برهان علوية في عيون مخرجين من أربعة أجيال
فارق برهان علوية الحياة، منذ أيام، صاحب "بيروت اللقاء" وأحد أبرز مخرجي الموجة الجديدة التي ظهرت في لبنان في بداية/منتصف السبعينيات. ضمت هذه الموجة، بالإضافة إليه، كلاً من مارون بغدادي، جوسلين صعب، رندة الشهال، جان شمعون، وآخرين. يعتبر كثيرون أن أفلام هذه المجموعة بقيت في الحرب، من دون أن تؤثر في المخرجين المنتمين إلى الجيل الأصغر، بينما يرى آخرون أن حضور هذه الموجة لا يمكن إلا أن يستمر (ولو بشكل غير مباشر)، بسبب مساهمتها في تشكيل المشهد الثقافي المحلي بأكمله خلال السبعينيات والثمانينيات، وإجابة أصحابها على أسئلة ما زال المخرجون اللبنانيون يطرحونها حتى اليوم.
لم يتوقف التساؤل حول تأثير هذه الموجة منذ انتهاء الحرب الأهلية، لكن من دون إجابات حاسمة. لذلك، نعيد اليوم طرح التساؤلات نفسها، لكن مع التركيز هذه المرة على برهان علوية، وتوجيه الأسئلة إلى مخرجين ينتمون إلى أربعة أجيال: بهيج حجيج (أصغر منه بسبع سنوات)، المخرج المعروف الذي جايل علوية لكنه تأخر في دخول مجال الإخراج السينمائي حتى انتهاء الحرب الأهلية. غسان سلهب الذي بدأ صناعة الأفلام خلال التسعينيات، ويعتبر من الأسماء المؤثرة في المخرجين المنتمين إلى الأجيال الأصغر. أحمد غصين الذي دخل المجال في العقد الأول من الألفية الثالثة، ويعتبر من رواد السينما الذاتية التي ظهرت خلال العقد الأخير. ونور عويضة التي صنعت فيلمها الأول قبل سنوات قليلة، وتنشط اليوم في مجالي النقد السينمائي وتنسيق الأفلام.
بهيج حجيج: كان قائدنا الفني والسينمائي
كان برهان علوية بمثابة الأب الروحي لنا، نحن مجموعة الأصدقاء الذين عدنا من أوروبا بعد بداية الحرب. أتحدث هنا عن مجموعة مخرجين مثل مارون بغدادي، جان كلود قدسي، وجان شمعون (عمل بهيج حجيج كمساعد مخرج لعلوية في فيلم "بيروت اللقاء"). كان برهان علوية مخرجا ذكياً ومثقفاً، لم يتوقف عن إلهامنا ونفخ تلك الرغبة فينا بصناعة سينما جديدة، تعبّر عن مشاعرنا اليومية وحياتنا ومشاكلنا، وتحترم عقول المشاهدين. لطالما حلمنا بصناعة هذه السينما التي أردناها منتمية إلى سينما المؤلف، وكنا قد شاهدنا نماذجها الأولى مع مخرجين كبار مثل إنغمار برغمان، مايكل أنجلو أنطونيوني، وفيدريكو فيليني.
كان برهان علوية مثقفا عربياً بقدر ما كان لبنانياً، انطلق من خضمّ موجة عالمية التزمت بثورات الشعوب المقهورة، وتأثرت في الوقت نفسه بالثورة الطلابية في فرنسا. لذلك، يمكننا القول إن هذه الخلفية سمحت له بلعب دور القائد الفني والسينمائي لنا، نحن الجيل الأصغر منه. أتذكر أني حين شاهدت فيلمه "كفر قاسم"، أعجبت كثيرا ًبه، فهو أول فيلم حقيقي أشاهده عن الثورة الفلسطينية، وأحد أول نماذج الدوكيو-درامية المستندة إلى وثيقة تاريخية، وفي الوقت نفسه تمتلك لغة روائية استثنائية.
في العام 1981، حين طلب مني الراحل العمل إلى جانبه في "بيروت اللقاء" كمساعد مخرج، شعرت بالفخر والسعادة، فأنا أعتبر نفسي من جيل برهان، وبالنسبة اليّ، هو لم يكن سينمائياً فحسب، بل كان أيضاً كاتباً وروائياً، يمتلك قوة فكرية توازي قوته السينمائية. لكن "بيروت اللقاء" كان فيلماً صعباً من الناحية الإنتاجية، عانينا كثيراً لإنهائه بسبب ظروف القصف العشوائي الذي شهدته بيروت خلال تلك المرحلة. في الوقت نفسه، كانت تجربة جديدة وغير مسبوقة في لبنان، تعلمت منها الكثير، وشكلت لي ملامح السينما التي أحب أن أصنعها في المستقبل.
