جوشوا أوبنهايمر لـ"المدن": خمسة دروس لتصوير وثائقي
بعد فيلميه “فعل القتل” و”نظرة الصمت”، أصبح المخرج الأميركي جوشوا أوبنهايمر مرجعاً في صناعة الفيلم الوثائقي وأصولها. هذا المتخرّج من جامعة هارفرد، أنتج عدداً من الأفلام في اندونيسيا بين عامي ٢٠٠٤ و٢٠١٢. فجأة، ذاع صيته بعدما قدّم في مهرجان برلين، وقبله في تورونتو وتيلوريد، تحفته “فعل القتل”، التي ظهرت علينا من المجهول، واضعاً أمام كاميراه مجرمين اندونيسيين يعترفون بأفعالهم الشنيعة. وتابع استجواب الذاكرة الجمعية الاندونيسية في الجزء الثاني، “نظرة الصمت”، من خلال حكاية شاب قُتل شقيقه خلال المذابح التي ارتكبتها السلطات الأندونيسية العام ١٩٦٥ لتطهير البلاد من الشيوعيين. عدد من المرتزقة شارك في هذه الجرائم التي نالت مباركة السلطة والجيش وحصلت في ظلّ تجاهل غربي. عملان هزّا الضمير حول العالم وطرحا صاحبهما كسينمائي “مجدد” يحسن الإمساك بخيوط الحكاية والذهاب بها إلى أكثر المناطق سواداً في الطبيعة البشرية.
يقول أوبنهايمر البالغ من العمر ٤٢ عاماً، انّ الأميركي ايرول موريس كان مهماً بالنسبة اليه، خصوصاً أعماله الأولى. وجد طريقه في أفلام مثل “أبواب الجنة” (١٩٧٨). “كانت له طريقة معينة في النظر إلى العالم، لا نستطيع القول انّه يوثّق العالم، بل شكَّل من خلال كتابته السينمائية لوحات فيها فلسفة كاملة. ثمة ما نراه، وثمة فلسفة ما نراه”. أما الفرنسي جان روش، فيعتبره أوبنهايمر الينبوع الذي يرتوي منه. في رأيه أنّه استعمل الصورة على نحو نقيض للأميركيين الذين اعتقدوا أنّ سينما الحقيقة هي أن تلتقط صورة لذبابة على الجدار وتوثّق الواقع. “روش قال إن هذه ليست الحقيقة. الحقيقة تحتاج إلى أن تفتلعها كي تظهر. الحقيقة تكون عادة نائمة ينبغي إيقاظها”.
في المقابلة الآتية مع “المدن” التي جرت على هامش “لقاء قمرة” (الدوحة)، يلقي أوبنهايمر درساً في صناعة الفيلم الوثائقي، مُسدياً نصائح يستقيها من عمق تجربته.
١ - ثمة أسئلة لا تستطيع الفرار منها
“النقطة الأهم في صناعة الوثائقي، هي تحديد المشكلة أو القضية التي تريد معالجتها. في كلّ وثائقي، ثمة أسئلة معينة لا تستطيع الفرار منها. عليك إمساك بالسؤال الذي من المفترض أن تأتيه بجواب. ثم، عليك إيجاد الشخصيات التي ستذهب وإياها في رحلة داخلية. معها، عليك خَلْق ظروف تتجلى من خلالها القضية التي تتصدى لها. هذه الظروف التي تجعل اللامرئي مرئياً، ستستقر على حقيقة شاعرية وأخلاقية. عليك ألا تكفّ عن التنقيب عميقاً في الظروف لتتجلى الحقيقة. عندما تبدأ المونتاج، ينبغي جمع هذه السلسلة من المساحات الفيلمية حيث يغوص المُشاهد ليشعر بحقيقتها الأخلاقية والشعرية. على المُشاهد التقاطها بنبضات قلبه. سرّ إنزاله في كلّ هذا، هو وجهة النظر الأخلاقية. على الفيلم الذي يحملنا على هذا النحو ألا يقصّ علينا الحكاية، بل يتيح لنا معايشة تجربة. والأفضل أن تكون تجربة تغيّر حياة المرء.
إذا غابت أو تبدّلت الظروف التي أتاحت لك إنجاز فيلم معين، فهذا سيحملك حتماً إلى إنجاز فيلم آخر. البحوث في مستهل التصوير ضرورية جداً، وهي تكاد تكون مصيرية للفيلم. عليك النظر من حولك جيداً، ومراقبة ما يحدث في العالم لتبني واقعاً لم يكن موجوداً قبل فيلمك. السبب الذي يجعل المرء يمضي سنوات في إنجاز وثائقي هو أنّه عليه البحث عن سياق ينبغي أن تموضع فيه المادة الفيلمية التي أصبحت هاجساً عندك. ما دفعني إلى إنجاز “فعل القتل” في اندونيسيا، هو أنّ القتلة كانوا لا يزالون في مراكز القرار والسلطة، فيما الضحايا يعيشون في الخوف. حين اكتشفتُ هذا، قلتُ أنّه عليَّ اتمام الفيلم. لم يحصل الأمر بالمصادفة. لم أقل: سأنجزُ فيلماً عن مجازر ١٩٦٥ في اندونيسيا، ثم حالفني الحظ ووضعني على طريق القتلة. الحقيقة أنّني لَما أنجزتُ هذا الفيلم لولا عبّر الجلادون القتلة عن استعدادهم للبوح وكشف تفاصيل جرائمهم. عندما تختار نوع الفيلم الذي تريد إنجازه، عليك إيجاد زاوية لا تتيح لك إشاحة نظرك لحظة مواجهتك القضية المطروحة والسؤال الحاسم”.
