"شكل الماء".. السنتمنتالية تقتل
لدينا الجميلة (سالي هاوكينز) وهي امرأة منعزلة تحتفظ ببعض شبابها وفي طبعها رقة وخِفّة واضحتين، تحمل اسماً يخدّم على الصورة التي يريد الفيلم تقديمها عليها. إليزا إيسبوسيتو، ولقبها يعني اليتيمة، صامتة منذ إصابتها في حادث خطير يُبقي الفيلم على غموضه، تعمل كعاملة تنظيف في أحد المراكز الحكومية حيث تُجرى بعض التجارب السرّية والحسّاسة. نحن في الستينيات، في قلب بالتيمور التي كانت لا تزال عشوائية وغير مرغوب العيش فيها. تعيش الجميلة في منزل قديم يعلو إحدى صالات السينما القديمة يملكها أحد محبي الظلال الفضيّة وملاحم الكتاب المقدس، ويجاورها رسّام عجوز (ريتشارد جينكنز) ذهب مجده وعكف ما تبقى من حياته على الرسم لكسب العيش واختبار معاناته الجنسية ومشاهدة أفلام هوليوود الموسيقية في عصرها الذهبي أيام الأربعينيات والخمسينيات. بينما الوحش (مجسَّماً بواسطة الكمبيوتر) يحضر مزيجاً من سمكة ضخمة وجسد بشري، عثر عليه الأميركيون في أدغال البرازيل وأرادوا استغلاله لإجراء التجارب عليه في المركز حيث تعمل جميلة بالتيمور الصامتة.
لا يبدو الأمر كمزحة، ولكن "ذي شيب وف ووتر"، المتوج بأسد مهرجان فينيسيا الذهبي قبل 6 شهور (في حضور فيلمين لدارين أرنوفسكي ومارتن ماكدوناه)، والمنتظر تتويجه بعد أيام بأوسكار أفضل فيلم لعام 2018؛ ليس سوى إعادة صياغة فاقدة النضارة لأمثولة "الجميلة والوحش" كما ظهرت في فيلم خمسيني بعنوان "كريشر فروم ذي بلاك لاغون"، بحضور نفس ثيمات الزيف الاجتماعي والأبعاد الأنثروبولوجية وإضافة توابل درامية ملائمة للفترة الحالية (عنصرية وحقوق نساء وهوموفوبيا ونوستالجيا)، مبنية بالكامل من أجل صناعة فن سينمائي يستعير خاماته الأساسية من حكايات الأطفال الخرافية وجاهز لاستهلاك المتفرجين الكبار الباحثين عن خيبة أمل رومانتيكية تستنزف ما لديهم من رصيد "المُحن" والسنتمنتالية المخزنة.
تجتمع الجميلة بالوحش في الطابق السفلي من المختبر، حيث يتعرض الكائن البرمائي لتجارب قاتمة لا يستطيع القدر الكبير من القسوة المستخدمة فيها تعريفنا بالكيفية أو الأسباب التي ستجعلها حاسمة في تقدّم الأميركيين على حساب السوفييات في سباق الفضاء: مرة أخرى، نحن في الستينيات، والكلبة لايكا أوصلها السوفييات إلى الفضاء، وها هم يتبعوها بيوري غاغارين، والأميركيون يعصرون أدمغتهم للاستفادة من ذلك الكائن البرمائي وإرساله إلى الفضاء. تقرر الجميلة إنقاذ الوحش حين تعلم بنية التخلّص منه وقتله، وحتى ذلك التطور الدرامي الذي سيمدّ في زمن الفيلم ساعة كاملة يبدو غير مفهوم بالمرة، رغم محاولة الفيلم تعليله بسذاجة مباشرة توضّح فيها الجميلة أوجه شبهها بذلك الوحش المنبوذ من الجميع. إلى ذلك، ستضع الجميلة خطة التهريب، بمساعدة جارها العجوز وزميلتها السمراء (أوكتافيا سبنسر)، وستهديها المصادفة تعاوناً من أحد العلماء (مايكل ستولبرغ) يعمل لحساب الموساد والكي جي بي معاً. في النهاية، يصل الوحش بسلام إلى بيته الجديد، حوض استحمام الجميلة، ذلك الذي ظهر في أول مشاهد الفيلم والبطلة تستمني بداخله، ليكون عليه الحضور من جديد شاهداً على حصول صاحبته على الحب الحقيقي، بمضاجعتها إلهاً سابقاً في حمّامها الذي تحوّل –بغلق الأبواب والنوافذ وفتح صنبور المياه- إلى بحيرة صغيرة تليق بقصة الحب الخيالية.
