"السدّ" لعلي شرّي.. الخيال استراتيجية للتغيير
"القلق"، المعني بلبنان وحالته، تناول عنف الكارثة، وتحديداً التصدعات الزلزالية، وهي ظاهرة متكررة في البلاد. فيما "الحفّار"، المصوّر في أحد المواقع الأثرية في صحراء الإمارات العربية المتحدة، ساءل الروايات التاريخية التي بنيت عليها الأمّة الخليجية، بادئاً من قطع أثرية قديمة مكتشفة حديثاً. في "السدّ"، يذهب شرّي إلى السودان، وتحديداً إلى سدّ مروى، وهو مشروع فرعوني لتوليد الطاقة الكهرومائية على مجرى نهر النيل المتدفق عبر السودان، أعيد بناؤه حديثاً بتمويلٍ صيني، وفي سبيل إنجازه هُجّرت مجموعة من العائلات السودانية وقُتل الكثير من الأشخاص في احتجاجات أهلية مناهضة للمشروع.
في الفيلم، يعمل ماهر (ماهر الخير) مع زملائه في صناعة الطوب بالقرب من سدّ مروي، شمالي السودان. يجمعون التراب ويخلطونه بالماء، فيصير طيناً، ثم يتركونه ليجفّ في الشمس، فيصبح طوباً صالحاً للبناء. في أوقات فراغه، يكرّس ماهر وقته لتشكيل نصب ضخم من الطين، "غولم" أفريقي، سرعان ما سيكتسب حياة تخصّه وحده. يفعل هذا وسط الصحراء، مستعيراً دراجة نارية من أحد جيرانه. مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية في السودان ضد حكومة عمر البشير، دبّت الحياة في الغولم الطيني الضخم، وبدأ الحديث مع صاحبه.
علي شرّي، القادم من عالم المفاهيم الفنّية والمكعبات البيضاء، يملك عيناً مفتوحة على عوالم مدهشة من الصور، لكنه لا يصرّح بعلاقاتها ولا يفشي بمدلولاتها، وإنما ينسجها معاً بطريقة غامضة وملغزة تحفّز المتلقي/المتفرج على التفاعل والإدلاء بتفسيراته. في ذلك هو أقرب ما يكون للسينمائي تساي مينغ ليانغ. في "السدّ"، يبني ويستثمر في عمله الفنّي القائم بالأساس على التعامل مع العناصر كسبيل لفهم القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تؤثر على الواقع.
حين ننظر إلى العناصر، نبدأ في فهم كل ما حولها. عبر إرسائه الفيلم في سياق محدّد وخاص، سياسياً واجتماعياً، ورفده بعناصر حلمية وأسطورية ورمزية؛ يلعب الفيلم رهاناً مدهشاً يعلن به إيمانه بالروح الأرضية للعالم في حكاية سياسية عن القوة البصرية الهائلة المنبثقة من العناصر الأساسية: الماء، التراب، النار، الهواء.
الماء والتراب عنصران أساسيان لكل أشكال الحياة، لكنهما أيضاً يمكن أن يتحولّا حين يصيرا سدّاً. عندما يُشرَّد الناس وتدمّر سبل عيشهم بسبب جدار حجري وكتل مياه محتجزة. حدث هذا أيضاً في سدّ مروي. لكن "السد" لا يذكر هذه الخلفيات إلا بشكل عابر. ما فعله نظام البشير من جرائم أخرى متروك للعثور عليه في فيلم آخر. الثورة، الخرطوم، المركز.. كل هذا يأتي محصوراً داخل شاشة تلفزيون يستمع إليها العمّال بلا مبالاة تقريباً، وفي النهاية تضيع الأصوات وسط الطبيعة الباقية والمقيمة.
الماء والتراب دائماً في الصورة. بمرور الوقت نتعلم كيف يُصنع الطوب في عملية جماعية نموذجية. أو كيف ينظّف عمال الطوب أنفسهم. نشاهد الطبيعة الكبرى وأفعال البشر فيها وبها ومعها. نعاين الصمت وغزوه من قبل أصوات بعيدة. نرى جرحاً مفتوحاً يفضي إلى عالم آخر لا نراه. وسواء تعلّق الأمر بجروح الجسد الإنساني أو جروح الطبيعة؛ يعيد علي شرّي تذكيرنا بضرورة التعامل مع جروحنا المفتوحة.
"السد" فيلم روحاني عن الطين البدائي الذي نشأ منه كل شيء. حول الطين الذي نصنعه في أطباق يمكننا أن نأكل منها. ولكنه أيضاً عن القوة المدمّرة للمياه. أفكاره وغلافها المؤطّر أهم من قصته غير المتماسكة، والمخلوق الطيني يستحضر جوانب صوفية (وغنوصية إذا اردت) وحكايات الأرواح في صحراء ما قبل الإسلام. و"السدّ" أيضاً رحلة السوداني إلى نفسه والتاريخ المضطرب لبلاده. وهو يفعل كل هذا وأكثر، بطريقة فريدة ومتطلّبة.
هذا المزيج - حكاية تقع على أطراف الحدث المركزي (الثورة السودانية)، في داخلها هي الأخرى ثمة حكاية هامشية عن بناء أسطوري في عمق الصحراء - يبيّن كيف يمكن للخيال وقوّته إحداث التحولات في الواقع. يستخدم ماهر خياله كأداة لتحرّره الاجتماعي والاقتصادي. وبالمثل، يستخدم شرّي الخيال (المنفلت من مركزية وهيمنة السرديات الرسمية) كأداة للتغيير، تغيير منظور الرواية بإعادة الاعتبار لخيالنا الشخصي. وبهذا المعنى، يغدو امتلاك (أو بالأحرى استعادة) المرء لخياله استراتيجيةً سياسية للتغيير.
(*) عُرض مؤخراً في الدورة الـ44 من مهرجان القاهرة السينمائي.