سالمونيلا تميم يونس.. وصمة الصواب السياسي
في الأغلب لا أحد يستخدم المصطلح بشكل إيجابي. يُلقى "الصواب السياسي" في وجوه أصحابه كوصمة ينبغي التبرؤ منها، كعنوان لتزمُّت وضيق أفق، أخلاقية متشنجة وعالية الصوت تقود حملات لصيد الساحرات، ترصد متحفزاً دائماً بنزعات محافظة ورجعية بإسم الحقوق، وتبرر قمعية أخلاقية جديدة لها قشرة تحريرية. يعود جزء لا بأس به من تلك الدلالات السلبية إلى استحضار الجدل الدائر حول المصطلح في الغرب، سواء التهجم اليميني والمحافظ عليه، أو الكثير من النقد ذاتي من جهة اليسار. إلا أن الأمر لا ينحصر في مجرد استحضار جدل من خارج السياق، فالحساسية العربية تجاه الصواب السياسي مبررة تماماً.
فحين يتعلق الأمر بالأعمال الإبداعية ومجال الإنتاج الترفيهي، يتصادم مفهوم "الصواب" مع صراع طويل ومحلي في سبيل تحرير الفنون والآداب من وصاية المؤسسة الدينية والرقابة والأخلاق العامة، وكذا من معايير الصواب والخطأ حين يتعلق الأمر بالجمالي. أما مفهوم "السياسي" فليس أفضل حظاً. فتاريخ قاتم من البروباغندا الفنية المرتبطة بأنظمة حكم تتميز بالقمع والفساد، لا يدع مجالاً للزج بالسياسي في شأن الفني. العدَاء للمحتوى وفصل المجالات، بجعل الجمالي مستقلاً بذاته ولذاته، كان من الأفكار الأساسية التي قادت محاولات تجريبية وتحريرية بعدما تراجعت "الواقعية الإشتراكية" إلى الأرشيف الإيديولوجي. هكذا، تبدو الصوابية السياسية مثل ردّة أو انتكاسة مؤقتة في أفضل الأحوال.
حين ثار الجدل قبل أيام حول أغنية "سالمونيلا" للمصري تميم يونس، وما إذا كانت تحض على العنف ضد النساء أم لا، لم يستخدم أي من منتقديها مصطلح "الصواب السياسي"، بل على العكس، استخدمه المعترضون على النقد الموجّه للأغنية. فالصوابية السياسية وصمة كافية لنزع المصداقية عن هذا النقد. بدت الأغنية، لكثيرين، سخرية بريئة من نموذج ذكوري ينتمي إلى الطبقات الدنيا، وربما بدت تنمراً طبقياً ذكورياً في أسوأ الأحوال، لا حضّ ولا تحريض. محتوى هزلي بغرض الترفيه، لا يحتمل كل هذا التفلسف والحديث عن السياق ووضع المرأة في مصر وغيره. ببساطة، الأمر مجرد مزحة، ربما تكون سمجة، لكنها تظل مزحة.
وجاء إعلان المجلس القومي للمرأة عن سعيه إلى رفع فيديو الأغنية عن موقع "يوتيوب"، تأكيداً لمخاوف خصوم الصواب السياسي. فكل تلك الرطانة عن التفكيك والنسوية وغيرها، لا تخفي وراءها سوى ميول قمعية، وتنتهي بالمنع والمسح والتقييد وما شابه.
في الجانب الآخر، كانت عملية تحرش جماعي في مدينة المنصورة، تمّ تصويرها وتداولها بكثافة كافية لتأييد موقف الرافضين للأغنية، وللتهديد الذي يبدو صريحاً في بيتها المقرر "عشان تبقي تقولي لا". تكتب ياسمين زهدي في موقع "مدى مصر"، عن الجدل حول "سالمونيلا"، وعن "الخط الفاصل بين التهريج الفارغ والنقد الساخر". فهي لم تر في الأغنية حضاً على العنف ضد المرأة، كما أنها لم تجد فيها نقداً ساخراً منه كما أدعى صانعها تميم يونس لاحقاً. ولا يبدو أن أحداً يعادي "التهريج الفارغ" بوجه عام، فالاعتراض موجه ضد افتقاد الحساسية، أي معالجة مسألة العنف ضد النساء في ظل وضع عام مُعادٍ لهن بشكل كاسح لمجرد التهريج، من دون تفكير في النتائج.
في كل هذا، يتفق معظم المشاركين في الجدل على قناعات الصواب السياسي بشكل أو بآخر، أي بمرجعية أخلاقية ما للحكم على الجمالي وعلى قناعة بتأثير الفني وتبعاته العميقة وطويلة المدى وغير المباشرة. لكن يظل الخلاف على التأويل وقياس النتائج وتفسير السياق. مَن يقوم بالتأويل؟ وكيف يمكن الوصول إلى إجماع ما على نتائج عمل فني أو ترفيهي ما؟ وطبقاً لأي قواعد للقياس؟ فالمدافعون عن الأغنية لم يدافعوا عن حق مُطلَق لصاحبها في التعبير، بل ببساطة رفضوا تأويلاً بعينه لها. غالباً ما ينتهي معظم أعداء الصواب السياسي على أرضيته، أو قريبين جداً من حدودها.
معركة التأويلات المتناقضة والمختلفة لا يمكن حسمها في معظم الأحيان، ومن المستحسن أن تظل معلقة دائماً بلا حسم، وربما هنا يكمن جوهر الصواب السياسي وفاعليته. فتح ساحة الصراع على التأويل وعلى الحق فيه، وإمكانية الإجماع عليه من عدمه. وضع الفني والجمالي وغير المباشر، تحت عدسة الفحص الدائم والتشكك والقلق. وإرغام الجميع، وبالأخص العاملين في مجالات تنتج خطابات لها صفة العمومية، على مواجهة سؤال التبعات، والتحلّي بقدر كافٍ وضروري من الحساسية تجاه السياق والتلقي والنتائج والتاريخ. هكذا، فإن التوازن بين الصواب السياسي والتهجم عليه، هو الجدلية الأكثر تأثيراً اليوم. ليس بفرض وصاية أخلاقية على الجمالي، كما يقول البعض، بل في الحفاظ على الإثنين، الأخلاقي كما الجمالي، كمشاريع دائمة للتساؤل، والشد والجذب، وعدم الاتفاق المزمن والقلق والتمزق بين المتعة الخالصة والشعور بالمسؤولية تجاه العالم، هكذا كما ينبغي بها أن تكون؛ حية ومصدراً لضوضاء لا تهدأ.