المهم في الفيلم أن برهان ظهر كمخرج لبناني، رغم حجم تأثير السينما الأوروبية فيه، مخرج يمتلك خطاً أصيلاً وهموماً ترتبط ببيروت بالتحديد، وبالتواصل واللغة، وعدم القدرة على اللقاء بين أبناء المدينة.
غسان سلهب: من الخطأ مقارنته بمارون بغدادي
لا أعتقد أن لبرهان علوية تأثيراً مباشراً فيّ، لكن هذا لا يعني أني لا أحب أعماله. "بيروت اللقاء" الذي لم يُقدَّر في لبنان كما يجب، ليس فيلماً جميلاً فحسب، بل هو أيضاً من أهم الأفلام التي صنعت وقدمها البلد لفن السينما. حين شاهدته للمرة الأولى، في الثمانينيات، شعرت أنه يضع السينما اللبنانية في زمن الحداثة، وهو شعور انتابني حين شاهدت فيلماً لكريستيان غازي قبله. يأخذ الفيلم رواية بسيطة عن شخصين، يعيش كل منهما في جزء من المدينة. يمكن لهذه القصة أن تأخذ شكلاً تقليدياً أو ميلودرامياً مع أي مخرج آخر، لكن برهان علوية قرر أخذ إتجاهات راديكالية، فتعامل مع القصة ليس فقط كرواية، بل أيضاً كلغة أكثر تعقيداً... لعب في المساحة التي تعطيها ظروف المنع وعدم القدرة على اللقاء، وسمح للمشاهدين بسماع الكاسيت بأكمله عوضاً عن إعطائهم مقتطفات منه، كما كان سيفعل أي مخرج آخر...
يتميز برهان علوية بأنه من ذلك النوع من المخرجين الذين لم نعد نجدهم اليوم كثيراً، أي الذين يمتلكون ثقافة كبيرة، ليس فقط سينمائياً، بل أيضاً تاريخياً، روحياً، فلسفياً، وإنسانياً... حين كنت أجلس معه، كان يمكن أن أتحدث معه في الموسيقى او الأدب أو الفلسفة، وليس فقط في السينما. لو تبدلت الظروف أعتقد بسهولة أنه كان سيصبح كاتباً. من هنا، أرى أن المقارنة التي كانت تحصل خلال الحرب، بينه وبين مارون بغدادي، هي مقارنة غير عادلة، لأن الأخير كان من الواضح أنه يريد أن يكون جزءاً من "عالم السينما"، أما برهان علوية فكان الأهم بالنسبة اليه ليس ما يحصل خارجه، بل ما يحصل داخله، وما يشكله كإنسان... ولذلك أشعر أنه أقرب إلي من باقي أفراد هذه المجموعة، الذين في كل الأحوال أعتقد أنه من الخطأ وضعهم في كيس واحد.
أحمد غصين: اللعب بين الوثائقي والروائي
حين دخلت المجال السينمائي في بداية الألفية الثالثة، واجهت صعوبة في إيجاد أفلام برهان علوية ومخرجي ذلك الجيل، وبقيت لسنوات غير قادر على تحديد إن كان "بيروت اللقاء" مثلاً لمارون بغدادي أو له! طبعا سيتغير هذا الواقع تدريجياً، وسأتمكن بفضل أشرطة VHS أو العروض التي كان يقدمها "مسرح بيروت" و"نادي لكل الناس" أن أشاهد هذه الأفلام، لكن ذلك سيحصل متأخراً قليلا عن الوقت الذي كان يفترض أن يحصل فيه.
من الصعب ألا أكون قد تأثرت بهذه الموجة الرائدة في السينما اللبنانية، والتي وضعت الأساسات لما سيأتي لاحقاً، سواء بالتصاقها بالقضايا الإنسانية والفكرية والإيديولوجية، أو بانحيازها للهامش والفرد والإنسان. أتحدث هنا عن خطوط عريضة، مثل اللعب على الفارق بين الوثائقي والروائي، أو الإقتراب من اليومي وفي الوقت نفسه الإتصال بين هموم الفرد والهموم العالمية التي نعايشها، بالإضافة إلى الإهتمام بالقضايا السياسية والثورات. في حالتي، يمكنني أن أتحدث مثلاً عن استخدام الكاسيتات في "أبي لا يزال شيوعياً"، وهو ما يتقاطع مع كاسيتات "بيروت اللقاء" التي كتب عنها بالمناسبة جيل دولوز.
