كيف نقرأ مهرجان "أيلول" بعد عقدين على توقفه؟
بعد عشرين عاماً على توقفه، يعود مهرجان أيلول (1997 -2001) من خلال معرض فني بعنوان "مسارات" لباسكال فغالي (مديرة المهرجان السابقة)، ويرتكز على مواد أرشيفية كانت مخزنة في منزل عائلتها في بدارو. أشرفت على تنسيق المعرض روى فيليبس، التي استخدمت جدران المنزل، ككانفاس وشاشة، ألصقت وعرضت عليها مقتطفات من العروض والمواد المتعلقة بها (فيديو، ملصقات، مقالات ...)، الى جانب نصوص لفغالي من مذكرات ويوميات كتبتها خلال رحلات بحثية قامت بها بين اليونان وموريتانيا وجنيف.
يتعاطي المعرض/التجهيز الفني مع المهرجان، بصفته موضوعاً من الماضي، منفصلاً عن الحاضر كلياً، مع أن الحدث ما زال حاضراً بقوة في الذاكرة الثقافية لبيروت، وتأثيره ما زال ملموساً، باعتبار أن فاعليه الأساسيين هم بمثابة الآباء المؤسسين للمشهد المعاصر الحالي، والدور الذي لعبه في إخراج الفن اللبناني من النطاق المحلي إلى الفضاء المعولم، ما زلنا نعيش تبعاته حتى اليوم.
ولد المهرجان العام 1997، بمبادرة من باسكال فغالي والروائي الياس خوري، ليكون أحد أول الفعاليات المخصصة للفنانين اللبنانيين الذين يقدمون أعمالاً خارج الأنماط المعتادة، بعضها ظهر للمرة الأولى في بيروت مثل المحاضرات الأدائية، الرقص المعاصر، والفيديو. خلال تلك الفترة، كان الفن المفاهيمي قد بدأ يشق طريقه في بيروت من خلال أعمال مجموعة من الشباب، بعضهم تخرج حديثاً من الجامعة وعاد إلى لبنان بعد انتهاء الحرب (من فرنسا والولايات المتحدة تحديداً).
ربطت هؤلاء رؤى مشتركة حول الفن، وجدت جذورها في موجات مثل الدادائية وفلوكسوس وغيرها، التي عادت للهيمنة على مناخات الفن في أوروبا والولايات المتحدة خلال تلك الفترة، ما سيترجَم توسعاً ممأسساً للفعاليات والمعارض الفنية التي تتسم بعبور الأنماط المختلفة واستضافة فنانين من حول العالم.
طرحت الموجة الجديدة في بيروت الأسئلة البديهية مجدداً، حول طبيعة الفن ووظيفته وطرق تلقيه، كما ساءلت علاقات السلطة بين الفنان وموضوعه وجمهوره، بالإضافة إلى إعادة الاعتبار للمعنى السياسي لليومي والذاتي المقموع لفترة طويلة ضمن ممارسات الفن التقليدي. أما المشترك من الناحية العملية، فكان تطويع الأنماط الفنية المختلفة أو "تحطيمها" وتفكيكها، لتصبح اكثر مرونة وقدرة على العبور بين ممارسات فنية مختلفة، لتمثيل تعقيدات الحاضر بشكل افضل.
استقبل المهرجان خلال مسيرته التي امتدت خمس سنوات، 40 فناناً لبنانياً، نذكر منهم وليد رعد، وليد صادق، أكرم الزعتري، رانيا اسطفان ربيع مروة، منى حلاق، نادين توما، محمد سويد.. بالإضافة إلى 20 فناناً أجنبياً، علماً أن المهرجان لم يتحول إلى مهرجان دولي سوى في سنته الثالثة، عندما بدأ بدعوة فنانين تجريبين ضمن مجالات كالفن الأدائي، الرقص المعاصر، التجهيز، وبعضهم امتلك شهرة عالمية في المجال الذي يقدمه. من بين هؤلاء روبرت بوب ويلسون، كزافييه لو روي، جيروم بيل، وتوماس ليمان.
