لوحات أسعد عرابي ليست للصالون
تدخل احداهن إلى صالة غاليري أيام وتسأل عن الأعمال الفنية المعروضة، وعن الفنان صاحب تلك الأعمال. انها أعمال أسعد عرابي.
تسأل السيدة عن المزيد من الأعمال لفناني غاليري أيام فهي، وبحسب تعبيرها، تبحث عن أعمال "ثلاثية الأبعاد". تطيل النظر إلى ملفات الفنانين المعنيين وتسأل عن أسعار وأحجام اللوحات. قد لا تتسع غرفة الصالون المنشود لأي من تلك اللوحات. تريد تلك أقصر وتلك أطول، ربما تبحث عن فنٍ على الطلب، جاهز وسريع التوصيل. تغادر الصالة بهدوء على وقع صوت الكعب العالي الذي ينحت أرض الصالة ويدخل البعد الصوتي الرابع إلى ادائها الثلاثي الأبعاد.
أشاهد المغادرة الدراماتيكية وألحظ لوحة "الظل" بمحاذاة باب غاليري أيام، بينما تغادر السيدة، فأضحك لوجود الفنان أسعد عرابي ورده، رغم عدم تواجده في الصالة اليوم.
في لوحة "الظل"، بقياس ١٥٠ سنتمتراً لكل جهة، يخط عرابي جسداً في الضوء وأخر في الظل على خلفية حمراء تتصارع فيها ضربات الفنان مع وقع تلك الأجساد في الرسم. باللونين الأحمر والاسود يخلق عرابي مساحة تضاد وتكامل، بين جسدين ملقيين في العدم، ينعكس فيه ظل احدهما افقياً وعمودياً في الوقت عينه ليشكل الأخر. هما اليين واليانغ المتحدان لرسم الصليب المعقوف النازي.
تخلف ورجعية وتعصب النازية الممثلة هنا بعلامتها وألوانها ممزوجةً بالجسد المستلقي والمصور من الخلف في لوحة الظل، شكلت رداً إستفزازياً للفنان على الرقابة وما تحمله في طياتها من رفض للجسد وتشكيله في الفن: يومها رد عرابي على منع فرقة موريس بيجار عام ١٩٩٩ من تأدية جزء من العمل بعنوان "طريق الحرير" في مهرجانات بيت الدين، بحيث يكون الرجال في وضعية الصلاة بينما ترقص النساء على موسيقى من أم كلثوم، إذ اعتبرت تأدية الرجال بأجسادهم العارية الصدر غير لائقة، وكان على موريس بيجار أن يستبدل هذا الجزء من الأداء بمشهد آخر. يحرص عرابي على توضيح عدم ميله إلى أدلجة الفن، لكنه وفي الوقت نفسه، يوضح كيف أن: "اللوحة التي تمثل ضمير الفنان لا تحتمل شهادة الزور وإلتزام الصمت دوما". لذلك، فإن لوحتا الظل والنعاس اللتان تتجانسان في المضمون والموضوع والالوان، تجلسان اليوم جنبا إلى جانب في معرض عرابي الحالي في غاليري أيام بعنوان "مختارات من الذاكرة". فهما شاهدتان على ذاكرة الإنتفاضة ضد التعصب الديني والرقابة العمياء في العام ١٩٩٩. اليوم، يجلس ذلك الجسد المسترخي رافعاً رجلاً في الهواء، وموجهاً نظرةً إلى السقف، فهو، يرد الآن على تجار الفن الذين تمثلوا في الصالة بالسائلة عن الفن الثلاثي البُعد، وذواقي الأعمال الصالونية "المحتشمة" غير آبهٍ بمعاييرهم وما اعتداوا على رؤيته: لكم أعمالكم التزينية ولي ذاتي المستفزة التاريخية.
يسلط معرض “مختارات من الذاكرة: ٢٠٠٧- ٢٠١٧ “الضوء على عدد من أهم أعمال عرابي التجريدية والتعبيرية التشخيصية، ولكنه، وفي الحالتين، يتعامل الفنان مع المادة وجمالية اللوحة بالتقنية عينها: خطوط محددة من فضاء ماتيس ومواد أكريليك كثيفة تنعكس مواضيع عرابي على عناوينها، وهو، وبحسب نص البيان الصحفي يحددها بعد الانتهاء من كل عمل. كما في المعارض الاخرى التي تضم أعمال مختارة من فترات حياة الفنان، يصبح من الممتع النظر إلى تطور اللهجة الفنية، والموضوعات، والطريقة التي يعمل بها الفنان في تلك الفترات، وهنا، في معرض عرابي، يبدو واضحاً الخط الافقي للوقت وأحداثه المطبوعة في الأعمال المعروضة: ففي أعماله عن المكان والأرض، ذاكرة للمدن التي سكنها ثم الجسد العاري كتاريخ إنتفاضة، ضد الرقابة والتشدد الديني والحرب في مدينة الغربان ومدينة الأيتام، دونما اللجوء إلى الإبتذال العنفي والصوري لتلك المشاهد. ففي تجريدية تلك اللوحات دلالة الحرب بلون أسود وهيكل جسد منحنٍ وغربان تحلق بحثا عن الجيفة. قد يكون الفنان وقف لحظة رسمها فوق تلك السماوات الملبدّة ونظر من على ظهر طائرة ورقية مقيدة بالأرض بحثاً عن ناجين، في زقاق جغرافية الدمار.
يحظى أسعد عرابي، والذي ولد عام ١٩٤١ بالكثير من الاحترام كونه من أوائل الفنانين العرب المعاصرين. قد يكون من السهل قراءة اعماله نظرياً، ولكن في تلك السهولة المتاحة لجميع الفئات، زوايا من التأليف المعقد والمتقن، وتضاد مثالي بين الأصفر والبنفسجي، وتطعيم لخطوط وأضواء بازرق خجول، في مواجهة الأحمر المتسخ بعرق أجساد نائمة.
يستمر المعرض لغاية ٦ كانون الثاني ٢٠١٨.