شذا شرف الدين: خرائط الأحاسيس في "رسالة إلى الأب"
في "مركز مينا للصورة"، الذي يفتح أبوابه للمرة الأولى منذ انفجار المرفأ، عرضت الفنانة شذا شرف الدين، نسخاً متعددة بالألمانية والعربية من رسالة كافكا الشهيرة الى والده(1919)، مكتوبة بخط ضئيل يصعب فهمه.
نُشرت الرسالة الأصلية للمرة الأولى العام 1952، حيث كتبها الروائي المعروف لوالده كنوع من تصفية الحساب، إلا أنها لم تصل يوماً إلى هدفها، بسبب تواطؤ الأم في البداية وعدم إعطائها الرسالة للوالد، ثم اقتناع كافكا لاحقاً بعدم جدواها أو استحالة الإمكانية أصلاً للتواصل مع والده، بما يجعله قادراً على استيعاب مضمونها.
وبالفعل حين نقرأ الرسالة الأصلية، تؤكد لنا أن فعل الكتابة هنا، رغم المجهود المبذول من قبل الأديب، هو فعل عبثي ولا جدوى منه. فما الهدف من كتابة رسالة إلى شخص لن يتمكن من فهمها؟
نصوص مقدسة
تشكل رسالة كافكا تلخيصاً لعجز التواصل بين أجيال من الأبناء والآباء، أو بين القابعين في أسفل الهرم والموجودين في الأعلى. لذلك تختار شذا شرف الدين، التي عاشت ديناميات العلاقة نفسها مع والدها، كتابة رسالة بخط صغير غير قابل للفهم، مُكررةً بعد قرن من الزمن، الفعل العبثي نفسه الذي قام به الأديب. لكن هذه المرة، عوضاً عن كتابة رسالة لشخص لن يقرأ، تختار منع قابلية القراءة منذ البداية عبر تشويه الرسالة الأصلية. وبعكس حالة كافكا، الذي لم يجد من يتلقى رسالته، تتوجه رسالة شرف الدين إلى طرف مستعد للتلقي هو جمهور المعرض. ويواجه الجمهور هذا سؤالاً ليس بسيطاً: كيف عليه قراءة الرسائل؟
وفق شرف الدين، النتيجة النهائية التي وصلت إليها الرسائل، هي بالنسبة اليها أقرب إلى "خرائط الأحاسيس": "حين بدأتُ بنسخ الرسالة وجدتُني أكتب بشكل حلزوني على الورقة، يبدأ النص في متن الصفحة فتدور السطور حول بعضها البعض باتجاه هامشها... وإذ راحت الكلمات تتشكل أمامي على شكل خرائط مجهولة الحدود والمسار، كنت أنسخ الكلمات بحركة تلقائية أجعل فيها يدي تتحرك على إيقاع تحدده الفقرات أو الكلمات، إلى أن تشكلت أمامي معالم الخريطة للنسخة العربية من الكتابة والتي جاءت على شكل المخطوطات العربية القديمة".
لكن حين ندخل المعرض، تظهر النصوص لنا كأنها من كتاب تاريخي مقدس، رغم أنها لم تأتِ من أب/إله يرسل تعاليمه لأبنائه، مثلما هو الحال في الكتب المقدسة، بل من أحد الأبناء/إحدى البنات في محاولة لفرض سردية جديدة تحكم العلاقة بالوالد.
فعلاً، كل شيء في المعرض يعطي طابعاً مقدساً، إن كان تركيز الإضاءة على الرسائل وخفوته حولها، أو خصوصية القاعة التي تمتلك سقفاً مرتفعاً جداً وتصميماً أقرب للقلعة أو المعبد (تصميم المهندسة لينا غطمة).
يعزز من الطابع الأبوي/المقدس أيضاً، استعمال شرف الدين أوراقاً مصنوعة يدوياً، مستوردة من الهند والمكسيك، كانت في الماضي تُكتب عليها النصوص الدينية، بالاضافة إلى اختيار الفنانة استخدام الخط غير المفهوم، الذي يعيد إنتاج الخلل في التواصل بين طرفين، أحدهما يستولي على المعنى وآخر يحاول جاهداً تفكيك شيفرته (أيضا اختارت شرف الدين تعويض الخلل في التواصل، من خلال فرضه بشكل قسري، كأداء صوتي يصدح في الصالة، لا يمتلك المتلقي خياراً سوى سماعه).
تشير عليا كرامة، المتخصصة في الفنون الإسلامية، في النص المرافق للمعرض، إلى قواسم مشتركة بين النصوص المعروضة والمخطوطات الإسلامية، تحديداً "ألبومات المرقعة" التي كانت سائدة في حقبات مختلفة من التاريخ الإسلامي.
ربما يصح ذلك بشكل خاص على النصوص المكتوبة بالعربية (النصوص مقسومة إلى نسخ مكتوبة بالألمانية وأخرى بالعربية) التي كتبتها شرف الدين، كأنها لوحات، حيث تتشكل من كتل/مقاطع من الكلمات الموزعة على سطح الورقة، تختلف بمسارات الجُمل وشكل الخط وتركيزه، بينما تمتلك قواسم مشتركة تجعلها كالأعمال الزخرفية – الصوفية: عناصرها الأساسية المقطع والكلمة، بينما ألوانها، الحبر الذي يختلف تركيزه بحسب اختلاف التراص بين الكلمات.
في كل الأحوال، رسائل شرف الدين هي في النهاية أعمال فنية، تقدم منتجاً روحياً، لا خلاصات مباشرة ورسائل للاستهلاك الجاهز، بينما تترك الحرية للمتفرج بتحديد شكل العلاقة التواصلية التي يريدها معها، بغض النظر إن كانت لوحة، تجهيزاً، أو "خريطة أحاسيس".