"نتفليكس" تسحب من واقعية ماركيز سحريتها
"لنتفليكس" علاقات متوترة في كل ما يخص السينما، بدءاً من مهرجان "كان" السينمائي الذي منع عرض أفلام من إنتاج الشبكة في دورته الأخيرة، ورفض رئيس لجنة التحكيم في الدورات السابقة، الإسباني بيدرو ألمودوفار، منح السعفة الذهبية لفيلم من توزيع الشبكة قائلاً إن فيلم السعفة الذهبية لا بدّ أن ينزل إلى صالات السينما. مروراً ببيان لسلسلة سينمات في بريطانيا توجَّهت به قبل أيام إلى إدارة "بافتا" (الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون) تحذيراً بمقاطعة الحفلة بسبب منح فيلم "روما" جائزة أفضل فيلم. وصولاً إلى معارك بين الشبكة ورموز سينمائية في هوليوود مثل ستيفن سبيلبرغ الذي اتخذ المواقف أعلاه تجاه أفلام الشبكة. لذلك كله سبب أساسي واحد، هو رفض "نتفليكس" عرض أفلامها في شاشات السينما، وحصر ذلك عفي شاشة التلفزيون وباشتراكات.
كان غريباً أن تجد إعلانات فيلم "روما" للمكسيكي ألفونسو كوارون، الذي وزّعته "نتفليكس"، تملأ محطات المترو في مدينة مثل باريس، حيث للسينما -صناعةً وصالات وتيارات ومحبين- مكانة خاصة، مع عدم القدرة على مشاهدته في أي من صالات المدينة، بل فقط في المنزل على أي من الشاشات فيه (لابتوب، آيباد، تلفزيون) وقد تم احتواء السينما بتكنولوجيا الشركات الإلكترونية الكبرى.
لمحبي السينما إذن مخاوف من سيطرة الشبكة الأميركية على صناعة السينما في العالم، فتبدأ صالات بالإقفال، وصنّاع سينما بالتوجّه إلى ما تريده الشبكة (المسلسلات أولاً)، تماماً كما بدأت مكتبات بالإغلاق خلال العقد الأخير إثر انتشار الأجهزة اللوحية والكتب الإلكترونية.
قد تكون هذه المخاوف استباقية، هي نسخة حديثة من مخاوف (سينمائية) قديمة رافقت صناعة التلفزيون. لكن، يبقى للكتب الورقية قرّاؤها، كما يبقى للصالات السينمائية مرتادوها، يبقى هناك من لا يستطعم تلقّي الفيلم عبر شاشة مضيئة يسندها على حضنه.
لكن ماذا لو تحوّلت الكتب إلى مسلسلات؟
ليست السينما في المقام الأول ترفيهاً، لكنّها، بمعيّة "نتفليكس"، هي كذلك. الفيلم عند الشبكة أحد خيارات المشاهدة، يأتي مجانباً لـ"ستاند أب كوميدي" أو "تلفزيون الواقع". والأدب يمكن أن يكون كذلك متى تَنَتْفْلَكس.
مَن قرأ رواية "مئة عام من العزلة"، قد يستصعب تخيّل إمكانية تحويلها إلى فيلم أو مسلسل، إلى عمل يتم مشاهدته. السياق الترفيهي الذي وضعت فيه الشبكةُ الأفلام (مجانبةً مع البرامج الأخرى) ستضع فيه الأدب من خلال تصوير إحدى أهم روايات القرن العشرين، التي بمشاهدها وسردها و"الواقعية السحرية" فيها، يكاد يكون نقلها إلى الشاشة فعلاً إقصائياً تجاه خيالات القراء، فعلاً تجريدياً للرواية من بناها الأساسية وهي الحرية الذاتية التخيّلية في تلقّي الجانب السحري في الحكاية عبر الكلمات. ولسنا هنا أمام مسألة تحويل رواية عظيمة إلى فيلم، فكثير من الروايات العظيمة كان أساساً لأفلام عظيمة، لكن ذلك كان ضمن إطار الفنّية، مع صنّاع أفلام فنّانين كالفرنسي جان لوك غودار في "احتقار" عن رواية بالعنوان ذاته للإيطالي ألبرتو مورافيا، والأميركي فرانسيس فورد كوبولا في "أبوكاليبس ناو" عن رواية "قلب الظلام" للبريطاني جوزيف كونراد، وغيرهما الكثير. لكن مسألة تحويل نص أدبي إلى الشاشة اختلف مع "نتفليكس" التي لو اتّجهت إلى تحويل الرواية إلى فيلم، لاختلفت (قليلاً فقط) مقاربتنا للموضوع. "قليلاً فقط"، أقول، لأنّ هناك رأياً قديماً لكاتب الرّواية في تحويلها لفيلم.
