"الداخل" و"الخارج" السوري.. احتكار المأساة
لعل المرة الأولى التي استُخدم فيها تعبير "الداخل السوري"، بعد اندلاع التظاهرات في البلاد العام 2011، كانت في بيان لمجموعة من السينمائيين السوريين جاء تحت عنوان "بيان سينمائيي الداخل السوري"، رداً على نداء لسينمائيين أعلنوا تضامنهم الصريح مع الثورة، وكان هذا الأخير موجهاً إلى سينمائيي العالم لـ "المساهمة في وقف القتل بكشفه وشجبه" و"التضامن مع شعب سوريا وحلمه بالعدالة"، كما كان واضحاً في الانحياز إلى المتظاهرين، معتبراً أن «إصلاحاً لا ينطلق من كفّ يد الأجهزة الأمنية عن عيش المواطنين والكفّ عن منح هذه الأجهزة الحصانة والرخصة للقتل أو الاعتقال أو التعرض للمتظاهرين السلميين وإغلاق صفحة السجن السياسي إلى الأبد، هو إصلاح موؤود».
ومع أن أصحاب الـ "نداء" لم يصنّفوا أنفسهم تحت بند "خارج" أو "داخل" فقد جاءت عنونة بيان "زملائهم" بـ "بيان سينمائيي الداخل" كنوع من الاتهام، فهؤلاء هم "الخارج" بما يعنيه هذا من شبهة التواطؤ مع جهات خارجية، ومؤامرات كونية، خليجية، صهيونية، ترمي إلى النيل من سوريا! ولم يكن هذا مجرد تحليل، فلقد جاء البيان مصدقاً لتلك الاتهامات بحق "زملاء" كانوا للتو قد عملوا معاً، ناضلوا، وحققوا أفلاماً سينمائية مشتركة.
قال البيان، ومن أبرز موقّعيه: دريد لحام وبسام كوسا وسلاف فواخرجي وأيمن زيدان وعباس النوري وسلوم حداد وعبد اللطيف عبد الحميد وجود سعيد وريمون بطرس وسمير ذكرى ونجدة إسماعيل أنزور وغسان شميط وباسل الخطيب..، إنه يأتي "لخطورة الأوضاع"، و "لخروج أصوات بضعة من سينمائيين سوريين متجاوزين الوطن عبر نداء وجهوه إلى كلّ السينمائيين في العالم وشارك في التوقيع عليه إسرائيليون"، معتبراً أن ما جاؤوا به هو "التحريض والتجييش وبثّ الفتن التي ينتج عنها سفك الدم السوريّ البريء". ولم يتردد البيان باتهام المتظاهرين: "التظاهر السلمي لأجل الإصلاح لا يتمّ بالتلطي بالمساجد وانتهاك حرمتها"، خاتماً بهتاف "نعم للمضيّ قدماً نحو الإصلاح والتغيير بقيادة رئيس الجمهورية العربية السورية بشار الأسد".
في السنوات التالية لم يكفّ إعلام النظام، ومعه مختلف الشبيحة والرماديين، بل ومعه معارضون، بحسن نية أو من دونها، عن استخدام نغمة "الخارج" نفسها، وإلصاق اتهامات العمالة والارتهان والخيانة وسواها لمواطنيهم الذين باتوا خارج البلاد، وهم بالملايين كما نعلم. على الأقل لطالما سمعنا نغمة اتهام "الخارج" بأنهم يتحدثون من أمكنة آمنة ومريحة، ولا يحق لهم بالتالي الحديث عما يجري في "الداخل"، فهم مصابون بالفصام، ومتوقفون عند اللحظة التي تركوا فيها البلاد.