الآن، نحن أمام حب بلا حدود، سائل ومتدفق مثل ماء يحاوط ويُغرِق، بما في ذلك منزل الجميلة والسينما أدناه، منغمساً في الموسيقى التصويرية المتخمة بإفراط مجاني. هذا هو "ماستر سين" الفيلم، أو ما يُفترض أن يكونه.
لكن هل يمكن أن يغيب الشرير الذي يضع نفسه في منتصف قصة الحب الخيالية تلك؟ بالتأكيد لا. وفي الواقع، شخصية الضابط ريتشارد ستريكلاند (مايكل شانون) هي واحدة من هذه الشخصيات الكاريكاتورية في شرّها وغدرها، ومناسبة تماماً لأجواء تلك الحكايات الطفولية: هو ممثل الحكومة المسؤولة عن الأمن، وهو على صلة بالرتب العسكرية الأعلى التي في يدها تقرير مصير الكائن البرمائي، وفي لحظة ما سيكون القرار بإماتته، بعد المرور بفقرة تعذيب سادية له (ليس من الواضح سببها مع ذلك)، وفي النهاية سيكون عليه مطاردته بعد تحريره من طرف الجميلة. بالتالي، فإن البناء الذي يعتمد عليه "ذي شيب أوف ووتر" ليس سوى هيكل حكاية خرافية معاصرة للبالغين، تتخلّلها قصص إثارة ودراما وحتى جاسوسية وهزليات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيياتي، لأنه من الواضح أننا في ذروة تلك المناكفات بين القطبين الساعيين لتأكيد ريادتهما عالمياً. العنصر الشاذ الوحيد وسط تلك الحبكة الحاضر لإضفاء الكوميديا كأولوية، هو شخصية العالم روبرت هوفستيتلر (الذي نعرف لاحقاً أنه جاسوس سوفيياتي، بل إن اسمه الحقيقي ديمتري).
ثم بالطبع هناك هذه الثيمة المألوفة عن الموهوبين الأوتسايدرز وغريبي الأطوار الذين نلتقيهم في أحوالهم البائسة متروكين ومهملين ليعانون وحدةً ونبذاً اجتماعياً لا يستحقونه بما هم عليه، وعن الحب الجمعي الذي يفتح أكواناً لانهائية أمام الفرد بعدما ظنَّ أنه متروك للاستمناء في حوض الاستحمام حتى آخر حياته، وعن الوحش الذي ليس بوحش حقيقي لأن البشاعة تقيم في كل مكان حولنا. ساعتان وبضع دقائق هي مدة الفيلم، وفي لحظات معينة يطفو الملل فوق ما يظهر على الشاشة، متوقعاً ومعاداً ومكروراً، وقليل من تلك اللحظات المملّة يخدم إعادة البناء لتلك الفترة الزمنية التي يستدعيها الفيلم ويطرّزه بمشهد يستحق التنويه (الوحش الواقف أمام الشاشة الكبيرة التي تعرض فيلما مقتبساً من حكايات الكتاب المقدس في صالة السينما أسفل منزل الجميلة).
"ذي شيب أوف ووتر" مخيّب للغاية وغير ناجح إلا في تغذية فخر هوليووي مدموغ بقدرته الفائقة على حبك قصص إنسانية ساذجة بسنتمنتاليتها الفاقعة ووعدها الدائم بتكبير المدى الممكن لحياة كل فرد من جمهورها، وهو نهج يصل أقصاه في المشهد الختامي من الفيلم الذي يترك المتفرجين مع نهاية سعيدة لا تخلو من المرارة (bittersweet)، تحصل فيها الجميلة على حياة أخرى في عالم غير عالمها الأصلي الظالم. ربما هذا الوعد بحياة أخرى جديرة بالإنسان، يرغب فيها ويألفها، هو السرّ وراء الأزيز المدائحي في حق الفيلم منذ بدء موسم الجوائز، لكن، ثمة فيلم آخر من خارج هوليوود يستحق العودة إليه في خضم ذلك التهافت على فيلم ديل تورو وقصته الخيالية عن قصة حب تجمع امرأة ووحش. في فيلم "العم بونمي الذي يمكنه تذكر حيواته السابقة" للمخرج التايلاندي أبيشاتبونغ ويراسيثاكول، ثمة مشهد في منتصف الفيلم يحدث في زمن حلمي أو فوق واقعي يمثّل حكاية أسطورية عن قصة حب بين أميرة تايلندية ومخلوق مائي في سفح شلال. مشهد بديع لا تتجاوز مدته خمس دقائق، لكنه يحمل تأثيراً يفوق كل هذه الدقائق المجانية المهدورة في فيلم ديل تورو للخلوص إلى النتيجة ذاتها: الحب يمكن العثور عليه في أكثر الأماكن غير المتوقعة، ونحن بما نحن عليه فعلاً وليس بما يظهر علينا.
