فيروز... البدايات المجهولة
أطلق وزير الإعلام اللبناني رمزي جريج أخيراً اسم فيروز على "استوديو رقم 6" في مبنى "إذاعة لبنان". كما هو معروف، دخلت فيروز الإذاعة اللبنانية في مطلع عمرها، وبدأت مشوارها الفني من هناك، غير أن الروايات حول بداياتها في هذه المحطة تبقى متضاربة، والغريب أننا لا نجد حتى اليوم بحثا يتقصى هذه البدايات.
في مطلع عام 1952، تحدثت فيروز في محضر من المحاضر التي يعدها برنامج المرأة في محطة "الشرق الأدنى" وقالت: "اسمي نهاد حداد. ولم أكن أنا التي اختارت اسم فيروز، ولكن عندما ابتدأت الغناء اقترحوا علي هذا الاسم ولم أمانع لأنه اسم جميل. وصلت في دراستي إلى الدراسة الابتدائية، ولكن الفن أرغمني على تلبية دعوته فاضطررت إلى ترك المدرسة ومتابعة الدروس الخاصة. كانت مديرة المدرسة تعرف أن لي صوتاً لا بأس به، وفي زيارة للملازم فليفل الأستاذ أبو سليم أتت بي لأغني أمامه، فأعجب على ما يظهر بصوتي وطلب مني أن أذهب لتعلم الغناء في المعهد الموسيقي اللبناني. فذهبت، وأخذ يقدمني في الإذاعة اللبنانية".
تواصل فيروز الحديث، وتقول إنها لا تذكر من أطلقها في الإذاعة. تضيف: "كانوا كتار. كل يعتبر نفسه أنه هو الذي خلقني وأوجدني، والحقيقة أن أول أغنية غنيتها، غير الأناشيد الوطنية، كانت أغنية للأستاذ حليم الرومي، وهي أول أغنية أذعتها باسمي الجديد فيروز". يظهر هذا الاسم لأول مرة في جداول برامج الإذاعة في صيف 1950، وتتيح لنا مراجعة المجلات الإذاعية تعقّب الخطوات الأولى لفيروز في المحطة اللبنانية. دخلت نهاد حداد الإذاعة ووظفت منشدة في الكورس. ضمّ هذا الكورس أربعة شبان وأربع بنات، وهنّ بحسب مقالة نشرت في مطلع تشرين الأول 1950 "أربع آنسات: ليلى الصعيدي، كروان، فيروز، وأمال". نوّه صاحب المقال بفيروز وحدها، وقال: "ومن هذا الكورس تخرجت مطربات وبرز مطربون. ومن بين المطربات اللواتي يُرشّحن الآن للتخرج من الكورس المطربة الناشئة فيروز التي تملك حنجرة بعيدة المدى، وهي تغني جميع الألوان الغنائية ببراعة، فتراها تؤدي التانغو والفالس بنفس السهولة التي تنشد بها الموشحات الأندلسية". بعد أسبوع، نشرت المجلة في زاوية بريد القراء كلمة تقول: "قرأت بإمعان كلمتكم عن كورس الإذاعة، والحقيقة أنني من اشد المعجبين بصوت فيروز التي جاء ذكرها، لأن هذا الصوت يمتاز بالرقة والعذوبة واني أرسل إليها من صفحات هذه المجلة المشجعة للفن والفنانين كل تقديري وإعجابي". تحمل هذه الرسالة توقيع نجيب كلّاب، وتبيّن لنا أن صاحبها امتهن العزف فيما بعد، وعمل في المعهد الموسيقي اللبناني، وله ثلاثة أبناء يعملون اليوم في هذا المعهد.
