كياروستامي.. الذي أدار الكاميرا في اتجاه المُشاهد
تجربة مشاهدة فيلم، أياً كان المخرج، هي تجربة أُحادية الإتجاه، أي أنّ الفيلم هو ما ينتقل من الشاشة إلى مُشاهد يجلس أمامها. لكن عباس كياروستامي، المخرج الإيراني الذي توفي مساء الإثنين وهو من أهمّ السينمائيين عالمياً، قلب تلك المعادلة رأساً على عقب. في فيلم "شيرين" (2009)، قام كياروستامي بتصوير جمهور من 113 ممثلة وهنّ ببساطة يشاهدن بصمت قصة حبّ كلاسيكية من التراث الأدبي الفارسي، داخل ما يبدو أنّه صالة سينما. اكتفى كياروستامي بالتقاط وجوه المُشاهدات تضيئها أنوار الفيلم في الظلام أثناء تفاعلهنّ مع مَشاهد من قصة حب خوسرو وشيرين التراجيدية. بينما نسمع حوارات الفيلم من دون رؤيتها، نرى في المقابل عبر كادرات ثابتة وجوه المُشاهدات من قرب، وهنّ يبتسمن تارةً ويحزنّ ويتأثرنّ تارةً أخرى. كياروستامي أراد أن يقول أن السينما هي قبل كل شيء هذه الأحاسيس والإنفعالات والتفاعلات مع هذا المُنتج الذي يُسمّى فيلماً.
خلال حياته المهنية الغنيّة جداً بأفلام مختلفة، غالباً ما تتلاعب بمفاهيم ومعايير الروائي من جهة، والتسجيلي من جهة أخرى، لم يتوقّف كياروستامي عن العمل على تبسيط وصقل العناصر في أفلامه، بحثاً عن لغة سينمائية "مينيمالسيت" (الحد الأدنى) تُخرج معاني وجودية من شخصيات ومواقف تبدو عاديّة. كياروستامي قال في إحدى المرات أنّه "لا يمكن الإقتراب من الحقيقة إلّا عبر الكذب". وهو في أفلام عديدة إتجّه نحو الناس البسطاء والعاديين ووضعهم في مواقف درامية، مفبركة، ليراقب إنفعالاتهم وردود أفعالهم.
الفيلسوف الفرنسي، جان-لوك نانسي، قال أنّ سينما كياروستامي تتأرجح بين الريبورتاج الذي ينقل واقعاً معيّناً، وبين تمثيل هذا الواقع. فهو لا يسعى إلى رصد الواقع أو على العكس تخيلّه، بل على تقديم وثيقة عن "الرواية" بالمعنى الدقيق والمحدّد لفن وتقنية بناء وتركيب الصور. في فيلم "كلوس-أب" (قريب 1990)، استوحى كياروستامي من قصة رجل يعشق السينما أُلقي القبض عليه لادعائه أنّه مخرج إيراني معروف. ويصوّر كياروستامي في الفيلم لقاءه مع الرجل ويمزج بين مشاهد المحاكمة الحقيقية وإعادة تمثيل الوقائع التي أدّت إلى إلقاء القبض عليه. الملفت في الفيلم تداخل ردود الأفعال الطبيعية بتلك المصطنعة أي المُختلقة، لإرضاء الكاميرا، وكأنّ كياروستامي يفكّك ماهية تأدية أي دور يومي في الحياة العادية ليستنبط ما هو عميق ودفين في تصرفات الناس.
في فيلم لاحق، "عبر أشجار الزيتون" (1994)، يصوّر كياروستامي مخرجاً يأتي إلى قرية إيرانية عاشت هزّة أرضية كبيرة ليصور فيلماً روائياً مع أبناء ونساء القرية العاديين (في إشارة رمزية إلى فيلم سابق له)، لكن سرعان ما يظهر أن أداء الممثلين كارثي فيُطفئ المخرج كاميراته ليكتشف كم أنّ الشخصيات مثيرة للإهتمام أكثر بكثير في حياتها الخاصة واليومية. ونذكر هنا اللقطة الأخيرة الشهيرة للفيلم وهي لقطة ثابتة طويلة تُظهر حقل الزيتون وفيه يحاول شاب أنّ يقنع شابة بالزواج منه. وتبقى الكاميرا ثابتة بينما يبتعد الإثنان تدريجياً ليختفيا بين الأشجار.
كياروستامي يحبّ هذا التلاعب بين القريب والبعيد، بين ما هو ظاهر على الكاميرا وما هو خارج الكادر، بين ما هو حقيقي وما هو خيالي. وهذا ما يتبلور في فيلمه الروائي "صورة طبق الأصل" (2010)، الذي يروي لقاء بين بائعة تحف فرنسية، تؤدي دورها الممثلة جولييت بينوش، وناقد فنّي يبحث في الفارق بين اللوحة الأصلية والصور المزيّفة المنقولة عنها (هل هناك فعلاً فارق؟). وتنقلب العلاقة فجأة بين الإثنين من لقاء أول ظريف إلى علاقة مريرة ومعقّدة بين زوجين. ولا يعطي الفيلم أي معطيات حول طبيعة العلاقة فعلياً فيبقى عن قصد في خانة ضبابية. هل هما زوجان يمثلان أنهما يلتقيان للمرّة الأولى؟ أم أنهما التقيا للتو ويلعبان دوري زوجين قديمين؟ لا يحلّ كياروستامي اللغز، هو فقط يهتم بتفاعل الشخصيتين أمام الكاميرا وما تنتجه حواراتهما من مشاعر ونقيضها.
في إحدى المقابلات، قال كياروستامي أنّه لا يحب الأفلام التي تأخذ مشاهديها رهينة وتتلاعب بعواطفهم. وأضاف أنّه يحب الأفلام التي تبدو للوهلة الأولى مُضجرة أو حتّى توحي بالنعاس، لكنها تبقى في داخله لأيام وليالٍ فيفكّر ويعيد التفكير فيها لاحقاً، أو حتّى أنها تزوره في أحلامه.
أفلام كياروستامي هي بالضبط هكذا، أفلام تسكن مشاهديها كالهاجس. لعلّ السبب أنّ المخرج يعي تماماً أن الأفلام في نهاية المطاف مقيّدة في إمكانية نقلها للأسئلة الوجودية الكبيرة. وهو لذلك يخلق إطارات ومشاهد ومواقف وحوارات محدودة، لكن في فضاءات فنّية وشعرية وروحية لا محدودة، وكأنّه دائماً يدعو خيال المشاهد إلى التحرّر ممّا يراه داخل كادر الفيلم.