"فاطمة" يرد الاعتبار إلى الأمّ العربية المهاجرة
يأتينا "فاطمة" الفائز بجائزة "سيزار" ٢٠١٦ لأفضل فيلم، في مرحلة إشكالية من تاريخ الهجرة والاندماج المغاربيين في فرنسا، لكنه لا يتأثر فيهما، فلا يتبلور خطاب المخرج في ظلّ الهجمات الإرهابية الأخيرة التي ضربت فرنسا، وكان أولاد الهجرة نفسها هم مَن تورّطوا فيها. ليس لأنّ الفيلم صُوّر قبل هذه المعمعة (عُرض في كانّ قبل عام)، بل لأنّ مخرجه فيليب فوكون قدّم نصّاً غير آني يصلح لأكثر من زمن.
يطرح الفيلم الهموم المرتبطة بالجالية المغاربية، بلا أدنى رغبة في "تعليم شيء معين عن واقع نجهله"، فهو ينطلق من مواقف إنسانية بسيطة وينتهي بها، ونادراً ما يسمّي الأشياء بأدبياتها الإعلامية المستهلكة، ولا يعرّج على أيّ من التيمات التي كانت من الممكن أن تجعل الفيلم معطوفاً على خطاب سياسي.
فيليب فوكون، المتحدّر من تقليد السينما الفرنسية الصافية، فرنسي الجنسية والهوية، إلا انه مولودٌ في المغرب ومتزوّح من جزائرية، وتتناول معظم أفلامه المغاربة العرب. لهذا، لا يوّظف هذه الفئة من المجتمع لدواعي الإثارة أو الفضيحة، بلّ من أجل الرغبة في الفهم.
بعد فيلمه السابق، "التفتت" (٢٠١١)، عن شباب من أقليات مهاجرة ذات أصول مغاربية يتورّطون باعتداء إرهابي يكشف عدم اندماجهم في المجتمع الفرنسي وعدم اعترافهم به، يُلقي فوكون نظرته على بيئة مشابهة وإنما على أشخاص مختلفين طموحاً وسيرة، يمثلون الجانب الايجابي الناجح لهذه البيئة. أبطال "التفتت" كانوا مراهقين، علاقتهم معطوبة مع المجتمع، هنا البطلة سيدة تكاد تكون في سنّ والدة أولئك المراهقين. أو حتى قد تكون أمّاً لسامية البطلة المراهقة لأحد أفلامه السابقة.
فاطمة التي تتصدّر عنوان الفيلم، سيدة في منتصف الأربعينات من عمرها (تضطلع بالدور الممثلة غير المحترفة ثريا زروال)، مطلقة ولديها ابنتان، فتضطر إلى العمل في التنظيف لإعالتهما. الابنة الكبيرة بدأت لتوها التخصّص في الطبّ وانتقلت للعيش بمفردها. الابنة الأصغر لا تزال في الثانوية، متمردة بلا قضية محددة، تثور على الأطر الاجتماعية الخانقة، ما يؤثر في دراستها وعلاقتها بأمها. نراها تطمح إلى كلّ ما "حرم" المجتمع الفرنسي أهلها منه. تمشي مرفوعة الرأس، بلا عقدة نقص، وتجد في والدها المتحرر من القيود والمسؤولية انعكاساً لطموحها.
لا نعرف كثيراً عن خلفية فاطمة، من أين أتت؟ منذ كمّ سنة هي على أرض فرنسا؟ كيف تطلقت من والد ابنتيها؟ كما لا نعلم رأيها في موطنها الجديد، عدا بعض الجُمل السريعة المتفلتة من بعض الأحاديث الهامشية. يتجنّب فوكون كثرة المعلومات كي لا نشيح النظر في اتجاه لا يثير اهتمامه، فيركّز على الحدوته والتفاصيل المرتبطة بها، وخصوصاً على إهمال فاطمة نفسها وعلاقتها بابنتها الكبيرة التي تريدها متفوقة لأن "النجاج يؤمّن الحرية".