سمح هذا التطور لإدارة المهرجان بنسج علاقات مع فاعلين ثقافيين ومنسقين وصحافيين أوروبيين، سيبدأون بالمجيء إلى بيروت تدريجياً للتعرف اكثر على المشهد الفني المحلي (كان المهرجان جزءاً من شبكة IETM - Informal European Theatre Meetings). مثلاً يخبرنا وليد صادق في مقابلة سابقة مع "المدن"، أن باسكال فغالي رتبت بعد نسخة المهرجان الثالثة، مقابلات بين عدد من الفنانين، ومنسقين/قيمين فنيين أوروبيين، بهدف الاتفاق على عرض أعمال محددة في أوروبا، وقد حصلت المقابلة في مقهى المودكا في رأس بيروت، أحد المقاهي الأكثر شهرة في بيروت خلال تلك الفترة (تحدث صادق حينها عن إشكالية تعديل الفنانين أعمالهم لتتلاءم مع ما يريده مدراء المهرجانات الأوروبية).
من أبرز الأسماء التي أتت إلى بيروت، كاترين دافيد، وهي قيمة فنية كانت تتولى العام 1997 إدارة معرض دوكومينتا الشهير، في مدينة كاسل الألمانية، وستنقل اهتمامها تدريجياً إلى المنطقة العربية، لتتولى إدارة مشروع طويل الأمد يحمل عنوان "تمثلات عربية معاصرة" في مدينة برشلونة الإسبانية.
يذكر هنا ان ديناميكيات العلاقة بين المهرجان والفاعلين الثقافيين في أوروبا، تكررت مع مهرجان "ارتجال" للموسيقى التجريبية الذي ثابر منذ انطلاقته العام 2000 (أي قبل عام من توقف "أيلول") على دعوة موسيقيين تجريبيين وفاعلين ثقافيين، ما أمّن حصول مؤسسي المهرجان لاحقاً على دعوات لتقديم عروضهم في مهرجانات وفعاليات شبيهة.
أدى هذا التوجه الجديد وغير المسبوق للفنانين اللبنانيين، إلى قطع مع الجيل السابق، ما يظهر بشكل فاقع في حالة فناني التجهيز العابرين للأنماط، الذين سيقدمون أعمالهم، للمرة الأولى، بشكل جماعي العام 1995 في حديقة الصنائع، بعد عدد من العروض الفردية طوال سنوات ماضية، ويبقى أبرزها تجهيز زياد أبي اللمع على شاطئ انطلياس الذي انقلب على تقاليد الفن الطويلة.
من ناحية اخرى، تراجعت حدة هذا التناقضات في بعض الحالات، خصوصاً تجاه أعضاءِ موجة الستينات التشكيلية، مثل هاغيت كالاند وسلوى رضوى شقير وإيتيل عدنان، اللواتي كنّ ملهمات في بعض المواضع للفنانين المعاصرين، ما ينطبق أيضاً على كتّاب ومفكرين وسياسيين كان لديهم تأثير من الناحية النظرية فقط (لم يُترجم ضمن الممارسات الفنية) مثل وضاح شرارة وأحمد بيضون.
يبقى الاستثناء الوحيد ضمن اللائحة، هو الروائي الياس خوري، الذي لعب دوراً محورياً في تلك الفترة، ليس فقط من خلاله مساهمته في تأسيس وإدارة مهرجان "أيلول"، بل أيضاً عبر إشرافه على فضاءين اعتُبرا يومها في غاية الأهمية لفناني ذلك الجيل، هما "مسرح بيروت" الذي استقبل عروض المهرجان (مع "مسرح المدينة")، والملحق الثقافي في جريدة "النهار" الذي شكل فضاءً للكتابة والنقاش والتفكير.
طبعاً لعبت اهتمامات الفنانين ومواضيعهم دوراً في تحديد مدى تواصلهم مع الجيل السابق، مثلاً في حالة ربيع مروة، الذي رغم تخلّيه عن القوالب المسرحية التقليدية منذ عرضه الأول في مهرجان أيلول، إلا ان أعماله بقيت قابلة للهضم من الجيل السابق بسبب أسلوبها الفني البسيط، وتناولها مواضيع مرتبطة بالمشهد الإيديولوجي والسياسي خلال الحرب. ينطبق ذلك أيضاً على حالة محمد سويد الذي شكل صلة وصل بين جيلين، فقدم أعمالاً بمضمون اجتماعي - وثائقي وسياسي مرتبط بشكل خاص بتجربة اليسار في الحرب ونوستالجيا الفن خلال القرن العشرين.