غنت فيروز بشكل منفرد للمرة الأولى من ألحان حليم الرومي، وهذه الأغنية هي بحسب شهادة للملحن تعود إلى عام 1956 "تركت قلبي"، والأغلب أنها أدتها بشكل مباشر. وقد سجّلها الملحن بصوته في هذه الفترة، والتسجيل محفوظ في الإذاعة اللبنانية. بعد هذه الأغنية، قدمت فيروز سلسلة من الأغاني من تلحين جورج فرح، وهي تباعاً بحسب تاريخ البثّ الإذاعي: "رومبا عيون"، "رومبا يا قمر"، "تانغو أين حبيبي" بمشاركة كلوفيس الحاج. إلى جانب هذه الأعمال، شاركت فيروز في لوحة غنائية من تلحين جورج ضاهر، وغنت فيها أغنية بعنوان "نشيد المهاجرين"، ومحاورة أداها معها الملحن. تحدثت مجلة "الإذاعة" عن هذا العمل، وامتدحت غناء فيروز، ورأت أنه " كان جميلا، فيه قوة وروعة"، وانتقدت أداء جورج ضاهر، "لأن صوته ضعيف، والرجفة تبدو فيه بوضوح، ولا يؤدي النغمات سليمة". وأكدّت "أن اشتراك فيروز في إنشاد هذا اللحن كان عاملاً أساسياً لنجاحه". ردّ الملحّن على هذا النقد، وقال إن التنويه بغناء فيروز "اعتراف واضح بأن الألحان قد نجحت"، فهو من "وجّه الآنسة فيروز على هذا الضبط في الغناء والأداء، ولم يكن أحد ليلمس أو يسمع مثل ذلك من الآنسة فيروز نفسها قبل هذا التدريب والتوجيه"، "ولو لم يرَ صلاحية الآنسة فيروز لمثل هذه الألحان لما انتخبها من الكورس الذي في الإذاعة".
بعد فترة وجيزة، شاركت فيروز من جديد في لوحة غنائية من تلحين جورج ضاهر، قدّمت فيها أغنيتين. الأغنية الأولى من مقام البياتي، ومطلعها "يا قلب حاج تنوح"، والثانية من مقام العجم ومطلعها "نحن البنات اللبنانيات". توقّفت مجلة الإذاعة من جديد أمام هذا العمل، وقالت إن فيروز لم تنجح في أداء اللحن الأول، لأن صوتها غريب عن هذا اللون في الغناء، غير أنها أجادت في الأغنية الثانية، "لأن اللحن وافق صوتها اللامع، فقادته حتى النهاية بجهد مشكور".
بدأت فيروز مسيرتها مع حليم الرومي، ثم أدت من ألحان جورج فرح وجورج ضاهر مجموعة من الألحان، وعادت لتغني من ألحان حليم الرومي "يا حمام"، وهذه الأغنية نعرفها في تسجيل مطبوع على أسطوانة من إنتاج شركة "بيضا" تحوي أغنية ثانية للملحن نفسه، وعنوانها "أحبك مهما أشوف منك". واصلت "المطربة الناشئة" مسيرتها في الإذاعة في ثبات، وغنت من ألحان جورج فرح "رومبا الجمال"، ثم "سامبا الكروم" مع جورج عازار.
خلال هذه الفترة، عملت فيروز مع الأخوين رحباني ضمن كورس الإذاعة، وتأخر كما يبدو تبني هذا الثنائي لها بضعة أشهر. في حديثه إلى مجلة "أهل الفن" سنة 1955، يقول عاصي الرحباني لمحاوره: "كنت أقوم بإعداد برامج موسيقية غنائية للاذاعة، وفي يوم دعاني حليم الرومي رئيس قسم الموسيقى بالإذاعة للاستماع إلى صوت جديد، فرأيت فتاة صغيرة تحمل كتاباً، ومعها أبوها، وسمعت صوتاً وقلت "لا بأس"، إلا أنني آمنت أنها تصلح للغناء. وقال أخي إنها لا تصلح إطلاقا للغناء الراقص. وبدأت أعلّمها فكانت أحسن من غنّى هذا اللون... ومن هنا نعرف مبلغ صدق حكمنا على الأشياء".
تحت عنوان "فنانات الغد"، نشرت مجلة "الإذاعة" في تشرين الأول 1950 مقالة تحدث فيها محمد بديع سربيه عن نزهة وهيام يونس، أحلام، وسميرة عبده، وكتب في الختام: "أما صوت فيروز الشجي المطرب الذي نسمعه دوماً في حفلات الإذاعة فهو صوت سوف يأخذ مكانته في القريب العاجل بين أحسن الأصوات الغنائية في لبنان".