من المدينة التي تجري فيها الحوادث (على الأرجح باريس)، لا نرى كثيراً. لا تخرج الكاميرا إلى الشارع إلا في ما ندر، عندما تشعر بالحاجة الى ذلك فقط، عندما تنتظر إحدى الشخصيات الباص، تصعد إليه أو تترجّل منه. على المَشاهد الخارجية، يفضّل فوكون الدواخل: غرف البيت، المطبخ، عيادة الطبيب، قاعة المحاضرات في الكلية. كلّ هذا يمنحنا الشعور بأنّ فاطمة ليست معنية بالعالم الخارجي، فالشارع ليس ملكها، بل ترى فيه مكاناً يعرّضها إلى نظرات الناس، ولا علاقة لها بما يجري فيه من صخب. فاطمة سجينة الأمتار القليلة التي يدور وجودها في فلكها، وهذه ليست حال زوجها الذي يتنقّل بسهولة أكبر بين الأماكن، وأحياناً بسيارته التي تمنحه حرية لا تمتلكها. كلّ هذا الانغلاق في حياة فاطمة اليومية، يساهم في إضفاء الحميمية على الفيلم ويفضي بنا إلى عامل التعاطف غير المشروط، ولا سيما أنّ الفيلم مقلّ بالشخصيات، ويركّز على الأسرة بأفرادها الأربعة. يمنح فوكون فاطمة حقّ الوجود على الشاشة، لحماً وجسداً وروحاً وكلاماً وصوتاً، وفي خياره هذا موقفٌ واضح: تكريسها بطلة مطلقة، وإن مضادة، في سينما فرنسية لم ترَ في شخصية خادمة المنزل المغاربية سوى شخصية ثانوية.
يختار النصّ المقاربة البنيوية السلسة والشخصيات الحيّة. المَشاهد مختصرة مقطّعة باختزال. يصعب التوقف عند تفصيل، كوننا حينئذ سنعبر إلى العام. لا نقصان ولا إضافة في تعامل فوكون مع واقع السيدة، بيد أنّ التوازنات التي يجريها تحمله أحياناً إلى فيلم مساوم يمشي مع الحائط- إذا صحّ التعبير- وتحدّ من فرصة التأسيس لخطاب كبير حول الهجرة المغاربية في فرنسا.
صحيح أنّ الفيلم لا يصنع من فاطمة شخصية تستدرّ العواطف، ولكن نخرج منه مع شعور بالعطف تجاهها مقروناً ببعض الطمأنينة على حالها. في المقابل، لا يدرج فوكون في فيلمه أي أحداث تتسم بالمبالغة. يكتفي بالحدّ الأدنى الذي يضمن له أن يموضع حبكته الدرامية وسط حقل من الألغام السيناريستية. فاطمة هنا هي تمثيل عدد من المغاربيات، ومع ذلك بالكاد تمثّل نفسها، بصوتها الذي يخرج من حنجرتها بخجل وارتباك، فهي تصارع كي لا تكون شخصية اختزالية تعبّر عن معاناة مَن يعيشون في مثل ظروفها. من هذا التناقض بين مَن هي في الحقيقة ومَن يريد الجمهور أن تكونه، يولد الفيلم. يتفادى فوكون ببراعة كلّ الكليشيهات المرتبطة بالجالية المغاربية. يكاد "فاطمة" يكون وثائقياً من شدّة طغيان الخلفية الاجتماعية على السيرة الشخصية لكلّ من الأمّ والابنتين، لكن يصعب تصنيفه حتى بهذا الشكل، فهو أقرب إلى بورتريه جيلين من النساء يتخبطن لأسباب متناقضة.
يطرح الفيلم الهموم المرتبطة بالجالية المغاربية، بلا أدنى رغبة في "تعليم شيء معين عن واقع نجهله"، فهو ينطلق من مواقف إنسانية بسيطة وينتهي بها، ونادراً ما يسمّي الأشياء بأدبياتها الإعلامية المستهلكة، ولا يعرّج على أيّ من التيمات التي كانت من الممكن أن تجعل الفيلم معطوفاً على خطاب سياسي.
فيليب فوكون، المتحدّر من تقليد السينما الفرنسية الصافية، فرنسي الجنسية والهوية، إلا انه مولودٌ في المغرب ومتزوّح من جزائرية، وتتناول معظم أفلامه المغاربة العرب. لهذا، لا يوّظف هذه الفئة من المجتمع لدواعي الإثارة أو الفضيحة، بلّ من أجل الرغبة في الفهم.
بعد فيلمه السابق، "التفتت" (٢٠١١)، عن شباب من أقليات مهاجرة ذات أصول مغاربية يتورّطون باعتداء إرهابي يكشف عدم اندماجهم في المجتمع الفرنسي وعدم اعترافهم به، يُلقي فوكون نظرته على بيئة مشابهة وإنما على أشخاص مختلفين طموحاً وسيرة، يمثلون الجانب الايجابي الناجح لهذه البيئة. أبطال "التفتت" كانوا مراهقين، علاقتهم معطوبة مع المجتمع، هنا البطلة سيدة تكاد تكون في سنّ والدة أولئك المراهقين. أو حتى قد تكون أمّاً لسامية البطلة المراهقة لأحد أفلامه السابقة.