وكجزء من شيطنة "سوريي الخارج" كان لا بد من ابتكار خط خاص باللاجئين، هؤلاء الذين لا يُعترف بهم في الإعلام والأدبيات الرسمية إلا كمهاجرين، أو مهجّرين، ومنفيين، وهاربين، وانتهازيين.. وسنقرأ تحقيقات مطولة في الصحافة الرسمية تقدم إحصاءات وشهادات عن إساءات السوريين الجدد في أوروبا لسمعة سوريا، تلك السمعة الطيبة التي كرّستها النخب السورية السابقة التي جاءت أوروبا قبل الحرب، ثم أفسدها القادمون الجدد، المتأسلمون، الفاسدون، المجرمون، القادمون من بيئات معدمة، بلا تعليم، ولا تنمية، ولا سلوك متحضر، وكأن حكومات النظام معفية من كل ذلك، لو صحّ.
كان مرعباً أيضاً أن يقع معارض مخضرم وفنان بارز كيوسف عبدلكي في فخ معادلة الداخل-الخارج المزعومة تلك. فهو يقول، في مقابلة على قناة "فرانس24"، "أعتقد أن رواية المعارضة في الداخل كانت الأكثر صوابية، لأن المعارضة في الخارج دعت إلى التسلح، وإسقاط النظام بالقوة المسلحة.. بينما كانت المعارضة في الداخل ترى الأمور أكثر تعقيداً من التصورات التبسيطية للمعارضة في الخارج". ويضيف "أعتقد لو كانت هي (المعارضة) موافقة على أن الوضع في سوريا لا يمكن حلّه إلا بتوافق ما باقتسام سلطة ما، كنا وفرّنا على بلدنا وعلى سوريا نصف مليون ضحية وعشرات من القرى والمدن المدمرة وملايين المهجرين واللاجئين". ثم يستدرك "من المؤكد أن الذي ارتكب كل هذه الارتكابات أولاً هو النظام، لكن أيضاً المعارضة في الخارج، بواسطة داعميها، أعطوه التبريرات ليرتكب هذه الارتكابات".
هكذا إلى أن يصل الفنان عبدلكي إلى دعوة "فناني الخارج" لـ "عودة آمنة ومضمونة" إلى البلد كشرط، لـ "دور كبير جداً": "الفنانون السوريون الموجودون في الخارج، وهم بالعشرات، هؤلاء لهم دور كبير جداً في الفن السوري، لكن هذا مرهون بعودتهم إلى سوريا، عودة آمنة ومضمونة، حتى يقدروا يمارسوا حياتهم وفنهم كما يجب".
سنستمع إلى نغمات كثيرة تعزف على لحن الداخل والخارج، من دراسات وأبحاث تختص بسينما "الداخل"، وروايته، ومختلف فنونه وآدابه، وغالباً من سيقوم عليها هم أقرب للرواية التي يروجها النظام (يندر أن ترى في أدبيات معارضي النظام من يقسم بين "داخل" و"خارج"، فالصيغة المعتمدة لدى هؤلاء تتحدث عن موالين للنظام ومعارضين)، وعلى سبيل المثال نقع على بحث يتناول الأفلام الوثائقية السورية صادر عن مركز أبحاث يمثل وجهة نظر النظام لا يرى الباحث فيه سوى أفلام ينتجها النظام، وحين يصل إلى ما ينتجه مخرجون ينتمون إلى معارضة "الخارج" لن يجد ما يقوله سوى الشتائم، حتى وإن بلغت الأوسكار، فهؤلاء هم "موتورو الحرية، عاشقو نيتشه، ومصفقون لأبي بكر البغدادي وملحقاته".
في هذا السياق ستنتعش "نظرية الصمود"، تلك التي يناكف بها بعض من بقي في البلد مواطنيهم "الهاربين"، من دون أي تقدير للأسباب المروعة التي أدت إلى هجيج نصف السوريين، وغالباً ما سيواجَه السوريون اللاجئون بتشكيك من نوع "أي خطر جابهت حتى تترك البلد"، أو "الوطن ليس فندقاً نتركه حين تسوء الخدمه فيه"، أو "إذا مرضتْ أمك هل تدير لها ظهرك وتمضي؟".
