مارون الحكيم... أجمع أحزان بلدي القتيل
جاء معرض مارون الحكيم بعد طول تفكير وتحضير وانتظار. يمكن القول إن هذه الأمور تنطبق على غالبية المعارض المُقامة هذه الفترة، إذ تردّد أصحابها فترات متفاوتة في امتدادها الزمني، بعدما صارت إقامة معرض تتطلّب جهوداً لم تكن على النحو المعقّد الحالي في فترات ماضية. الأسباب معروفة ولا ضرورة لتردادها. صار يمكن اختصارها بكلمات ثلاث: أزمة، وباء، يأس. هذا اليأس، الذي أقعد الكثيرين، أراد الفنان مقارعته على طريقته، وبالأدوات المناسبة، بالرغم من "الجراح الثخينة والدروب الحالكة المقفلة، والوحوش التي تقضم جسد المدينة وتجثم فوق أنقاضها"، كما ورد على لسانه في الكاتالوغ الخاص بالمعرض.
الأعمال، المعلّقة على جدران "غاليري أون 56 "، هي نتاج الزمن الذي جيرّ مارون الحكيم لحظاته المتعبة من أجل صوغ قماشات لا تبغي المباشرة الواقعية اللصيقة بالحدث، أو بالحوادث، إلاّ على نحو جزئي. انفجار بيروت، الذي لم يترك أحداً في موقع اللامبالاة، صار نقطة مفصلية لدى العديد من صنّاع الفن، في أشكاله ومتفرعاته العديدة. رأينا أعمالاً فنيّة عديدة، ونحن في إنتظار انعكاس المجزرة في الموسيقى. ساورتنا هذه الخاطرة بعدما تذكّرنا السيمفونية السابعة، رائعة الروسي ديمتري شوستاكوفيتش، التي شكّل حصار مدينة لينينغراد، في بداية الحرب العالمية الثانية، مادة لها. حصار مدينة هناك، ودمار مدينة هنا. وفي الموقعين المذنب همجي، وإن كان معتدياً شرساً في الحالة الأولى، وفاسداً يتلطّى بحصانات متنوّعة في الحالة الثانية.
أحد أعمال الفنّان المعروضة، المسمّى "دفء وإشتعال"، يختصر المدينة بضربات فرشاة في إتجاهات عديدة. الرمادي الكامد حتى السواد يشكّل مقدّمة اللوحة. بيوت لم تعد تقف على مداميكها، وما بقي منها صامداً صار أشبه بنقطة تائهة في بحر. حتى البحر الذي يشكّل المساحة الثانية، من حيث تدرّج الأفق، زُرع قطعاً أشلاء من عمارات. من لم ينسَ بعض وقائع المأساة سيتذكّر سيارة وُجدت غارقة مع صاحبها في المياه، وتم إنتشالها كما تُنتشل جثة من مستنقع عكِر. وإذ تشكّل السماء، القليلة من حيث الحجم، الخلفية، فهي لم تسلم بدورها من تلبّد ما زال يحمل دخان الحرائق التي ولّدها الإنفجار. في عمله "البحر الجريح" بيوت مائلة في إتجاه تناظري يحتل البحر محوره. العمارات أشبه بشخوص تنحو نظراتها، الخارجة من شبابيك سوداء كثيرة، في إتجام الماء الذي فقد أزرقه في المقدّمة.
المأساة حاضرة، في العملين المذكورين أم في سواهما، لكن مارون الحكيم قام بتلوينها بالأدوات نفسها الصالحة لتلوين مشهد طبيعي، علماً أنها، في الحالة الراهنة، طبيعة خربة. يمكننا أن نستنتج، من خلال ذلك، أن الفنّان، وإن كان استسلم للحزن في اللحظات الأولى، شأننا جميعاً، فقد خرج إلى عالمه بوجه آخر، ولم يشأ الوقوع في حبائل اليأس المذكور أعلاه. أراد ماون الحكيم أن ينتج عملاً تشكيلياً يصوّر المأساة، ويحصّن نفسه من تبعاتها في الوقت نفسه: "ألملم أوجاعي الشخصية، أجمع أحزان بلدي القتيل. ألوذ بالحلم، بالصبر الجميل، بالحكمة، بالإرادة، وأمنع المأساة. أمنع الكارثة وخيبات الزمن من تحقيق الفوز عليّ"، يقول الفنان.
المدينة حاضرة بقوّة ضمن تلك الفئة من الأعمال، التي ذكرنا نموذجين منها، ولا تحيد نماذج أخرى يحتويها المعرض عن هذه التيمة، بل تحاول أن تحيط بها في أحوالها ذات البعد الشعوري الواحد من حيث ضغوطه. مدينة مثقلة بعماراتها المتهاوية، أو بأجزائها المتناثرة. ليس هناك أشدّ قساوة من رؤية خراب صنعه الإنسان عمداً، كما في الحروب الدائرة في عالمنا الحاضر، أو من طريق الإهمال، والإستهتار بأمن الإنسان، كما في انفجار المرفأ المشؤوم.
خراب الطبيعة، حين تتسبب به لنفسها، مختلف وذو طابع يهزّ شعورنا عبر الإنحناء أمام جبروت الطبيعة العظيم. نتقبّله كمن يتقبل قدراً لا مفر منه. الفئة من الأعمال المذكورة أتت كشاهد شخصي تصويري على الحدث الذي لا يد للطبيعة فيه. على أن لوحات أخرى، كان نفّذها الحكيم سابقاً من الناحية الزمنية، وتندرج ضمن الفئة الأولى التي يضمّها المعرض، وصنعها الفنان "قبل الإنفجار الكبير، قبل تدفق براكينه" حين "كانت طبيعة بلادي ساحرة، ملهمة، مضيئة وهادئة".. طبيعة بقيت كما هي في الريف "مساحات تدعو إلى البهجة والزهو، في إبتهالات الفصول وتبدّل مناخاتها..".
المساحة التصويرية في هذه الفئة تختلف عما سبق الحديث عنه. ثمة انفراجات واسعة في بعض الأمكنة، حيث يطغى اللون الواحد ومشتقاته في "سكينة الأرض" و"دفء الثلوج" و"بيوت تجاور حقول القمح"، ومساحات أكثر كثافة، لناحية تكديس العجينة اللونية، والتقميش مختلف المردود البصري في "حوار بين الأرض والسماء" و"عند المغيب". لقد رسم مارون الحكيم، في لحظات الهدوء والسكينة، سهولاً وجبالاً وبيوتاً مضيئة، ".. دون إنذارات مسبقة، وبسبب غضب غامض، تتلاشى الأحلام، ينسحب النور، تسوّد الآفاق، فتتطاير المدينة"، وتفضي الدروب كلّها إلى المجهول... إلى العتمة الماحقة.