"قصر الكتب" لروجيه غرينييه.. هل نكتب لنكون محبوبين؟
الغنى الذي يحمله هذا كتاب "قصر الكتب" يعود إلى الحياة الشخصية لمؤلفه روجيه غرينييه (1917 – 2017)، الذي عمل في دار غاليمار على مدى خمسين عاماً، والكتاب عن تلك التجربة التي كتبها المؤلف بدايةً على شكل مقالات تتناول العديد من المسائل الأدبية والفلسفية والفنية، ومن ثم جمعها في كتاب تُرجم من قبل زياد خاشوق، وصدر عن دار المدى.
يرى غرينييه أن القراءة فعل من أفعال الحياة الخاصة، مثلها في ذلك مثل الكتابة، إن لم نقل أكثر، فيكتب: "في خلوة مع الكتب، ربما سنجد أنفسنا في تلك الصفحات التي كتبها شخص آخر، حياتنا نحن بالذات، التي نجهلها إلى حد بعيد، نعتقد فجأة أننا أصبحنا نفهمها، فالخيال يعلمنا عن أنفسنا أكثر مما يعلمنا الواقع".
هكذا يرى روجييه غرينييه، أنه ومن خلال فعل القراءة، نخلق علاقة شخصية تماماً مع كتّاب الماضي الذين نحبهم، وإن كنا لن نراهم أبداً، لكننا نعزهم، رغم أن السنين، بل القرون، تفصل بيننا وبينهم، لكنهم أقرب إلينا من أفراد عائلتنا، أو أشخاص نعتقد أننا نحبهم، ويمكن أن يصبحوا عزاءنا الوحيد. هكذا كان يشعر مثلاً الكاتب إيليو فيتوريني حيال تشيخوف، فكتب عن شعوره هذا: "في الفترات الأدبية العظيمة، كان هناك دائماً شخص كتشيخوف، شخص قادر على ملامسة نفوس المهزومين المعزولة في عصره في أعمق أعماقها، التي عزلها الهلع والعاصفة".
الحياة الخاصة
الجدل الذي غيّر تاريخ الدراسات الأدبية والنظرة إلى الأدب، هو الجدل الذي دار بين الناقد الفرنسي سانت بوف، وبين الروائي مارسيل بروست، هل نحن بحاجة إلى معرفة الحياة الشخصية للكاتب لفهم أفضل لعمله الفني؟ أم أن السيرة الذاتية للمؤلف لا تقدم ولا تؤخر في قراءة العمل التي تعتمد أولاً وأخيراً على ما هو داخل العمل الفني بمعزل عن حياة مؤلفه أو مبدعه؟ هذا الجدل هو موضوعة واحدة من مقالات الكتاب الذي بين أيدينا.
كان رأي سانت بوف أنه علينا التعرف على الكاتب لمعرفة أدبه: "ليس الأدب بالنسبة لي متميزاً، أو على الأقل منفصلاً، عن بقية جوانب الكاتب. كلما تعددت الطرق والنقاط التي نسلكها من أجل معرفة كاتب ما، كلما كان ذلك أفضل، فأي إنسان ليس مجرد فكر صرف. وطالما أننا لم نطرح على أنفسنا عدداً معيناً من الأسئلة حول المؤلف، وطالما أننا لم نجب على هذه الأسئلة حتى ولو كان ذلك ضمنياً وتجاه ذاتنا، لا يمكن أن نكون متأكدين تماماً من الإلمام به بكامله، حتى لو بدت هذه الأسئلة غريبة كل الغرابة عن طبيعة كتاباته: ما كان رأيه بالدين؟ كيف كان يتأثر بمشهد الطبيعة؟ كيف كان يتصرف بخصوص النساء والمال؟ هل كان فقيراً أو غنياً؟ ما كان نظام حياته، طريقته اليومية في العيش؟ ما كانت رذيلته أن نقطة ضعفه؟ كل إجابات على هذه الأسئلة لها قيمتها وشأنها للحكم على مؤلف كتاب وعلى الكتاب بالذات".
بينما اعتبر بروست أن تلك المعرفة لا تفيد في شيء، وحتى أنها يمكن أن تضلل القارئ: "العمل الفني هو إنتاج لأنا آخر، غير ذلك الذي يظهره الكاتب في عاداته، وفي المجتمع وفي عيوبه". كان فلوبير قد كتب في إحدى مراسلاته عن هذا الشأن: "أنا اعتقد أن ليس على الكاتب أن يترك أثراً عنه في أعماله. فحياته ليست على قدر كبير من الأهمية. بل ينبغي على الفنان أن يتدبر أمره بحيث يقنع الأجيال التالية له بأنه لم يعش". وكذلك تشيخوف أيضاً يسجل في دفاتره: "عندما أقرأ كتباً، لا يهمني معرفة كيف أحب مؤلفوها أو كيف لعبوا بالورق. إنني لا أعرف إلا أعمالهم الرائعة". وكذلك هنري جيمس الذي كتب في قصته القصيرة "الشيء الحقيقي الواجب فعله": "من الأفضل الإكتفاء برسم مسيرة الكاتب الأدبية إذ إن الفنان بأكمله موجود في أعماله، ولا شيء غير ذلك". في هذه الحكاية الخيالية، يظهر شبح كاتب متوفى ليمنع كتابة سيرة حياته.