فاطمة التي تتصدّر عنوان الفيلم، سيدة في منتصف الأربعينات من عمرها (تضطلع بالدور الممثلة غير المحترفة ثريا زروال)، مطلقة ولديها ابنتان، فتضطر إلى العمل في التنظيف لإعالتهما. الابنة الكبيرة بدأت لتوها التخصّص في الطبّ وانتقلت للعيش بمفردها. الابنة الأصغر لا تزال في الثانوية، متمردة بلا قضية محددة، تثور على الأطر الاجتماعية الخانقة، ما يؤثر في دراستها وعلاقتها بأمها. نراها تطمح إلى كلّ ما "حرم" المجتمع الفرنسي أهلها منه. تمشي مرفوعة الرأس، بلا عقدة نقص، وتجد في والدها المتحرر من القيود والمسؤولية انعكاساً لطموحها.
لا نعرف كثيراً عن خلفية فاطمة، من أين أتت؟ منذ كمّ سنة هي على أرض فرنسا؟ كيف تطلقت من والد ابنتيها؟ كما لا نعلم رأيها في موطنها الجديد، عدا بعض الجُمل السريعة المتفلتة من بعض الأحاديث الهامشية. يتجنّب فوكون كثرة المعلومات كي لا نشيح النظر في اتجاه لا يثير اهتمامه، فيركّز على الحدوته والتفاصيل المرتبطة بها، وخصوصاً على إهمال فاطمة نفسها وعلاقتها بابنتها الكبيرة التي تريدها متفوقة لأن "النجاج يؤمّن الحرية".
من المدينة التي تجري فيها الحوادث (على الأرجح باريس)، لا نرى كثيراً. لا تخرج الكاميرا إلى الشارع إلا في ما ندر، عندما تشعر بالحاجة الى ذلك فقط، عندما تنتظر إحدى الشخصيات الباص، تصعد إليه أو تترجّل منه. على المَشاهد الخارجية، يفضّل فوكون الدواخل: غرف البيت، المطبخ، عيادة الطبيب، قاعة المحاضرات في الكلية. كلّ هذا يمنحنا الشعور بأنّ فاطمة ليست معنية بالعالم الخارجي، فالشارع ليس ملكها، بل ترى فيه مكاناً يعرّضها إلى نظرات الناس، ولا علاقة لها بما يجري فيه من صخب. فاطمة سجينة الأمتار القليلة التي يدور وجودها في فلكها، وهذه ليست حال زوجها الذي يتنقّل بسهولة أكبر بين الأماكن، وأحياناً بسيارته التي تمنحه حرية لا تمتلكها. كلّ هذا الانغلاق في حياة فاطمة اليومية، يساهم في إضفاء الحميمية على الفيلم ويفضي بنا إلى عامل التعاطف غير المشروط، ولا سيما أنّ الفيلم مقلّ بالشخصيات، ويركّز على الأسرة بأفرادها الأربعة. يمنح فوكون فاطمة حقّ الوجود على الشاشة، لحماً وجسداً وروحاً وكلاماً وصوتاً، وفي خياره هذا موقفٌ واضح: تكريسها بطلة مطلقة، وإن مضادة، في سينما فرنسية لم ترَ في شخصية خادمة المنزل المغاربية سوى شخصية ثانوية.
يختار النصّ المقاربة البنيوية السلسة والشخصيات الحيّة. المَشاهد مختصرة مقطّعة باختزال. يصعب التوقف عند تفصيل، كوننا حينئذ سنعبر إلى العام. لا نقصان ولا إضافة في تعامل فوكون مع واقع السيدة، بيد أنّ التوازنات التي يجريها تحمله أحياناً إلى فيلم مساوم يمشي مع الحائط- إذا صحّ التعبير- وتحدّ من فرصة التأسيس لخطاب كبير حول الهجرة المغاربية في فرنسا.
صحيح أنّ الفيلم لا يصنع من فاطمة شخصية تستدرّ العواطف، ولكن نخرج منه مع شعور بالعطف تجاهها مقروناً ببعض الطمأنينة على حالها. في المقابل، لا يدرج فوكون في فيلمه أي أحداث تتسم بالمبالغة. يكتفي بالحدّ الأدنى الذي يضمن له أن يموضع حبكته الدرامية وسط حقل من الألغام السيناريستية. فاطمة هنا هي تمثيل عدد من المغاربيات، ومع ذلك بالكاد تمثّل نفسها، بصوتها الذي يخرج من حنجرتها بخجل وارتباك، فهي تصارع كي لا تكون شخصية اختزالية تعبّر عن معاناة مَن يعيشون في مثل ظروفها. من هذا التناقض بين مَن هي في الحقيقة ومَن يريد الجمهور أن تكونه، يولد الفيلم. يتفادى فوكون ببراعة كلّ الكليشيهات المرتبطة بالجالية المغاربية. يكاد "فاطمة" يكون وثائقياً من شدّة طغيان الخلفية الاجتماعية على السيرة الشخصية لكلّ من الأمّ والابنتين، لكن يصعب تصنيفه حتى بهذا الشكل، فهو أقرب إلى بورتريه جيلين من النساء يتخبطن لأسباب متناقضة.