يتعاطي المعرض/التجهيز الفني مع المهرجان، بصفته موضوعاً من الماضي، منفصلاً عن الحاضر كلياً، مع أن الحدث ما زال حاضراً بقوة في الذاكرة الثقافية لبيروت، وتأثيره ما زال ملموساً، باعتبار أن فاعليه الأساسيين هم بمثابة الآباء المؤسسين للمشهد المعاصر الحالي، والدور الذي لعبه في إخراج الفن اللبناني من النطاق المحلي إلى الفضاء المعولم، ما زلنا نعيش تبعاته حتى اليوم.
ولد المهرجان العام 1997، بمبادرة من باسكال فغالي والروائي الياس خوري، ليكون أحد أول الفعاليات المخصصة للفنانين اللبنانيين الذين يقدمون أعمالاً خارج الأنماط المعتادة، بعضها ظهر للمرة الأولى في بيروت مثل المحاضرات الأدائية، الرقص المعاصر، والفيديو. خلال تلك الفترة، كان الفن المفاهيمي قد بدأ يشق طريقه في بيروت من خلال أعمال مجموعة من الشباب، بعضهم تخرج حديثاً من الجامعة وعاد إلى لبنان بعد انتهاء الحرب (من فرنسا والولايات المتحدة تحديداً).
ربطت هؤلاء رؤى مشتركة حول الفن، وجدت جذورها في موجات مثل الدادائية وفلوكسوس وغيرها، التي عادت للهيمنة على مناخات الفن في أوروبا والولايات المتحدة خلال تلك الفترة، ما سيترجَم توسعاً ممأسساً للفعاليات والمعارض الفنية التي تتسم بعبور الأنماط المختلفة واستضافة فنانين من حول العالم.
طرحت الموجة الجديدة في بيروت الأسئلة البديهية مجدداً، حول طبيعة الفن ووظيفته وطرق تلقيه، كما ساءلت علاقات السلطة بين الفنان وموضوعه وجمهوره، بالإضافة إلى إعادة الاعتبار للمعنى السياسي لليومي والذاتي المقموع لفترة طويلة ضمن ممارسات الفن التقليدي. أما المشترك من الناحية العملية، فكان تطويع الأنماط الفنية المختلفة أو "تحطيمها" وتفكيكها، لتصبح اكثر مرونة وقدرة على العبور بين ممارسات فنية مختلفة، لتمثيل تعقيدات الحاضر بشكل افضل.
استقبل المهرجان خلال مسيرته التي امتدت خمس سنوات، 40 فناناً لبنانياً، نذكر منهم وليد رعد، وليد صادق، أكرم الزعتري، رانيا اسطفان ربيع مروة، منى حلاق، نادين توما، محمد سويد.. بالإضافة إلى 20 فناناً أجنبياً، علماً أن المهرجان لم يتحول إلى مهرجان دولي سوى في سنته الثالثة، عندما بدأ بدعوة فنانين تجريبين ضمن مجالات كالفن الأدائي، الرقص المعاصر، التجهيز، وبعضهم امتلك شهرة عالمية في المجال الذي يقدمه. من بين هؤلاء روبرت بوب ويلسون، كزافييه لو روي، جيروم بيل، وتوماس ليمان.
