وحدي أنا والكاس: عبدالكريم الشعار يستحضر مطر محمد
تفتّحت عينا العازف محمد مطر على والده، الملحّن والعازف مطر محمد، وهو يعزف على البزق. "لا أتذكر كيف تعلّمت العزف على هذه الآلة. كنت أراقبه وهو يعزف وصرت أفعل مثله. كان عمري ست سنوات عندما بدأت أعزف. عندما أصبحت في الثامنة عشرة، صرت أذهب معه الى الحفلات، أعزف مكانه بضع دقائق لكي يستريح قليلاً".
فمطر محمد (الأب) كان "سوليست"، يعزف منفرداً على بزقه وكأنه مجموعة آلات. وُلد في العام 1939 في البقاع، وهو ابن عائلة غجرية، تنتقل الموسيقى فيها من الآباء الى الأبناء. علّمه أبوه وأخوه الأكبر عزف البزق، وصار يعزف بطريقة فريدة و"تجريبية خيالية"، بحسب وصف Maisons des cultures des mondes الظاهر على غلاف "سي دي" خاص بحفلة أحياها مطر محمد في مسرح بيروت في باريس العام 1972، وأُطلق "تحية لسيّد البزق".
لا يُكثر الابن محمد مطر في الكلام، بُزقه يقول عيون الكلام نيابة عنه. التقيناه في "مترو المدينة" بعدما انتهى من إحدى البروفات استعداداً لحفلة سيشارك فيها، وهي مخصصّة لتقديم أغنية من ألحان والده عمرها 44 عاماً، ستقدّم للمرة الأولى في 21 و28 من كانون الثاني/يناير الجاري في "مترو المدينة" في بيروت. "كان من المُفترض أن تُقدّم هذه الأغنية منذ وقت طويل، أعطاها الوالد لعبد الكريم الشعار لكن الظروف حالت دون أن يغنيها".
المطرب عبد الكريم الشعار، "السّميع قبل أن يكون مغنياً"، كما يصف نفسه، والذي وجد في الموسيقى "خَلاصه" من ظروفه الخاصة والاجتماعية والسياسية، يخبر قصة أغنية "وحدي أنا والكاس" التي سيغنيها في حفلتي "مترو المدينة".
"كان عمري 22 عاماً عندما تعرّفت على مطر محمد". كان الشعار قد نال الميدالية الذهبية في برنامج "استديو الفن" في نسخته الأولى العام 1973. وأثار وقتها دهشة الكثيرين، ومن بينهم مطر محمد الذي أراد التعرف عليه. "أتى لمقابلتي في تلفزيون لبنان حاملاً معه لحناً لي. لم أصدّق وقتها، قلت له: حجمك كبير عليّ، أجاب: فيك البركة. ذهبت الى بيته في اليوم التالي حاملاً معي آلة تسجيل "ريل"، اشتريتها للمناسبة، وسجلنا الأغنية بصوته وبُزقه". وكانت الحرب التي أتت على كل شيء ومنها تنفيذ هذه الأغنية.
في الثمانينات، وفي برنامج "مربّعات الحظ" لرياض شرارة، غنى الشعار مطلع هذه الأغنية على الهواء مباشرة، وهي من كلمات إيلي شويري: "وحدي أنا والكاس والدمع بعيوني، نامت عيون الناس نامي يا عيوني". سمعها جورج وسوف وأخذ الجملتين مرفقاً إياهما بكلمات أغنية أخرى من ألحان مطر محمد أيضاً.
بقي تسجيل كامل الأغنية، مع الشعار، ولم يُفرج عنها، خوفاً عليها وحرصاً منه على تنفيذها وتسجيلها بطريقة وفية للحن. "وتحت إلحاح وتصميم هشام جابر (المدير الفني لمترو المدينة) قرّرت أن أغنيها الآن". وزّع اللحن خيام اللامي، وسيشارك فيها عزفاً، محمد مطر على البزق، خيام اللامي على العود، خالد عمران على الكونترباص، جهاد سعد على القانون، بهاء ضوّ وإليانا عوض على الإيقاع.