٢ - لا يمكن التخطيط لأيّ فيلم بأكمله
“أحدهم قال: إذا كنتَ تعرف مآل الحكاية التي تريد قولها وأنتَ تنجز الفيلم، فلا داعي أن تنجزه. السينما اكتشاف متواصل. ثمة شيء فيها يغريك، ثمة شيء تتوجّسه. في حال “فعل القتل”، ذلك الشيء كان السلطة. السؤال الذي انطلقتُ منه هو: ما الذي جعل هذا كلّه ممكناً؟ طبعاً، لديّ اقتناعي الخاص في هذا الموضوع، لدي نبوءتي، لدي رؤيتي وفكرتي الصغيرة. عادةً، تأتيني على شكل استعارة، تقود خُطاي وأنا أبحث. أبحث وأبحث كثيراً. كبحّار مستكشف يراقب النجوم ليجد طريقه وهو يجتاز المحيط. ما جعله يخوض المغامرة هو الرغبة في استكشاف المجهول. فمثلاً عندما صوّرتُ أنور كونغو في “فعل القتل” وهو يشاهد عزفاً موسيقياً ويرقص على أنغامها، كنت أجهل ما الذي سيحدث في اللقطة التالية. كلّ ما أعرفه هو أنّ ظرفاً كهذا سيحمل دلالات. لا يمكن التخطيط لأيّ فيلم بأكلمه، لأنّ كلّ ظرف سيعلّمك شيئاً جديداً ومختلفاً تماماً عن الظرف الآخر، وسيُضيء الخطوة القادمة في الرحلة.
لا أسلّم المُشاهد أجوبة. أو… أسحب ما قلته. بلى، بطريقة ما، نحن نعطي الُمشاهد أجوبة. ولكن ليس جواباً بالكلمات. حالتنا أشبه بالرجل الذي يرى يومياً وهو في طريقه إلى العمل، متسوّلاً يجلس على الرصيف ولا يعيره أهمية. في إحدى المرات، يراه يكافح ليربط شريط حذائه، فيستعد ليناوله المال ولكنه يراه مشغولاً بحذائه. ساعتذاك، ولمجرد ثانية، يشعر ماذا يعني أن يكون المرء متسوّلاً. فيراه في إطار جديد كلياً. هذا هو الجواب! إنه إدراك عاطفي للشيء. إنه غياب الكلمات فحسب. هذا هو الشيء الذي يجب على السينما أن تناضل من أجل تحقيقه”.
٣ - بلا ثقة لا تستطيع مواصلة أيّ رحلة
٣ - بلا ثقة لا تستطيع مواصلة أيّ رحلة
“بناء الثقة بين المخرج والشخصيات التي يصوّرها، أساسي جداً. إذا أخرجتَ فيلماً نزيهاً يوّرط المُشاهد، فهذا كفيل بأن تتغيّر حياتك وحياة الشخصيات بسببه. على المخرج أن يتماهى مع الشخصيات ليصبح “هو” الشخصيات بأسرها. عليك أن تولد بشكل مستمر ظروفاً غير مريحة تدفع بالمُشاهد للقفز فوق خط الأمان الذي يعيش داخله. طبعاً، إذا فشل الفيلم في حماية المشاركين فيه ومحاصرتهم في حيّز الأمان، فسيتخلون عنه ويهجرونه. عليك إذاً أن توفّر لهم هذا الحيّز، سواء لأسباب عملية أو أخلاقية. بلا ثقة، لا تستطيع مواصلة أيّ رحلة. لا يمكن العمل في الخوف، فهو غير مثمر. ولكن، في المقابل، إذا انهارت الثقة، عليك تصوير هذا الانهيار لتحاول فهم ما الذي جعل الثقة تنهار. الخوف والذنب يرافقان الكلّ في المجتمع، وبدلاً من محاولة إعادة بناء هذه الثقة، فأصوّر انهيارها حتى إذا كان يعني ذلك الاستمرار في تصوير شخصية تصرخ في وجهي: “كفَّ عن التصوير”! وجودنا كبشر في هذا العالم مرتبط بعلاقتنا مع الآخرين. لولا هذا الارتباط، لما امتلكنا لغة نصف بها العالم ولما ألّفنا الموسيقى. وجودنا رهن وجود الآخر. لا أعني ذلك بالمعنى الاشتراكي. سواء كنت مع أقصى اليسار أو أقصى اليمين، فالفرد لا معنى له من دون الجماعة”.
٤ - إجعل اللامرئي مرئياً!
٤ - إجعل اللامرئي مرئياً!