الآن، وبعد ما يعتقده النظام انتصاراً على المؤامرة الكونية، يبدو أنه متفرغ لمرحلة ما بعد "النصر" ومحاولة كسر الحصار، ولذلك سنجد أن جوائز حازها فيلم ممثل له في "أيام قرطاج السينمائية" الأخيرة، كما عرض مسرحي في "أيام قرطاج المسرحية"، ستحظى بتطبيل استثنائي، وبالضبط تحت عنوان الأعمال الإبداعية التي تسهم في كسر الحصار.
وفي لندن افتتح أخيراً معرض تشكيلي تحت عنوان "قصص من الداخل" لأربعة فنانين مقيمين في سوريا هم أسماء فيومي (حازت في آب الماضي جائزة الدولة التقديرية من وزارة الثقافة)، إدوار شهدا، باسم دحدوح و نزار صابور. من حق التشكيليين، موالين أو معارضين، أن يعرضوا أينما شاؤوا، لكن عنوان المعرض بدا مستفزاً بعض الشيء، ربما لأنها محاولة لاستثمار قضية لا يمثلها هؤلاء بالفعل، أو لأنها محاولة احتكار القضية السورية برمتها.
كلمة "الداخل" توحي وكأن مأساة السوريين اليوم هي "الداخل" المحاصر وحده، بينما الحكاية هي كل السوريين. ليقل لنا هؤلاء الفنانون أي قصص من الداخل يحملونها في لوحاتهم. حرية التعبير؟ القتل تحت التعذيب؟ أحوال أبناء البلدات الخارجة من الحصار؟ مراكز الإيواء؟ أي معركة يخوضها هؤلاء باسم "الداخل"؟ وللمصادفة فقد أتى افتتاح ذلك المعرض في وقت اعتقال النحات السوري سهيل ذبيان من قبل أجهزة الأمن من دون أن تجد موقفاً متضامناً من أي منهم مع زميلهم المعتقل.
ليس من المتوقع أن تخفت نبرة الداخل- الخارج قريباً، فمهما استتب الأمر للنظام سيظل هناك ما يقض مضجعه، هو ملايين اللاجئين السوريين الذين توزعوا حول العالم، وبات كل منهم شاهداً وحكاية تشير بوضوح إلى أصل المصيبة، وما دامت أصابعهم مرفوعة سيظل هناك من يبتكر صراعات وهمية تجهد في تضليل وجهة الحقيقة.
كان مرعباً أيضاً أن يقع معارض مخضرم وفنان بارز كيوسف عبدلكي في فخ معادلة الداخل-الخارج المزعومة تلك. فهو يقول، في مقابلة على قناة "فرانس24"، "أعتقد أن رواية المعارضة في الداخل كانت الأكثر صوابية، لأن المعارضة في الخارج دعت إلى التسلح، وإسقاط النظام بالقوة المسلحة.. بينما كانت المعارضة في الداخل ترى الأمور أكثر تعقيداً من التصورات التبسيطية للمعارضة في الخارج". ويضيف "أعتقد لو كانت هي (المعارضة) موافقة على أن الوضع في سوريا لا يمكن حلّه إلا بتوافق ما باقتسام سلطة ما، كنا وفرّنا على بلدنا وعلى سوريا نصف مليون ضحية وعشرات من القرى والمدن المدمرة وملايين المهجرين واللاجئين". ثم يستدرك "من المؤكد أن الذي ارتكب كل هذه الارتكابات أولاً هو النظام، لكن أيضاً المعارضة في الخارج، بواسطة داعميها، أعطوه التبريرات ليرتكب هذه الارتكابات".
هكذا إلى أن يصل الفنان عبدلكي إلى دعوة "فناني الخارج" لـ "عودة آمنة ومضمونة" إلى البلد كشرط، لـ "دور كبير جداً": "الفنانون السوريون الموجودون في الخارج، وهم بالعشرات، هؤلاء لهم دور كبير جداً في الفن السوري، لكن هذا مرهون بعودتهم إلى سوريا، عودة آمنة ومضمونة، حتى يقدروا يمارسوا حياتهم وفنهم كما يجب".