تتكلم فاطمة العربية مع ابنتيها وهما تردّان عليها بالفرنسية. الثلاثة لا يتكلمن اللغة نفسها، وإنما شيء من التواصل يبقى موجوداً. بمعنى من المعاني، "فاطمة" هو أيضاً فيلم عن اللغة والانقطاع الذي يحدث بين جيلين بسببها. انقطاع يتبدّى ضرورياً للتقدم إلى الأمام والتحرر. فإذا كانت نسرين الابنة الكبيرة تستمدّ قوتها من أمها وتقدّر تضحياتها من أجل تأمين تكاليف تعليمها فلا تبخل عليها حتى ببيع مجوهراتها بثمن زهيد يساعد في مصاريفها، فهذا لا يحصل مع الابنة الثانية سعاد التي تنأى بنفسها عن الشعور بالذنب تجاه تضحيات والدتها، وترفض الوصاية العائلية خصوصاً أنّ مهنة أمها ("تنظف براز الفرنسيين"، تقول عنها، وتنعتها بـ"عديمة الجدوى") تحرجها أمام صديقاتها، وفي سلوكها هذا رغبة في الانفصال عن أعباء هوية الأباء غير المرغوب بها، طمعاً بالانخراط في مجتمع يدغدغ مشاعرها.
استوحى فوكون شخصية فاطمة من سيدة تدعى فاطمة الأيوبي وصلت إلى فرنسا في سنّ الـ٣٢، ولم تكن تتلكم آنذاك كلمة واحدة بالفرنسية، فعانت الرفض والانغلاق والتهميش. ما يقوله فوكون من خلال شخصية تفهم القليل من الفرنسية ولا تتكلمها، هو أنّ العلاقة المتينة بالهوية الفرنسية تمرّ عبر نسج حدّ أدنى من الروابط الثقافية بها، وأحد هذه الروابط تؤمّنه اللغة. صحيح أنّ فاطمة لا تعبّر عن أي عداء لموطنها الجديد، إلا أنه لا صلة متينة تربطها به وبالمجتمع الذي تبحث فيه عن النجاج لابنتيها. فالشقة التي تعيش فيها والعمل الذي تمارسه، يمكن العثور على شبيه لهما في الجزائر، فما الذي تملكه هنا لم تملكه هناك؟
عندما تخرج فاطمة من منزلها، تضع الحجاب على رأسها، وتلقن ابنتيها ما تعلمته من أمّها عن ضرورة التقيد بسلوكيات الوجود في مكان عام أمام أنظار الناس، وفي نصيحتها هذه، يخال لنا أنّها تتحدث عن الجزائر، لا عن مدينة فرنسية يُترك الناس فيها على سجيّتهم. جزء من كاريزما الشخصية هي في كونها تدرك "مكانتها" في المجتمع وتتقبلها. في النهاية، المسألة كلها مسألة لغة عند فوكون، خصوصاً في المَشاهد حيث نرى فاطمة تكتب باللغة العربية، فتخرج الكلمات من فمها كأنها ليست كلماتها، بل كلمات مفصولة عن كلّ الواقع الذي تعيشه.
من معاناة يومية، كان يمكن أن تسقط في ملحمة بكائية، استمد فوكون فيلماً يؤمّن بعض الغبطة ويرسم ابتسامة على وجه مَن يكافح لا من أجل الوصول بل البقاء، بعيداً من كلّ الاعتبارات التي تحاصر الجالية المغاربية في فرنسا، منذ اتهامها بكونها بيئة حاضنة للفكر المتطرّف، علماً أنّ فوكون لا يرفع شخصياته إلى مصاف الملائكة. يرسم "فاطمة" وجهاً لطالما كان مغيباً لنساء ناضلن بصمت، حتى نسين أنهنّ أصحاب صوت. نساء أردن مصيراً آخر لبناتهن، وعندما نظرن إليهن لم يتعرفن إليهن، بعدما أصبحن بنات الحياة لا بنات الفاميليا.
(*) “فاطمة” لفيليب فوكون - يُعرض في اطار تظاهرة “نبضة قلب” في “متروبوليس”، الاثنين ٢ أيار الساعة ١٩:٣٠.