سمح هذا التطور لإدارة المهرجان بنسج علاقات مع فاعلين ثقافيين ومنسقين وصحافيين أوروبيين، سيبدأون بالمجيء إلى بيروت تدريجياً للتعرف اكثر على المشهد الفني المحلي (كان المهرجان جزءاً من شبكة IETM - Informal European Theatre Meetings). مثلاً يخبرنا وليد صادق في مقابلة سابقة مع "المدن"، أن باسكال فغالي رتبت بعد نسخة المهرجان الثالثة، مقابلات بين عدد من الفنانين، ومنسقين/قيمين فنيين أوروبيين، بهدف الاتفاق على عرض أعمال محددة في أوروبا، وقد حصلت المقابلة في مقهى المودكا في رأس بيروت، أحد المقاهي الأكثر شهرة في بيروت خلال تلك الفترة (تحدث صادق حينها عن إشكالية تعديل الفنانين أعمالهم لتتلاءم مع ما يريده مدراء المهرجانات الأوروبية).
من أبرز الأسماء التي أتت إلى بيروت، كاترين دافيد، وهي قيمة فنية كانت تتولى العام 1997 إدارة معرض دوكومينتا الشهير، في مدينة كاسل الألمانية، وستنقل اهتمامها تدريجياً إلى المنطقة العربية، لتتولى إدارة مشروع طويل الأمد يحمل عنوان "تمثلات عربية معاصرة" في مدينة برشلونة الإسبانية.
يذكر هنا ان ديناميكيات العلاقة بين المهرجان والفاعلين الثقافيين في أوروبا، تكررت مع مهرجان "ارتجال" للموسيقى التجريبية الذي ثابر منذ انطلاقته العام 2000 (أي قبل عام من توقف "أيلول") على دعوة موسيقيين تجريبيين وفاعلين ثقافيين، ما أمّن حصول مؤسسي المهرجان لاحقاً على دعوات لتقديم عروضهم في مهرجانات وفعاليات شبيهة.
أدى هذا التوجه الجديد وغير المسبوق للفنانين اللبنانيين، إلى قطع مع الجيل السابق، ما يظهر بشكل فاقع في حالة فناني التجهيز العابرين للأنماط، الذين سيقدمون أعمالهم، للمرة الأولى، بشكل جماعي العام 1995 في حديقة الصنائع، بعد عدد من العروض الفردية طوال سنوات ماضية، ويبقى أبرزها تجهيز زياد أبي اللمع على شاطئ انطلياس الذي انقلب على تقاليد الفن الطويلة.
من ناحية اخرى، تراجعت حدة هذا التناقضات في بعض الحالات، خصوصاً تجاه أعضاءِ موجة الستينات التشكيلية، مثل هاغيت كالاند وسلوى رضوى شقير وإيتيل عدنان، اللواتي كنّ ملهمات في بعض المواضع للفنانين المعاصرين، ما ينطبق أيضاً على كتّاب ومفكرين وسياسيين كان لديهم تأثير من الناحية النظرية فقط (لم يُترجم ضمن الممارسات الفنية) مثل وضاح شرارة وأحمد بيضون.
يبقى الاستثناء الوحيد ضمن اللائحة، هو الروائي الياس خوري، الذي لعب دوراً محورياً في تلك الفترة، ليس فقط من خلاله مساهمته في تأسيس وإدارة مهرجان "أيلول"، بل أيضاً عبر إشرافه على فضاءين اعتُبرا يومها في غاية الأهمية لفناني ذلك الجيل، هما "مسرح بيروت" الذي استقبل عروض المهرجان (مع "مسرح المدينة")، والملحق الثقافي في جريدة "النهار" الذي شكل فضاءً للكتابة والنقاش والتفكير.
طبعاً لعبت اهتمامات الفنانين ومواضيعهم دوراً في تحديد مدى تواصلهم مع الجيل السابق، مثلاً في حالة ربيع مروة، الذي رغم تخلّيه عن القوالب المسرحية التقليدية منذ عرضه الأول في مهرجان أيلول، إلا ان أعماله بقيت قابلة للهضم من الجيل السابق بسبب أسلوبها الفني البسيط، وتناولها مواضيع مرتبطة بالمشهد الإيديولوجي والسياسي خلال الحرب. ينطبق ذلك أيضاً على حالة محمد سويد الذي شكل صلة وصل بين جيلين، فقدم أعمالاً بمضمون اجتماعي - وثائقي وسياسي مرتبط بشكل خاص بتجربة اليسار في الحرب ونوستالجيا الفن خلال القرن العشرين.