سنستمع إلى نغمات كثيرة تعزف على لحن الداخل والخارج، من دراسات وأبحاث تختص بسينما "الداخل"، وروايته، ومختلف فنونه وآدابه، وغالباً من سيقوم عليها هم أقرب للرواية التي يروجها النظام (يندر أن ترى في أدبيات معارضي النظام من يقسم بين "داخل" و"خارج"، فالصيغة المعتمدة لدى هؤلاء تتحدث عن موالين للنظام ومعارضين)، وعلى سبيل المثال نقع على بحث يتناول الأفلام الوثائقية السورية صادر عن مركز أبحاث يمثل وجهة نظر النظام لا يرى الباحث فيه سوى أفلام ينتجها النظام، وحين يصل إلى ما ينتجه مخرجون ينتمون إلى معارضة "الخارج" لن يجد ما يقوله سوى الشتائم، حتى وإن بلغت الأوسكار، فهؤلاء هم "موتورو الحرية، عاشقو نيتشه، ومصفقون لأبي بكر البغدادي وملحقاته".
في هذا السياق ستنتعش "نظرية الصمود"، تلك التي يناكف بها بعض من بقي في البلد مواطنيهم "الهاربين"، من دون أي تقدير للأسباب المروعة التي أدت إلى هجيج نصف السوريين، وغالباً ما سيواجَه السوريون اللاجئون بتشكيك من نوع "أي خطر جابهت حتى تترك البلد"، أو "الوطن ليس فندقاً نتركه حين تسوء الخدمه فيه"، أو "إذا مرضتْ أمك هل تدير لها ظهرك وتمضي؟".
الآن، وبعد ما يعتقده النظام انتصاراً على المؤامرة الكونية، يبدو أنه متفرغ لمرحلة ما بعد "النصر" ومحاولة كسر الحصار، ولذلك سنجد أن جوائز حازها فيلم ممثل له في "أيام قرطاج السينمائية" الأخيرة، كما عرض مسرحي في "أيام قرطاج المسرحية"، ستحظى بتطبيل استثنائي، وبالضبط تحت عنوان الأعمال الإبداعية التي تسهم في كسر الحصار.
وفي لندن افتتح أخيراً معرض تشكيلي تحت عنوان "قصص من الداخل" لأربعة فنانين مقيمين في سوريا هم أسماء فيومي (حازت في آب الماضي جائزة الدولة التقديرية من وزارة الثقافة)، إدوار شهدا، باسم دحدوح و نزار صابور. من حق التشكيليين، موالين أو معارضين، أن يعرضوا أينما شاؤوا، لكن عنوان المعرض بدا مستفزاً بعض الشيء، ربما لأنها محاولة لاستثمار قضية لا يمثلها هؤلاء بالفعل، أو لأنها محاولة احتكار القضية السورية برمتها.
كلمة "الداخل" توحي وكأن مأساة السوريين اليوم هي "الداخل" المحاصر وحده، بينما الحكاية هي كل السوريين. ليقل لنا هؤلاء الفنانون أي قصص من الداخل يحملونها في لوحاتهم. حرية التعبير؟ القتل تحت التعذيب؟ أحوال أبناء البلدات الخارجة من الحصار؟ مراكز الإيواء؟ أي معركة يخوضها هؤلاء باسم "الداخل"؟ وللمصادفة فقد أتى افتتاح ذلك المعرض في وقت اعتقال النحات السوري سهيل ذبيان من قبل أجهزة الأمن من دون أن تجد موقفاً متضامناً من أي منهم مع زميلهم المعتقل.
ليس من المتوقع أن تخفت نبرة الداخل- الخارج قريباً، فمهما استتب الأمر للنظام سيظل هناك ما يقض مضجعه، هو ملايين اللاجئين السوريين الذين توزعوا حول العالم، وبات كل منهم شاهداً وحكاية تشير بوضوح إلى أصل المصيبة، وما دامت أصابعهم مرفوعة سيظل هناك من يبتكر صراعات وهمية تجهد في تضليل وجهة الحقيقة.