خيام اللامي عازف عود وإيقاع عراقي، ولد في الشام، وتربّى في إنكلترا، وهو اليوم مقيم في بيروت. وهو يعزف البزق منذ أربع سنوات تأثراً بمطر محمد. "بهرتني أغنية وحدي أنا والكاس، منذ أن سمعتها، الأغنية كلحن وطريقة أداء فيها كلّ بصمات مطر محمد كعازف على البزق وهذا نادر في الموسيقى العربية. كما أن صوت مطر خرافي أيضاً وهو قريب من نبرة صوت عبد الكريم الشعار".
إحتراماً لمطر ولبصمة آلته، قرّر خيام ألاّ يلعب بالتوزيع لتأخذ الأغنية حقها. "دوّنتُ التسجيل بالحرف، كلّ ضربة ريشة وكلّ زخرفة تمّ تدوينها أيضاً، لكي يعطي كلّ موسيقي مشارك في هذه الحفلة، زخرفة مطر، حقها. أحاول أن أكون الحارس لبصمة مطر. حتى الهامش المعطى للإرتجالات، سيكون فيه احترام لأسلوب مطر في الارتجال، وكيف كان ينتقل من مقام إلى مقام".
تعرّف خيام على موسيقى مطر محمد، عندما بدأ تعلّم العود في العام 2004. "كنت أبحث عن تسجيلات لموسيقيين عرب، ووجدت تسجيلا قديما لمطر محمد في حفلة تعود الى العام 1972. انبهرت. التسجيل هو سولو لمطر محمد على المسرح. عزفه فيه إيقاع خيالي وعميق ومليء بثقافة الموسيقى العربية بمعنى المقامات والانتقالات والزخرفات والتفاصيل".
المقطوعة التي عزفها مطر محمد في هذه الحفلة، كانت إرتجالاً مدته 23 دقيقة على مقام الأثر كورد وهو مقام نادر، يتابع خيام. "أسلوب عزفه فريد تماماً، لا يضاهيه عزف. والإرتجال المركّز على مقام واحد صعب جداً. بهرني عزفه وريشته وحيويتة وإيقاعه. عزفه ليس عاقلاً وليس مؤدباً، قدّم نفسه كسوليست بالمعنى الغربي لكنه خرج من عقدة الخواجة. رجل تاريخه ريفي - جبلي متمكن من ذاته وليس لديه ما يثبته. هو يعبّر في عزفه عن نفسه وأحاسيسه وهمومه مخاطباً وجدان المستمع".
توفي مطر محمد العام 1995، عن عمر ناهز الـ57، منسياً، متأثراً بجراح الحرب. "أصابته جلطة، على المسرح، في حفلة في الولايات المتحدة، أواخر الثمانينات خلال حرب الإلغاء (في لبنان بين القوات اللبنانية وجيش ميشال عون)، وعاد من بعدها الى لبنان مصاباً بشلل نصفي، ولم يصمد كثيراً"، يقول ابنه محمد.
ترك مطر محمد ألحاناً معروفة مثل "أخدوا الريح" و"فوق الخيل" التي غناها الفنان عصام رجي، وأخرى منسية أو لم تُسمع بعد.
"مترو المدينة" الذي لعب دوراً في إحياء المدينة ومغنّيها وباراتها في السنوات الماضية، سيعيد إحياء ذكرى مطر محمد وألحانه، بأغنية حرص على أن تُغنى بصوت صديقه عبد الكريم الشعار. ستكون الحفلة أيضاً "مناسبة لنشهد على جمال الوراثة الذهبية"، كما يعلّق خيام. فمحمد مطر ما زال حريصاً على ريشة والده وبصمتها. أولاده الشبان الأربعة يعزفون البزق أيضاً. فالعزف في العائلة "يجري في الدم"، بحسب تعبير محمد.