تاريخية المسيح.. لزيادة المبيعات في "موسم العطلة"
موضوع غلاف مجلة "ناشونال جيوغرافيك" الأميركية هذا الشهر مقالة حملت عنوان "ما الذي يقوله لنا علم الآثار عن يسوع الحقيقي". وكتبت رئيسة التحرير في افتتاحيتها أن المجلة، المعروفة ببعض الرصانة، كلّفت صحافية تعمل في صفوفها، اسمها كريستين رومي، كتابة الموضوع المذكور، لأن رومي من خريجي كلية التاريخ والآثار.
بسرعة يجد المتصفح نفسه أمام إخراج مطبعي فائق الجاذبية، يقترن بصور عالية الاحترافية تظهر المقامات الدينية المنسوبة للمسيح في القدس والناصرة وغيرها. ولا يقل النص جاذبية عن التصوير والاخراج.
لكن المشكلة تكمن في سطحية معالجة موضوع تاريخي على هذا القدر من التعقيد. وما يزيد في الطين بلّة، استناد رومي إلى مقابلات أجرتها مع رجال دين ممن يحملون درجات أكاديمية، في الغالب من مؤسسات دينية، وهو ما يطعن في موضوعية آرائهم.
التحقق من تاريخية المسيح ليس موضوعاً حديثاً، بل يعود في الأوساط الاكاديمية الى العام 1975 على الأقل، عندما قدم المؤرخ الألماني جورج ولز كتابه "هل عاش المسيح؟"، وتعرّض لانتقادات واسعة بعدما أثار تساؤلات لا تزال قيد النقاش حتى اليوم.
ولإثبات أن المسيح شخصية خيالية صنعتها الرواية الدينية، شدد ولز على أنه لا آثار ولا شواهد ولا قرائن حسيّة تثبت تاريخية يسوع المسيح، باستثناء المخطوطات الدينية التي وصلتنا، غالباً عبر أوساط كنسية، معتبراً أن مصلحة المؤسسة الدينية تكمن في الحفاظ على نصوص، والتخلص من أخرى لا تناسب روايتها.
ويبدو أن رومي على دراية بالنظرية التي تطعن في تاريخية المسيح، فتلجأ إلى أسلوب معروف بين المؤرخين، ومبني على اعتبار أن "غياب الدليل ليس دليلاً على الغياب". وما تغفله الكاتبة الأميركية هو الرد على هذه المقولة. فتقديم الدليل، في أية مسألة علمية أو تاريخية، يقع على عاتق صاحب النظرية، وهو ما يعني أنه في حالة تاريخية المسيح، على من يعتقدون بأنه عاش فعلياً أن يقدموا الدلائل والقرائن على وجوده، من خارج النص الديني الذي تختلط فيه المعجزات — مثل السير على الماء وإحياء الموتى — بما قاله المسيح وفعله، والدروب التي سلكها، والبلدات التي عاش فيها.
"قبر يسوع المسيح" في القدس (ناشونال جيوغرافيك)
رومي تتجاوز إشكالية تاريخية المسيح والنقاش حولها، والذي ما زال بعيداً من الحسم، وتتبنى سلسلة من الفرضيات، غالبيتها من "المؤمنين"، لا بتاريخية المسيح فحسب، بل بألوهيته، لتصل الى استنتاج مفاده أن المشككين في تاريخيته هم "من خارج المؤسسة الأكاديمية" (استابلشمنت)، وهي فكرة تعاكس رسالة المسيح نفسها، الذي تنص الرواية الدينية أنه ثار على الناموس وعلى الهيكل وعلى المؤسسة بأكملها.
بعد تخلصها من المشككين، تكتب رومي أن الانقسام ليس حول تاريخية المسيح، فهذا أمر صار محسوماً لناحية تثبيت وجوده، بل إن الانقسام بين الأكاديميين هو حول الواقع والإعجاز في حياته، أي أن الجميع يتوافقون على تاريخيته، لكنهم ينقسمون حول سيرته وأفعاله.
في الموقع الإلكتروني لـ"ناشونال جيوغرافيك"، دعاية للميلاد، تشبه الدعايات في سائر المواقع التي تسعى إلى بيع سلعها في موسم الأعياد والهدايا. في الدعاية، تظهر صورة عدد سابق من المجلة، يحمل غلافه صورة مفترضة للمسيح، مع عنوان "يسوع الحقيقي". وتشير الدعاية الى المجلة وتقول: "الهدية المثالية للعطلة".
ومن يعرف الحساسية الأميركية، يدرك أن "ناشونال جيوغرافك" تسعى إلى إصدار عدد خاص بعيد الميلاد المسيحي، لكنها في الوقت نفسه تحاول الحفاظ على "علمانيتها"، فلا ترد كلمة ميلاد في اي من العناوين او النصوص، بل تستبدلها في الدعاية بكلمة "عطلة".
لوحة "العشاء الأخير" لليوناردو دافنشي
ومن يعرف النقاش المندلع في الولايات المتحدة، قد يعرف عن "الحرب الثقافية" المندلعة بين المسيحيين ممن يطالبون الدولة والقطاع الخاص بالمواظبة على استخدام عبارة "ميلاد مجيد"، والمسيحيين وغير المسيحيين ممن يتمسكون بفصل الدين عن الدولة باستخدام عبارة "أعياد مجيدة". لهذا السبب، يقف ترامب أمام مناصريه، متحدياً باقي الأميركيين ومكرراً عبارة "ميلاد مجيد".
مجلة "ناشونال جيوغرافيك" بدورها، تحاول الحفاظ على حياديتها الدينية وموضوعيتها، لكن عينها، في الوقت نفسه، على جيوب المسيحيين. هكذا، تصدر المجلة كل سنة، في فترة عيد الميلاد، عدداً تقدم فيه سؤالاً حول تاريخية المسيح، أو قبره، أو الآثار الأخرى المتعلقة به، وتفعل ذلك من دون كتابة كلمة ميلاد ولا مرة واحدة.
هي محاولة علمانية لتسويق المجلة بين المسيحيين، وهو ما يتطلب نقاشاً أقل أكاديمية، وأكثر تعزيزاً لاعتقاد المسيحيين بحتمية تاريخية المسيح، وحصر الجدال في تاريخية أفعاله.
لعلها خطوة مالية من "ناشونال جيوغرافك"، تحاول فيها الحفاظ على رصانتها، لكنها في الواقع تعزز المعتقدات الشعبية في مقابل بعض المال، وهو المال أصلاً الذي شوّه ما شوّه في تاريخ الأمم والشعوب.