نشهد اليوم اختفاء لمزايا سينمائية كانت مهيمنة مع تلك الموجة، مثل الشاعرية، الوجدانية والبكائيات على المدينة ودمارها. طبعاً المشهد السينمائي بأكمله، بشكله السابق، لم يعد موجوداً، والمهرجانات التي كانت تأخذ أفلاماً عمرها سنوات، توقفت عن ذلك، كما أن هذه المهرجانات لم تعد متمركزة بين المعسكرين الشرقي والغربي في آن (كانت المشاركة في مهرجان موسكو مثلا تكتسب أهمية معنوية كبيرة عند المخرجين في تلك الحقبة)، بالإضافة إلى ظهور توجهات سينمائية يمكن رؤيتها اليوم، كانقلاب على توجهات سابقة مثل موجة الأفلام الذاتية التي بدأت بالتزايد منذ العام 2011.
ورغم بذل مخرجين من جيلي، مجهوداً، لخلق صلة وصل مع مخرجي تلك المرحلة، إلا أن الغالب في السينما اللبنانية اليوم هو القطع أو البتر مع الماضي (ليس موت برهان علوية في المنفى بلا تكريم سوى دليل على ذلك). فنحن نعيش دائماً في الزمن الطارئ، والمخرجون المنتمون إلى الجيل الأصغر، نجدهم يصنعون أفلاماً كأنهم أول من صنع أفلاماً في لبنان، من دون الأخذ في الإعتبار أن الجدران التي يصطدمون بها، والأسئلة التي يطرحونها، يمكن أن إيجاد بعض من أجوبتها في أفلام الأجيال السابقة.
نور عويضة: أخرَج المدينة من الكارت بوستال إلى صُور تحولاتها
يكتسب فيلم "بيروت اللقاء" أهمية شخصية اليّ ولكثير من المخرجين والمخرجات من جيلي، لأنه يظهر لنا صورة عما يمكن للسينما أن تكون عليه، أي شبيهة فعلاً بالمدينة التي نعيش فيها. لا يحصل هذا التماهي مع المدينة كثيراً، حين أشاهد أفلاماً من حقبات سابقة، أعني أن أتعرف على الشوارع والأزقة الفرعية، وليس فقط شارع الحمرا أو وسط المدينة. هذه العلاقة الشخصية التي استطاع الفيلم خلقها معنا، أعتقد أنها بوابة لفهم سياق صناعة الفيلم في الأساس، أي ضمن رغبة التعبير عن إحساس جيل بأكمله كان يحاول تجريب لغة تشبهه أو تشبه الواقع الذي يراه. قبل الحرب، كانت السينما تحاول أن تظهر بيروت كما يراد لها أن تكون، أو كما تظهر في السينما المصرية أو العالمية، أي في صورة جامدة تبدو أقرب إلى كارت بوستال.
أما مع الجيل الثاني من المخرجين، مثل برهان علوية، فقد ظهرت المدينة معهم وهي تعيش تحولاً مستمراً، وهي قابلة للإنقلاب من حالة إلى أخرى في أي لحظة. لذلك نجد اليوم كثيرين يستعيدون مشاهد من الفيلم، لأن هذه الصورة للمدينة المتحولة تبدو فعلاً شبيهة بالحاضر: هل المدينة إلى زوال؟ هل علينا أن نغادر؟ أم نبقى قليلاً لنرى ما سيحصل؟
لكن هل لتجربة برهان علوية استمرارية في مرحلة بعد الحرب؟ لا أعتقد ذلك. عندما نقول بيروت، ليس أول ما يخطر في بالنا "بيروت اللقاء"، بل ربما ما زال أثر البطاقة البريدية، مهيمناً. هل لأنه قدرنا ان نعيش باستمرار هذا البتر مع الماضي؟ وأن نطرح، بلا توقف، الأسئلة نفسها التي طرحها الجيل السابق؟ ربما هنا يمكنني أن أفهم دوافع أساتذة السينما الذين يصرون على ضرورة أن تكون هذه الأفلام جزءاً من التاريخ السينمائي والعقل الجمعي للطلاب.
