صياغة الدستور السوري: ليس لدى المجتمع المحلي مَن يراسله!
يوازن الوجيه الأربعيني، العباءة، على كتفيه، ملتفتاً يميناً ويساراً قبل أن يتحدث، أو بالأحرى يجري حركته هذه إيذاناً للحاضرين بأنه سيتكلم. يُطعّمُ جمله بكلمات فصيحة، توحي بمكانة اجتماعية وتعليمية، على عكس كثيرين من الوجهاء المحليين الذين يكتفون عادة بالمنزلة الاجتماعية. يُداخل برصانة الواثق ليختم كلامه بالتشديد على أن عشيرته: "تقدم مكانة الأكاديميين والمتعلمين من أبنائها لأنها تدرك أن الزمن تغير..."
ربما هذا الإدراك للتغيرات لا يقتصر على الوجيه المذكور، وهو ما يدفع الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين اليوم في محافظتي الرقة ودير الزور، إلى الاجتماع لمناقشة العملية السياسية واللجنة الدستورية في سوريا ودورهم فيها، فأحوالهم وأحوال مناطقهم بعد السنوات الداعشية لا تزال على هامش الأجندة الوطنية والسياسية، وهذا ما يشكو منه نشطاء ومثقفون وأكاديميون منحدرون من الرقة ودير الزور.
فالمدينتان اللتان عرفتا سنوات حكم التنظيم الوحشي، استيقظتا من الكابوس الداعشي على دمار مهول خلفته العمليات العسكرية والقصف المتواصل. ولم يجد أبناء تلك المناطق منقذاً لهم من هذا الجحيم، في ظل غياب الدولة وانهيار نظام خدماتها منذ سنوات، وتهافت القوى السياسية المعارضة وعدم قدرتها على تحمل مسؤولية الأهالي الذين يفترض أنهم جمهورها، ويستحقون ممن تنطع لواجهة المعارضة بعض الاهتمام.
والحال هنا، أن منظمات المجتمع المدني تلعب دوراً مهماً في محافظتي الرقة ودير الزور، خاصة مع غياب القوى السياسية الفاعلة. فهذه المنظمات اليوم والتي تساهم في إعادة استقرار قرى ومدن المحافظتين من خلال عمليات ترميم المدارس والمشافي وإنارة الطرقات وإزالة الردم ودعم المشاريع الزراعية، تبادر منذ مدة إلى عقد جلسات نقاش وندوات حول العملية السياسية واللجنة الدستورية التي بدأت جلساتها في جنيف برعاية من الأمم المتحدة وبحضور مبعوثها الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون.
تعكس هذه الجلسات" بقية أمل لدى السوريين بتعزيز الروابط الوطنية" كما يقول أحد النشطاء قبل إشارته بحسرة إلى أن "سنوات الحرب مزقت النسيج الوطني والمجتمع المحلي، ولا بد من صيغة قانونية تكفل تعاون الناس وتسيير أمورهم وذلك كي لا يتكرر ما حصل".
إلا أن الحاضرين في هذه الجلسات من وجهاء وناشطين وفاعلين سياسيين وحقوقيين يدركون تماماً أن القوانين والدساتير لا تستطيع وحدها أن تكفل لهم مستقبلاً أفضل، خاصة وأنهم يشعرون بتغييبهم المقصود عن العملية السياسية.
تنشط منظمات المجتمع المدني اليوم شبه وحيدة في ساحة الشأن العام في المدينتين. ففي دير الزور، تعمل منظمتا "حماية البيئة والتنمية المستدامة" و"سامة" على عقد جلسات وورش عمل دورية تهدف إلى التعريف بالدستور والمبادئ الدستورية، وكيفية صياغة الدستور وطبيعة الدولة وأشكال نظم الحكم.
وعلى المنوال نفسه يمكن لأي متابع أن يلحظ نشاط جمعية "بيت المواطنة" التي تنظّم جلساتها في مدينة الرقة وريفها. لكن اللافت للانتباه، حضور النساء وتفاعلهن في النقاش وطرح الأفكار في الجلسات التي تعقدها بشكل دوري المنظمات، وذلك على رغم ما قد يسمعنه أحياناً من آراء لا تسر أي طامح أو طامحة للتغيير.
تطرح هذه الجلسات اليوم، مساحة للنقاش ولإبراز دور المجتمع المحلي والفاعليات الأهلية والمدنية في العملية السياسية، بعد التغييب الذي عاناه السوريون عن السياسة وعن شأنهم العام منذ عقود. هذا التغييب الذي يأخذ صبغة خاصة في مناطق الجزيرة السورية، إذ لطالما ترافق مع تهميش اقتصادي واجتماعي عمقته السياسات الاقتصادية للنظام قبل الحرب، ثم أظهرت الحرب وجهه المأسوي.
ورغم أن الملف السوري والعملية السياسية باتت خارج أيادي السوريين، نظاماً ومعارضة منذ سنوات، إلا أن المبادرة التي بدأتها منظمات المجتمع المدني في الرقة ودير الزور، بعقد هذه الجلسات ساهمت في إظهار حيوية لم يفتقدها السوريون رغم سنوات القتل والحرب. كما أعادت التذكير بقدرة أصحاب الحقوق المهدورة على تشخيص مشكلتهم الأساسية، كأن يُسمع صوت ناشط في إحدى الجلسات يطالب أعضاء اللجنة الدستورية المحسوبين على المعارضة "بعدم الجلوس على طاولة مفاوضات قبل أن يتوقف النظام عن قتل الأطفال وتشريد المدنيين على أقل تقدير".
هذه الحيوية تدفع النقاش إلى نقطة جوهرية أخرى، وهي مسألة العلمانية وفصل الدين عن الدولة. ورغم أن هذه المسألة بالتحديد تكشف حساسيات متراكمة، إلا أن نقاشها يكتسب أهمية قصوى في زمانه ومكانه بالتحديد. ففي الوقت الذي رفض فيه وفد النظام في جنيف الإشارة إلى علمانية الدولة وبالتأكيد يشاركه كثيرون من معارضيه هذا التوجه، كان هناك ناشطون وحقوقيون ووجهاء في الرقة ودير الزور يتحدثون صراحة عن ضرورة العلمانية وفصل الدين عن الدولة في الدستور، ويبحثون رأيهم هذا مع ناشطين ووجهاء ومحامين آخرين يعارضونهم تماماً. ورغم خفوت أصوات المتحدثين، من الرأيين، ووضوح مداراتهم لحساسيات بعضهم بعضاً في هذه النقطة، إلا أن طرح المسألة للنقاش العام يُحسب لهذه المبادرة التي قادتها منظمات المجتمع المدني.
كذلك تتوجب الإشارة إلى التوصيات التي أنتجها بعض هذه الورش والتي عكست في غالبيتها المطالب الأولى للانتفاضة الشعبية في سوريا، إذ شددت الأوراق على أهمية التمتع بحياة سياسية حرة في ظل دولة القانون والمواطنة التي تحفظ المساواة بين مواطنيها من دون تمييز. كما برز التشديد على مبدأ فصل السلطات وتحديد صلاحيات الرئيس ومدة ولايته، إضافة إلى دور الجيش وصلاحيات الأجهزة الأمنية تلك التي ساهمت في دمار اجتماع السوريين ومجتمعهم.
وبالعودة إلى الوجيه المحلي المذكور في البداية، تُرى هل ستصل رسائله هو وباقي النشطاء والحقوقيين إلى اللجنة الدستورية؟ وهل ستأخذ تمثيل هذه المنطقة في الاعتبار؟ أم أنه ليس لدى المجتمع المحلي مَن يراسله؟