لا أؤمن بالموضوعية. أتفادى حتى استعمال هذه الكلمة، أعبّر عنها بكلام آخر. الكليشيات والمسلّمات تخلق وهم الموضوعية في السينما. ثمة أفلام تضع المُشاهد على مسافة آمنة من الموضوع المطروح، وهذا ما يسهّلها. إنه تكنيك الصحافة التي تحاول شرح الموضوع للمُشاهد، لا توريطه فيه أو جرّه إليه. في اللغة الإنكليزية، كلمة موضوعية تُستعمل دائماً بحذر.
مثلما لا نستطيع فصل الفرد عن محيطه، لا نستطيع فصل الجمالية عن المضمون. الشكل والمضمون يتكاملان. في “نظرة الصمت”، حاولتُ تصوير شيء غير مرئي: الخوف والصمت. عندما تتجوّل في شوارع اندونيسيا أو في مخيم فلسطيني داخل لبنان، تبدو لك الأشياء طبيعية من الخارج. لن تستطيع الإحاطة بالتفاصيل من خلال هذا الخارج. حاولتُ أن أجعل اللامرئي مرئياً. السؤال: كيف نفعل ذلك؟ كيف نجعل رؤيته ممكنة؟ ثم، هناك شيءٌ آخر: جمال الفيلم يجعل مشاهدته أكثر صعوبة. إنه يسمح للغضب أن ينمو فينا جراء مشاهدتنا للعنف الذي مورس في الستينات أثناء المجازر. فالعنف في “فعل القتل” و”نظرة الصمت” لا يتمثل فقط بذلك الذي حصل سابقاً في الستينات، بل في فرض الصمت على الناس وإحراجهم ومحاصرتهم بالخوف”.
مثلما لا نستطيع فصل الفرد عن محيطه، لا نستطيع فصل الجمالية عن المضمون. الشكل والمضمون يتكاملان. في “نظرة الصمت”، حاولتُ تصوير شيء غير مرئي: الخوف والصمت. عندما تتجوّل في شوارع اندونيسيا أو في مخيم فلسطيني داخل لبنان، تبدو لك الأشياء طبيعية من الخارج. لن تستطيع الإحاطة بالتفاصيل من خلال هذا الخارج. حاولتُ أن أجعل اللامرئي مرئياً. السؤال: كيف نفعل ذلك؟ كيف نجعل رؤيته ممكنة؟ ثم، هناك شيءٌ آخر: جمال الفيلم يجعل مشاهدته أكثر صعوبة. إنه يسمح للغضب أن ينمو فينا جراء مشاهدتنا للعنف الذي مورس في الستينات أثناء المجازر. فالعنف في “فعل القتل” و”نظرة الصمت” لا يتمثل فقط بذلك الذي حصل سابقاً في الستينات، بل في فرض الصمت على الناس وإحراجهم ومحاصرتهم بالخوف”.
٥ - إذا كنتَ عاجزاً عن التقاط اللحظة، فدعكَ من الإخراج
“عندما تكون سينمائياً، يتشكّل لديك وعي تصويري يجعلك تختار الزاوية الأفضل للتصوير، حتى حين يحصل شيء مفاجئ لم يكن متوقعاً. خُد مشهد الأب والابنة: لم أكن أعلم قبل التصوير أنّه سيكون مشهدها هي، أي الابنة. لم أستعدّ لذلك. عندما أنظر إلى الخلف اليوم، أقول في سري أنّه ربما كان عليّ توقّع ذلك. ما إن أدركتُ أنّها سرقت المشهد، توجب عليَّ إيجاد حلول بديلة بسرعة. في مثل هذه الحال، ينبغي الاعتماد على الغريزة. هنا يظهر الفارق ما بين المخرج السيئ والمخرج الجيد. عليك التعامل مع العنصر الطارئ بسرعة قياسية، وإلا تبخَّر. النصيحة الوحيدة التي يمكن أن أسديها لمخرج شاب هي: حاول أن تكون حاضراً في اللحظة. لأنه مهما قويت غريزتك، فلن تحميكَ إن طرأت مشكلات تقنية وشتَّتت أفكارك، أو إن كنت مدهوشاً باللحظة الطارئة. إذا كنتَ عاجزاً عن التقاط اللحظة، فدعك من إخراج الوثائقي.
لا أصوّر بنفسي، أفعلها أحياناً فقط. هذا يتوقف على الظرف وما يصبّ في مصلحة الفيلم. أفضّل العمل مع فريق، أي مع مدير تصوير، وإذا استطعتُ فآتي بمهندس صوت. أفعل هذا لئلا أنجرّ إلى التركيز على المشكلات التقنية خلال التقاط المَشاهد. ثمة تفكير سائد بأنّ التصوير بكاميرا صغيرة ولساعات طويلة يولد طاقة حميمية بينك وبين الشخص المصوَّر. قد يكون هذا صحيحاً، ولكن ما ننساه هو أنّ لا شيء يبدّد اللحظة الحميمية أكثر من المخرج الذي يتلهّى بالأشياء من حوله. الفريق الذي يساعدك على التركيز، أهم من الاستعانة بكاميرا صغيرة”.