يؤكد أندريه مالرو، في كتابه "الإنسان المزعزع والأدب"، أن ليس هناك روائي من دون مكتبة. ويعني بذلك أن المرء لا يكتب إلا إذا كان قد تشرب ما كتبه الآخرون من قبله وأن كل كتاب يستند إلى ما سبقه بحيث يصبح بذلك، إن جاز التعبير، استمراراً له. ويمضي فاليري لاربو أبعد من ذلك: "الجزء الأساسي من السيرة الذاتية لأي كاتب يقوم على قائمة الكتب التي قرأها"، ويضيف روجيه غرينييه: "وسيرة الرسام المصور في قائمة اللوحات التي شاهدها".
كان رأي سانت بوف أنه علينا التعرف على الكاتب لمعرفة أدبه: "ليس الأدب بالنسبة لي متميزاً، أو على الأقل منفصلاً، عن بقية جوانب الكاتب. كلما تعددت الطرق والنقاط التي نسلكها من أجل معرفة كاتب ما، كلما كان ذلك أفضل، فأي إنسان ليس مجرد فكر صرف. وطالما أننا لم نطرح على أنفسنا عدداً معيناً من الأسئلة حول المؤلف، وطالما أننا لم نجب على هذه الأسئلة حتى ولو كان ذلك ضمنياً وتجاه ذاتنا، لا يمكن أن نكون متأكدين تماماً من الإلمام به بكامله، حتى لو بدت هذه الأسئلة غريبة كل الغرابة عن طبيعة كتاباته: ما كان رأيه بالدين؟ كيف كان يتأثر بمشهد الطبيعة؟ كيف كان يتصرف بخصوص النساء والمال؟ هل كان فقيراً أو غنياً؟ ما كان نظام حياته، طريقته اليومية في العيش؟ ما كانت رذيلته أن نقطة ضعفه؟ كل إجابات على هذه الأسئلة لها قيمتها وشأنها للحكم على مؤلف كتاب وعلى الكتاب بالذات".
بينما اعتبر بروست أن تلك المعرفة لا تفيد في شيء، وحتى أنها يمكن أن تضلل القارئ: "العمل الفني هو إنتاج لأنا آخر، غير ذلك الذي يظهره الكاتب في عاداته، وفي المجتمع وفي عيوبه". كان فلوبير قد كتب في إحدى مراسلاته عن هذا الشأن: "أنا اعتقد أن ليس على الكاتب أن يترك أثراً عنه في أعماله. فحياته ليست على قدر كبير من الأهمية. بل ينبغي على الفنان أن يتدبر أمره بحيث يقنع الأجيال التالية له بأنه لم يعش". وكذلك تشيخوف أيضاً يسجل في دفاتره: "عندما أقرأ كتباً، لا يهمني معرفة كيف أحب مؤلفوها أو كيف لعبوا بالورق. إنني لا أعرف إلا أعمالهم الرائعة". وكذلك هنري جيمس الذي كتب في قصته القصيرة "الشيء الحقيقي الواجب فعله": "من الأفضل الإكتفاء برسم مسيرة الكاتب الأدبية إذ إن الفنان بأكمله موجود في أعماله، ولا شيء غير ذلك". في هذه الحكاية الخيالية، يظهر شبح كاتب متوفى ليمنع كتابة سيرة حياته.
يؤكد أندريه مالرو، في كتابه "الإنسان المزعزع والأدب"، أن ليس هناك روائي من دون مكتبة. ويعني بذلك أن المرء لا يكتب إلا إذا كان قد تشرب ما كتبه الآخرون من قبله وأن كل كتاب يستند إلى ما سبقه بحيث يصبح بذلك، إن جاز التعبير، استمراراً له. ويمضي فاليري لاربو أبعد من ذلك: "الجزء الأساسي من السيرة الذاتية لأي كاتب يقوم على قائمة الكتب التي قرأها"، ويضيف روجيه غرينييه: "وسيرة الرسام المصور في قائمة اللوحات التي شاهدها".
الحاجة إلى الكتابة
في واحدة من أمتع مقالات الكتاب، يكتب غرينييه: "هل الكتابة سبب للحياة؟ اعتقد أنه من المفيد لنا أن نتطرق إلى هذه المساءلة بتواضع أكبر، بلهجة أخفض، والإكتفاء بالحديث عن الحاجة إلى الكتابة. كيف تتبدى لنا تلك الحاجة ؟ وكيف تتجذر؟". في العام 1921، فتح أدباء الحركة السريالية، لويس أراغون وأندريه بريتون وفيليب سوبو، في مجلتهم التي أسموها على سبيل التورية الساخرة "أدب"، تحقيقاً يطرحون فيه على الكتاب سؤال: "لماذا تكتبون؟"، فظهرت الإجابات المتباينة إما استفزازية أو مبتذلة أو خالية من أي معنى، بحسب رأيهم.