في الأخير، ربما يكون عديم الجدوى في هذه الحالة، مع فيلم يحمل رسالة مباشرة وبديهية من فرط قدمها، أن يتبادر فور نهايته سؤالان إلى الذهن: ما الذي جعل فيلماً كهذا يدخل المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي (مسألة فوزه بالجائزة الكبرى للمهرجان تظل لغزاً غير مفهوم)؟ وقبل كل شيء، بما أننا على أعتاب تتويج متوقع لهذا الفيلم بحفنة من جوائز الأوسكار: كيف يمكن للجنة تحكيم (أو أي هيئة مشابهة) أن تصدر قراراً بتتويج ذلك الفيلم على حساب فيلم مثل "فانتوم ثريد" يفوقه في كافة العناصر الفنية تقريباً أو فيلم مثل "كول مي باي يور نيم" أو حتى "ثري بيلبوردز أوتسايد إيبينغ ميزوي"؟ وهذا الأخير مثال آخر لأفلام تأخذ أكثر مما تستحق، فقط لأنها تداعب خيال وأذواق فئة سائدة ترضى بالإشارة إلى أطراف أشياء ومسائل تصادف أنها تشكّل "تريند" في لحظة معينة.
(*) يُعرض حالياً في سينما متروبوليس أمبير صوفيل (الأشرفية – بيروت)
(**) هامش: ذكر موقع bbcأن فيلم "شكل الماء" يواجه، قضية انتهاك حقوق الملكية الفكرية، حيث يُزعم أنه استنسخ "بوقاحة" قصة مسرحية نشرت عام 1969.
وقد رفعت عائلة الكاتب المسرحي الحاصل على جائزة بوليتزر، بول زيندل، دعوى ضد المخرج غييرمو ديل تورو والشركة المنتجة للفيلم. وقال ديل تورو إنه لم يسمع أبدا بالمسرحية قبل صنعه فيلم "شكل الماء" وكذلك الحال مع شركائه الآخرين.
وقد قاضت عائلة الكاتب زيندل الاستوديو والمخرج وآخرين في محكمة في كاليفورنيا الأربعاء، قائلين إن الفيلم "متطابق في عدد من النواحي" مع مسرحيته "دعني أسمع همستك". وتحكي المسرحية قصة هيلين، عاملة تنظيف وظفت حديثا للعمل في مختبر تجرى فيه تجارب على الدلافين. فتنمي علاقة مع أحد هذه الدلافين وتسمعه موسيقى في محاولة للكلام والتواصل معه.
وزعم المحامي مارك توبروف أمام المحكمة أن ثمة 61 تشابها بين العملين، قائلا إن كليهما من قصص الحرب الباردة في الستينيات عن عاملة غير متزوجة وعلاقتها مع كائن مائي. وهذا الكائن في المسرحية دولفين، أما في الفيلم فهو كائن برمائي لديه زعانف وخياشيم. وقال "على الرغم من تقديم فيلم "شكل الماء" إلى الجمهور على أنه عمل خيال علمي وفنتازيا بالغ الأصالة، لكنه في الواقع ينسخ بوقاحة قصة وعناصر وشخصيات وثيمات من عمل الكاتب الفائز بجائزة بوليتزر بول زيندل".
وهذه ليست المرة الأولى التي يُتهم بها الفيلم بالانتحال أو السرقة الفنية، ففي وقت سابق هذا العام خلصت أكاديمية السينما في هولندا أن فيلم "شكل الماء" لا صلة له بفيلم قصير يدعى "الفضاء الذي بيننا" بعد أن زعم بعض المشاهدين أن ثمة تشابهات بين الفيلمين.