قد لا يكون رأي أحدنا في نقل رواية ماركيز إلى مسلسل نتفلكسيّ بأهميّة رأي ماركيز ذاته في روايته ونقلها إلى السينما، وذلك في حوار له مع مجلة «ذا باريس ريفيو» أُجري شتاء العام 1981، إذ قال في إجابة عن سؤال: "لا أريدها (مئة عام من العزلة) أن تصبح فيلماً، كون مُشاهد الفيلم يرى وجهاً ما كان له أن يتخيّله"... "لا غاية لدي في جعلها فيلماً، وما دمتُ أستطيع منع ذلك، فلن يحصل".
في الخبر عن شراء "نتفليكس" حقوق تحويل الرواية إلى مسلسل، نقرأ أنّ ابنَي الروائي ماركيز، سيكونان المنتجين المنفّذين، وهما مع العائلة أصحاب حقوق إرث والدهما الروائي. يقول أحدهما إن أباه كان رافضاً لفكرة تحويل الرواية إلى فيلم بسبب عدم قدرة نقل الواقعية السحرية في الرواية إلى فيلم ببنية تقليدية. يضيف الابن (المنتج المنفّذ) إن التوقيت لن يكون أفضل من الآن لتحويلها إلى مسلسل، ونحن نعيش "العصر الذهبي للمسلسلات" و"تقبّل الجمهور العالمي لبرامج بلغات أجنبية". طبعاً، لا يمكن فصل ذلك عن النجاح الذي حققه كل من مسلسل "ناركوس" وفيلم "روما" الناطقين بالإسبانية والمعروضين على شاشة الشبكة.
قد يكون ابنا ماركيز هنا منتجَين، أكثر من كونهما قارئين مخلصين لأدب أبيهما أو لرأيه في تحويل أدبه (الرواية هذه تحدياً)، إلى الشاشة. لم يكن ماركيز بالمناسبة سعيداً بفيلم "الحب في زمن الكوليرا" المبني على روايته.
في تحويل الرواية إلى مسلسل، ستعرف ملايين إضافية من النّاس عن عائلة بوينديا وقرية ماكوندو، لكن هناك مَن سيهملون قراءة رواية من مئات الصفحات، لأنّهم شاهدوا مسلسلاً بحلقات عديدة واكتفوا منه بالحكاية. كأنّ الحكاية عبر مسلسل، هي ذاتها عبر الرواية! سيزداد عدد المشاهدين على حساب عدد القراء، سيكون المسلسل أداة التلقي الجديدة لتلك الحكاية. وسيكون التلفزيون ناقلها الأكثر تداولاً حينها، لا الكتاب.
ليس هذا حتمياً، لكنّها قراءة متشائمة أتوقّعها بالنّظر إلى انحيازات "الجماهير" إلى الترفيه التلفزيوني والمنزلي، مقابل السينما والأدب، السينما في الصالات، والأدب على الكنبة. لا أقول بأنّ الصالات والكتب ستختفي، لكن من المحزن أن يقل عدد الرؤوس في صالات السينما، وأن يحمل المتنقلون في عربات المترو هواتفهم بدلاً من الكتب، بسمّاعات في آذانهم، يكملون مشاهدة حلقة من مسلسل عبر الشبكة التي ترافقك مثل "أخ" جورج أورويل "الأكبر" أينما ذهبت.