أشعر أيضاً أمام "بيروت اللقاء" وعدد من الأفلام المنتمية صنفه نفسه، أن عليّ أن أعيد مشاهدتها كل فترة، لأن هناك أشياء مخبأة، عليّ اكتشافها فيها، لا بد ستظهر تباعاً أمامي. المثير للإهتمام أني في كل مرة، أكتشف شيئاً جديداً، أشعر بنوع من النشوة، وهو شعور يزيد من ارتباطي المعنوي بهذه الأفلام بالطبع، لكن من دون أن يعني ذلك أن تصبح مؤثرة في طريقتي في صنع الأفلام...
لم يتوقف التساؤل حول تأثير هذه الموجة منذ انتهاء الحرب الأهلية، لكن من دون إجابات حاسمة. لذلك، نعيد اليوم طرح التساؤلات نفسها، لكن مع التركيز هذه المرة على برهان علوية، وتوجيه الأسئلة إلى مخرجين ينتمون إلى أربعة أجيال: بهيج حجيج (أصغر منه بسبع سنوات)، المخرج المعروف الذي جايل علوية لكنه تأخر في دخول مجال الإخراج السينمائي حتى انتهاء الحرب الأهلية. غسان سلهب الذي بدأ صناعة الأفلام خلال التسعينيات، ويعتبر من الأسماء المؤثرة في المخرجين المنتمين إلى الأجيال الأصغر. أحمد غصين الذي دخل المجال في العقد الأول من الألفية الثالثة، ويعتبر من رواد السينما الذاتية التي ظهرت خلال العقد الأخير. ونور عويضة التي صنعت فيلمها الأول قبل سنوات قليلة، وتنشط اليوم في مجالي النقد السينمائي وتنسيق الأفلام.
بهيج حجيج: كان قائدنا الفني والسينمائي
كان برهان علوية بمثابة الأب الروحي لنا، نحن مجموعة الأصدقاء الذين عدنا من أوروبا بعد بداية الحرب. أتحدث هنا عن مجموعة مخرجين مثل مارون بغدادي، جان كلود قدسي، وجان شمعون (عمل بهيج حجيج كمساعد مخرج لعلوية في فيلم "بيروت اللقاء"). كان برهان علوية مخرجا ذكياً ومثقفاً، لم يتوقف عن إلهامنا ونفخ تلك الرغبة فينا بصناعة سينما جديدة، تعبّر عن مشاعرنا اليومية وحياتنا ومشاكلنا، وتحترم عقول المشاهدين. لطالما حلمنا بصناعة هذه السينما التي أردناها منتمية إلى سينما المؤلف، وكنا قد شاهدنا نماذجها الأولى مع مخرجين كبار مثل إنغمار برغمان، مايكل أنجلو أنطونيوني، وفيدريكو فيليني.
كان برهان علوية مثقفا عربياً بقدر ما كان لبنانياً، انطلق من خضمّ موجة عالمية التزمت بثورات الشعوب المقهورة، وتأثرت في الوقت نفسه بالثورة الطلابية في فرنسا. لذلك، يمكننا القول إن هذه الخلفية سمحت له بلعب دور القائد الفني والسينمائي لنا، نحن الجيل الأصغر منه. أتذكر أني حين شاهدت فيلمه "كفر قاسم"، أعجبت كثيرا ًبه، فهو أول فيلم حقيقي أشاهده عن الثورة الفلسطينية، وأحد أول نماذج الدوكيو-درامية المستندة إلى وثيقة تاريخية، وفي الوقت نفسه تمتلك لغة روائية استثنائية.
في العام 1981، حين طلب مني الراحل العمل إلى جانبه في "بيروت اللقاء" كمساعد مخرج، شعرت بالفخر والسعادة، فأنا أعتبر نفسي من جيل برهان، وبالنسبة اليّ، هو لم يكن سينمائياً فحسب، بل كان أيضاً كاتباً وروائياً، يمتلك قوة فكرية توازي قوته السينمائية. لكن "بيروت اللقاء" كان فيلماً صعباً من الناحية الإنتاجية، عانينا كثيراً لإنهائه بسبب ظروف القصف العشوائي الذي شهدته بيروت خلال تلك المرحلة. في الوقت نفسه، كانت تجربة جديدة وغير مسبوقة في لبنان، تعلمت منها الكثير، وشكلت لي ملامح السينما التي أحب أن أصنعها في المستقبل.
المهم في الفيلم أن برهان ظهر كمخرج لبناني، رغم حجم تأثير السينما الأوروبية فيه، مخرج يمتلك خطاً أصيلاً وهموماً ترتبط ببيروت بالتحديد، وبالتواصل واللغة، وعدم القدرة على اللقاء بين أبناء المدينة.
