إدوارد سعيد... شِعر عروبي وروايات غير مكتملة
ذُكر في تقرير نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية، وترجمه ابراهيم درويش الى العربية، إن الباحث والناقد الفلسطيني الأميركي، إدوارد سعيد، صاحب كتاب "الاستشراق" و"الثقافة والامبريالية"، حاول دائماً كتابة رواية لكنه لم ينجح، أو فشل، وبقيت كتاباته مخطوطات في أدراجه. كما كتب بعضاً من الشِّعر في الخمسينيات وكان متجذراً في عروبته. ويتوقع أن يكون هذا الكشف عن جوانب في مسيرة سعيد، باباً جديداً للنقاش حول ثقافته واختياراته، وأن يطرح أسئلة جديدة حول الرواية ودورها وتأثيرها.
فقد كشفت سيرة ذاتية جديدة لسعيد، أعدها تيموثي برينان، أحد طلاب سعيد وهو حالياً يدرّس الأدب المقارن في جامعة مينيسوتا، إن تدريس سعيد للأدب جعله يرفض الرواية كنوع أدبي، في العام 1992، من ناحية قدرتها على تغيير الكون... (مع أنه تناول في أبحاثه الكثير من الروايات العالمية، وساهم في الترويج لبعض الأسماء العربية مثل الياس خوري، وأثنى بشكل خاص على رواية "موسم الهجرة الى الشمال" للطيب صالح). واستطاع برينان الوصول، بعد نَيل موافقة عائلة سعيد، إلى مخطوطات غير منشورة وغير مكتملة للناقد، في كتاب صدر عن دار بلومزبري بعنوان: "أماكن العقل: حياة إدوارد سعيد". وكان سعيد يعتقد، بشكل واضح، أن عمل الناقد الأدبي أهم من العمل الذي يقوم به الشعراء والروائيون، لأن النقاد في الحياة العامة هم الكتّاب الذين لديهم القدرة على تحدي السلطة وتغيير العالم. لكن برينان يكشف أن سعيد كانت له محاولات شعرية وروائية، مع أنه لم يذكرها لأصدقائه.
وخلّف سعيد الذي توفي في 2003، نصين روائيين غير منشورين، وقصة قصيرة رُفضت، و20 قصيدة. ويقول برينان: "أعتقد أنه عانى صعوبات كبيرة في كتابة الرواية"، مضيفاً: "اكتشف فشلاً في مشروع الرواية إن كنتَ تريد تغيير العالم". واكتشف سعيد بشكل مباشر، التحديات التي تواجه الكتّاب الذين يحاولون التدخل السياسي عبر كتابة الرواية. لكنه قرر أن يُبقي هذه النظرة الشخصية المحرجة، سراً، مع روايتين غير منشورتين وغير مكتملتين، واللتين يعلق برينان عليهما بأنهما تحملان رؤية سياسية وذاتية وتدور أحداثهما في الشرق الأوسط.
الأولى وهي بعنوان "المرثية" وتتكون من 70 صفحة وتدور أحداثها في القاهرة حيث قضى سعيد طفولته في حقبة الأربعينات من القرن الماضي، وبدأ بكتابتها العام 1957، عندما كان في سن 22 عاماً، وقبل عشرين عاماً من كتابه "الاستشراق". والسؤال الذي سيطرحه كثيرون، هل عدم نجاح إدوارد سعيد في كتابة رواية، تجعله يتخذ هذا المواقف؟ وماذا لو نجح في كتابة رواية، هل كان ليقدم موقفاً آخر؟ وهل إن قدراته الفكرية وكثافة نصوصه، تجعله لا ينسجم مع السرد الأدبي؟ وهو هنا، بشكل من الأشكال، يذكرنا بموقف بورخيس من الرواية..
ومثل الكثير من الروائيين والمفكرين العرب، بدأ إدوارد سعيد حياته الثقافية شاعراً، والشعر بالنسبة إليه كان نوعاً من حماسة عروبية، كتب بعضها في الخمسينيات من القرن الماضي، وتعبّر عن "مواقف واضحة معادية للاستعمار"، وتعطي صورة عن "العيش بين عالمين" ومعنى أن تنشأ في المشرق. حيث يقول في واحدة من روايتيه: "الجميع رؤوسهم تتجه، مثل ديوك الطقس، إلى الغرب". وما كتبه في قصائده المغمورة، تجلى في كتاباته الاستشراقية لاحقاً، وبحسب برينان هناك قصائد تعبّر عن رؤية شخصية عميقة، "وأعتقد أن أفضل قصيدة كانت عن ممارسة الحب، فهي جنسانية ومفزعة، ومن المرجح أنه كتبها عن علاقته الإشكالية مع زوجته الأولى في 1962.. هناك كشف مفاجئ للإحساس بالغربة والخوف من الشخص الذي ربطتك بع علاقة حميمة. وتعبّر عن الشكوك في ولاء المرأة التي تحبها".
وفي أثناء البحث، اكتشف برينان أن سعيد كان محباً لأعمال شاعر العصر الفيكتوري الانكليزي، جيرار مانلي هوبكنز، وكان يقرأ شعره لزوجته بشكل مستمر. أما عنوان العمل القصصي الوحيد الذي أكمله، فقد أخذه من قصيدة هوبكنز "تابوت للمستمع"، وهي قصة قصيرة حول رجل شاب من بيروت أجبر في النهاية على التعرف على ما عانته عائلة فلسطينية صديقة عندما أجبرت على الخروج من بيتها. وبعد رفض مجلة "نيويوركر" الأميركية لهذه القصة في 1965 توقف سعيد عن الكتابة الروائية لمدة 25 عاماً.
ويرى برينان أن أعمال سعيد الأدبية الأولى تظهر أنه لم يكن بعيداً من السياسة، ولا كما قيل أنه لم يهتم بها إلا بعد حرب الأيام الستة في 1967، مؤكداً: "هذه أسطورة، وبطرق عديدة، قبل هذا التاريخ، كان منغمساً بعمق في ما جعله لاحقاً مساره الاحترافي".
وفي العام 1987 بدأ سعيد عمله الروائي الثاني، والذي كان عبارة عن رواية إثارة سياسية عن الخيانة، وتدور أحداثها في بيروت العام 1957 وحافلة بالتجسس، مثل رواية من روايات جون لوكاريه، و"كانت عن التآمر السياسي المحيط بغزو أميركي والقوى المختلفة المشاركة فيه".
وكتب سعيد 50 صفحة منها، لكنه تركها من أجل التفرغ لكتابة مذكراته "خارج المكان" بعدما اكتشف إصابته بمرض سرطان الدم (لوكيميا). وحينها خرج بقناعته بأن المثقفين أهم من الكتّاب "فهم الذين يغيرون الأجندة ويتحدّون السلطة"، وتجلت تنظيراته في هذا المجال في كتابه "صور المثقف".