فماليكا تكتب نصها بينها وبين نفسها، تردد أفكارها في رأسها، وتعقد النية عليها، كما لو أنها مشاريعها التي قد لا تجد طريقها إلى الحصول. كتابتها لنصها، بهذا الشكل، ظلت كتابة مشتتة، وقد جعلت هذا النص، وعلى نحو عيشها، على تمزقات مختلفة: تمزق مرتبط بالقمع الطبقي، تمزق متعلق بالعنف المجتمعي ضد النساء، تمزق متصل بآثار الاستعمار، تمزق ينم عن قلق حيال مصير الأولاد، وعن كون الغد لا أفق له... كل هذه التمزقات شققت نص ماليكا، وراح ابنها يرتقه بالسرد.
لقد رتق الطايع نص أمّه بحذر، ومفاده أنه يريد أن يكون أميناً لماضيها، وفي الوقت نفسه، يريد أن يبتعد عن جعلها قديسة، وبالإضافة إلى ذلك، يريد أن يحيط بكل تعقيدات وتفاصيل شخصيتها. على طول حذره هذا، يحاول ألا يكون ابنها، كما لو أنّ كل الإشكالية التي تطرحها روايتها هو هذه: كيف يكتب الابن عن أمه بلا ان يكون ابنها، لكن بلا أن تكون أمه أيضاً؟ بالطبع، لا يمكن له ألا يكون ابنها بالمطلق، ولا ألا تكون أمّه دوماً، لكن سرد الطايع، أو بالأحرى رتقه، سعى الى تحقيق ذلك، أي تحقيق كتابة عن ماليكا لا تمت إليها بصِلة عائلية. هل نجح؟ مرة أخرى، الرتق، وكتدبير البؤس، لا يُقاس بالنجاح والفشل، انما بأثره الأولي، بجعل النص الممزق أقل تمزقاً، وهذا فعلياً ما أفضى إليه.
بيد أن الحذر السردي الذي لازَم الطايع، ليس وحده الذي يحرك كتابته، إنما أن هذه الكتابة في الواقع تنطوي على شيء غيره، يمكن ملاحظته من مطلع الرواية إلى نهايتها: الحب. هناك حذر سردي، لكن هناك أيضاً حباً سردياً، ولا يمكن فصل الاثنين عن بعضهما البعض، إذ أنّ الطايع يكتب عن ماليكا بحذر لأنه يكن لها الحب الذي تعبّر هي عنه في نواحٍ كثيرة من نصها. ربما يمكن الاعتقاد أنّ حبّ الطايع، بما هو عاطفة السرد لماليكا، لا يدور حول كونها والدته، انما حول هذه القدرة التي تتحلّى بها هذه الشخصية لاجتياز كل ما تقاسيه، فتقول: "معاً، نعيش وننسى كل الرطمة التي مررنا بها. التكبد، هذا هو الحل. نأمل أن نجد يوماً النسيان". فرواية ماليكا هي رواية التكبد والنسيان.