غسان سلهب: من الخطأ مقارنته بمارون بغدادي
لا أعتقد أن لبرهان علوية تأثيراً مباشراً فيّ، لكن هذا لا يعني أني لا أحب أعماله. "بيروت اللقاء" الذي لم يُقدَّر في لبنان كما يجب، ليس فيلماً جميلاً فحسب، بل هو أيضاً من أهم الأفلام التي صنعت وقدمها البلد لفن السينما. حين شاهدته للمرة الأولى، في الثمانينيات، شعرت أنه يضع السينما اللبنانية في زمن الحداثة، وهو شعور انتابني حين شاهدت فيلماً لكريستيان غازي قبله. يأخذ الفيلم رواية بسيطة عن شخصين، يعيش كل منهما في جزء من المدينة. يمكن لهذه القصة أن تأخذ شكلاً تقليدياً أو ميلودرامياً مع أي مخرج آخر، لكن برهان علوية قرر أخذ إتجاهات راديكالية، فتعامل مع القصة ليس فقط كرواية، بل أيضاً كلغة أكثر تعقيداً... لعب في المساحة التي تعطيها ظروف المنع وعدم القدرة على اللقاء، وسمح للمشاهدين بسماع الكاسيت بأكمله عوضاً عن إعطائهم مقتطفات منه، كما كان سيفعل أي مخرج آخر...
يتميز برهان علوية بأنه من ذلك النوع من المخرجين الذين لم نعد نجدهم اليوم كثيراً، أي الذين يمتلكون ثقافة كبيرة، ليس فقط سينمائياً، بل أيضاً تاريخياً، روحياً، فلسفياً، وإنسانياً... حين كنت أجلس معه، كان يمكن أن أتحدث معه في الموسيقى او الأدب أو الفلسفة، وليس فقط في السينما. لو تبدلت الظروف أعتقد بسهولة أنه كان سيصبح كاتباً. من هنا، أرى أن المقارنة التي كانت تحصل خلال الحرب، بينه وبين مارون بغدادي، هي مقارنة غير عادلة، لأن الأخير كان من الواضح أنه يريد أن يكون جزءاً من "عالم السينما"، أما برهان علوية فكان الأهم بالنسبة اليه ليس ما يحصل خارجه، بل ما يحصل داخله، وما يشكله كإنسان... ولذلك أشعر أنه أقرب إلي من باقي أفراد هذه المجموعة، الذين في كل الأحوال أعتقد أنه من الخطأ وضعهم في كيس واحد.
أحمد غصين: اللعب بين الوثائقي والروائي
حين دخلت المجال السينمائي في بداية الألفية الثالثة، واجهت صعوبة في إيجاد أفلام برهان علوية ومخرجي ذلك الجيل، وبقيت لسنوات غير قادر على تحديد إن كان "بيروت اللقاء" مثلاً لمارون بغدادي أو له! طبعا سيتغير هذا الواقع تدريجياً، وسأتمكن بفضل أشرطة VHS أو العروض التي كان يقدمها "مسرح بيروت" و"نادي لكل الناس" أن أشاهد هذه الأفلام، لكن ذلك سيحصل متأخراً قليلا عن الوقت الذي كان يفترض أن يحصل فيه.
من الصعب ألا أكون قد تأثرت بهذه الموجة الرائدة في السينما اللبنانية، والتي وضعت الأساسات لما سيأتي لاحقاً، سواء بالتصاقها بالقضايا الإنسانية والفكرية والإيديولوجية، أو بانحيازها للهامش والفرد والإنسان. أتحدث هنا عن خطوط عريضة، مثل اللعب على الفارق بين الوثائقي والروائي، أو الإقتراب من اليومي وفي الوقت نفسه الإتصال بين هموم الفرد والهموم العالمية التي نعايشها، بالإضافة إلى الإهتمام بالقضايا السياسية والثورات. في حالتي، يمكنني أن أتحدث مثلاً عن استخدام الكاسيتات في "أبي لا يزال شيوعياً"، وهو ما يتقاطع مع كاسيتات "بيروت اللقاء" التي كتب عنها بالمناسبة جيل دولوز.