أما ج.ب. بونتاليس فقد ذكّر في حوار له في مجلة "اللحظات الأدبية" بالأهداف الرئيسية التي دفعته للكتابة: "لكي أكون محبوباً بحسب رأي فرويد، ولكي أحظى بالنجاح لدى النساء كما يريد موباسان، ولشدة محبتي لفاليري". لكننا نجد الإجابة الحاسمة لدى صامويل بيكيت: "لا أصلح لغير ذلك". يدعي مونتيني أن ما دفعه إلى الكتابة هو الوحدة: "إنه مزاج سوداوي وبالتالي هو مزاج معاد لتركيبتي الطبيعية، الناجمة عن كآبة الوحدة التي ارتميت فيها منذ بضع سنوات والتي وضعت فوق رأسي بادئ ذي بدء، هذا الحلم بالتنطع للكتابة".
أما كافكا فقد اختار الكتابة لأنها أكثر مواهبه إنتاجيةً: "عندما أصبح واضحاً لي، في بدني وفي كياني، أن توجّه طبيعتي نحو الإبداع الأدبي هو الأكثر إنتاجاً، تزاحم كل شيء في هذا الإتجاه، مهملاً البعض من مواهبي التي كانت منحازة بإتجاه الجنس والشرب والأكل والتفكير الفلسفي وفي المقام الأول الموسيقى. لقد هزلت من كل هذه النواحي".
وبالنسبة للويس غيو فنحن نكتب جميعاً على جداران سجننا، كل كائن بشري محتجز في عزلته. وقد تكون الكتابة منجاه الوحيد، طبعاً، يمكن للمرء الكتابة أيضاً رغبة منه في أن يبقى وحيداً، يكتب للتمتع بصحبة ذاته، امام صفحة من الورق. لكنه يكتب، في أغلب الأحيان، لفرط شعوره بوحدته.
يرى روجيه غرينييه أن هناك من يكتبون طلباً للتقليد، أولئك الذين يريدون تقديم شهادة، أولئك الذين يشعرون بالحاجة إلى التواصل، أولئك الذين يشعرون بالحاجة لإعلان الحقيقة، حقيقتهم، أولئك الذين يشعرون بالحاجة لإختراع الأكاذيب، أولئك الذين يكتبون كوسيط في حالة الوجد. فمثلاً، وبشيء من السذاجة، ادعت المحللة النفسية ماريون ميلنر في كتابها "حياة خاصة"، أنها تكتب عن حياتها من أجل معرفة ما إذا كان بإمكانها اكتشاف القواعد المتعلقة بالشروط التي تتحكم بالحصول على السعادة.
أما عن كتابة هتلر، فيرى بريمو ليفي أن هتلر لم يكتف بكتابة "كفاحي"، لكنه أراد الوصول إلى ما هو أبعد من الكلمات، إلى إعادة تشكيل العالم كما خطط في كتابه. إلا أنه لم ينجح إلا في تدميره.
ومن بين أولئك المدفوعين إلى الكتابة هناك رجال ونساء، وهم عديدون، ممن لم تعطهم الحياة ما يرضيهم، فأغرقوا حزنهم في المحبرة، فالأدب عمل تعويضي. يقول بافيزي: "الأدب وسيلة دفاع ضد إهانات الحياة".
التناقض عند الكاتب هو أنه، من أعماق عزلته، لا يمكنه العمل إلا إذا تخيل جمهوراً. وهذا الجمهور يؤثر، ليس فقط على مبنى العمل، وإنما أيضاً على معناه. يفسر لنا سارتر ذلك في كتابه "ما هو الأدب؟": "لا يمكننا الكتابة دون جمهور ودون أسطورة. الجمهور شكلته الظروف التاريخية، والمفهوم الأسطوري عن الأدب مرتبط إلى بشكل ما بطلبات ذلك الجمهور".
يسخر رولان بارت، أن الكاتب، لم يعد شاهداً على ما هو كوني، بل تحول إلى وعي بائس للذات. ويؤكد: "يكتب المرء لكي يكون محبوباً"، ويضيف: "ويُقرأ من دون أن يحصل على ذلك الحب".
وأخيراً ينهي غرينييه بحثه عن أسباب ودوافع الكتابة بإضافة عامل المتعة المتأتية عنها: "تفترض الكتابة بذل مجهود. إنها عمل. لماذا يلزم المرء نفسه بها في حين أن الأمر الطبيعي أكثر هو أن لا يفعل شيئاً؟ هذا مرده لأن الكتابة هي في الوقت نفسه عمل مضن ومتعة. لا بل أكثر من متعة. لا بل أكثر من متعة".