نشهد اليوم اختفاء لمزايا سينمائية كانت مهيمنة مع تلك الموجة، مثل الشاعرية، الوجدانية والبكائيات على المدينة ودمارها. طبعاً المشهد السينمائي بأكمله، بشكله السابق، لم يعد موجوداً، والمهرجانات التي كانت تأخذ أفلاماً عمرها سنوات، توقفت عن ذلك، كما أن هذه المهرجانات لم تعد متمركزة بين المعسكرين الشرقي والغربي في آن (كانت المشاركة في مهرجان موسكو مثلا تكتسب أهمية معنوية كبيرة عند المخرجين في تلك الحقبة)، بالإضافة إلى ظهور توجهات سينمائية يمكن رؤيتها اليوم، كانقلاب على توجهات سابقة مثل موجة الأفلام الذاتية التي بدأت بالتزايد منذ العام 2011.
ورغم بذل مخرجين من جيلي، مجهوداً، لخلق صلة وصل مع مخرجي تلك المرحلة، إلا أن الغالب في السينما اللبنانية اليوم هو القطع أو البتر مع الماضي (ليس موت برهان علوية في المنفى بلا تكريم سوى دليل على ذلك). فنحن نعيش دائماً في الزمن الطارئ، والمخرجون المنتمون إلى الجيل الأصغر، نجدهم يصنعون أفلاماً كأنهم أول من صنع أفلاماً في لبنان، من دون الأخذ في الإعتبار أن الجدران التي يصطدمون بها، والأسئلة التي يطرحونها، يمكن أن إيجاد بعض من أجوبتها في أفلام الأجيال السابقة.
نور عويضة: أخرَج المدينة من الكارت بوستال إلى صُور تحولاتها
يكتسب فيلم "بيروت اللقاء" أهمية شخصية اليّ ولكثير من المخرجين والمخرجات من جيلي، لأنه يظهر لنا صورة عما يمكن للسينما أن تكون عليه، أي شبيهة فعلاً بالمدينة التي نعيش فيها. لا يحصل هذا التماهي مع المدينة كثيراً، حين أشاهد أفلاماً من حقبات سابقة، أعني أن أتعرف على الشوارع والأزقة الفرعية، وليس فقط شارع الحمرا أو وسط المدينة. هذه العلاقة الشخصية التي استطاع الفيلم خلقها معنا، أعتقد أنها بوابة لفهم سياق صناعة الفيلم في الأساس، أي ضمن رغبة التعبير عن إحساس جيل بأكمله كان يحاول تجريب لغة تشبهه أو تشبه الواقع الذي يراه. قبل الحرب، كانت السينما تحاول أن تظهر بيروت كما يراد لها أن تكون، أو كما تظهر في السينما المصرية أو العالمية، أي في صورة جامدة تبدو أقرب إلى كارت بوستال.
أما مع الجيل الثاني من المخرجين، مثل برهان علوية، فقد ظهرت المدينة معهم وهي تعيش تحولاً مستمراً، وهي قابلة للإنقلاب من حالة إلى أخرى في أي لحظة. لذلك نجد اليوم كثيرين يستعيدون مشاهد من الفيلم، لأن هذه الصورة للمدينة المتحولة تبدو فعلاً شبيهة بالحاضر: هل المدينة إلى زوال؟ هل علينا أن نغادر؟ أم نبقى قليلاً لنرى ما سيحصل؟
لكن هل لتجربة برهان علوية استمرارية في مرحلة بعد الحرب؟ لا أعتقد ذلك. عندما نقول بيروت، ليس أول ما يخطر في بالنا "بيروت اللقاء"، بل ربما ما زال أثر البطاقة البريدية، مهيمناً. هل لأنه قدرنا ان نعيش باستمرار هذا البتر مع الماضي؟ وأن نطرح، بلا توقف، الأسئلة نفسها التي طرحها الجيل السابق؟ ربما هنا يمكنني أن أفهم دوافع أساتذة السينما الذين يصرون على ضرورة أن تكون هذه الأفلام جزءاً من التاريخ السينمائي والعقل الجمعي للطلاب.
أشعر أيضاً أمام "بيروت اللقاء" وعدد من الأفلام المنتمية صنفه نفسه، أن عليّ أن أعيد مشاهدتها كل فترة، لأن هناك أشياء مخبأة، عليّ اكتشافها فيها، لا بد ستظهر تباعاً أمامي. المثير للإهتمام أني في كل مرة، أكتشف شيئاً جديداً، أشعر بنوع من النشوة، وهو شعور يزيد من ارتباطي المعنوي بهذه الأفلام بالطبع، لكن من دون أن يعني ذلك أن تصبح مؤثرة في طريقتي في صنع الأفلام...