حراس ببنادق قديمة لصرف اللغة ونحوها
لفتني خطأ كتابي استوقف صديقة من "فايسبوك" من يومين أو ثلاثة. أتى تعليقها في سياق باب يشترك فيه آخرون عنوانه "رفقا باللغة العربية". وعلى غرار ما تحمله تعليقات أولئك الآخرين من كشف للأخطاء التي يرتكبها الناس حين تحلو لهم الكتابة بالفصحى، ذكرت الصديقة كيف أن قناة تلفزيونية كتبت في الشريط الإخباري، الذي يوضع عادة في أسفل الشاشة ،كلمة كوب بالطريقة التالية: "كوباية". بدا لي أن تحوير الكلمة على هذا النحو يزخر بجملة أخطاء لا أعرف كيف أعيّنها، خصوصاً تلك الواو التي هي، كما بدا لي، خاطئة حتى في لفظها العامي، طالما أني لم أسمع أحداً يقولها هكذا في أيّ مقهى. لكن ما استوقفني هو الخبر الذي وقعت تلك الكلمة في وسطه، وهو التالي: "خناقة على كوباية شاي تدفع أمين شرطة لقتل صاحب نصبة الشاي وإصابة آخرين".
ذلك الحرص على اللغة العربية بلغ أشده إذن طالما أن القتيل راح بجريرته ومرّ ذكره في التعليق مرور الكرام. كان صديق آخر من أيام ما قبل صداقات الـ"فايسبوك"، وهو رجل دين عاش سنوات في النجف، قد روى لي مرّات ما حدث في حافلة عراقية كان هو أحد ركابها. بمجرّد أن أشعل السائق المذياع طلع صوت ذلك الرجل النحوي ذاكراً إسم برنامجه: "قل كذا، ولا تقل كذا" وهو يعنى، كما هو واضح، بتصحيح الأخطاء اللغوية الشائعة. لكن، لأن هذا البرنامج هو الأكثر إملالاً وإضجاراً بنظره، أسرع السائق إلى إزاحة إبرة الراديو قائلاً، في تلك اللحظة ذاتها: "اسكت ديّوس". لكن بمصادفة عجيبة كان صاحب البرنامج هناك بين ركاب الحافلة وسمع بأذنه الخطأ الذي جرى ارتكابه للتوّ، فما كان منه إلا أن تقدّم إلى السائق وقال له: "قل ديّوث، بالثاء، ولا تقل ديّوس".
كان صديقي رجل الدين، في كل من المرّات الكثيرة التي كان يروي لي حكايته هذه، يستغرق بالضحك مما يمنعه من أن يفسّر لي ماذا تحمل من مفارقة ولماذا تضحكه هكذا. ربما كان يريد أن يقول، مثلاً، إن ذلك الرجل النحوي لا يسمع من الكلام إلا صرفَه ونحوه، وأنه، إن سمع إهانة أصابته، يغلّب عليها إن قيلت صحيحة أو إن قيلت خطأ. ولا أعرف إن كان هذا الميل نحو تصويب الكلام على حساب معناه، أو بالتداول بين لفظه ومعناه على سمعنا، خاصّا بنا نحن العرب. هذا ما تكون عليه حالنا إزاء نشرات الأخبار التلفزيونية. هذا خطأ، نقول إن رفع المذيع بدل أن ينصب في الوقت الذي يكون الخبر عن مئة وعشرين ضحية سقطوا بقصف البراميل التي ترميها الطائرات. ذاك أن الكلام ينبغي أن يكون صحيحاً، والأفضل أن يكون فخماً أيضا، وهذا ما انتبه إليه الشاعر أبو تمام حين قال هاجياً رجلاً لا يستحق، لضعته وقلة شرفه، حتى أن يُهجى. قال أبو تمام للرجل:
سأهجوك إن بقيت بشعرٍ ليس إن قيّموه فلسين يسوى
أعود إلى "كوباية"، تلك الكلمة التي جعلتني أفكّر أنها تألّفت هكذا بما يتوافق مع الفوضى الجارية الآن في بلداننا ذات الثورات والحروب. شيء ما في تلك الكلمة يدلّ على أن الأمور التي كانت سائدة انزاحت عن قواعدها، وأن من كان محيَّداً من الأقوام ومهمّشا قد صار في هذه الفوضى الجارية في داخل الحلبة أو بات قريباً منها. كلمة "كوباية" هذه، إذ تصير كلاماً مكتوباً في أخبار التلفزيونات، تدلّ على ضعف المركز وارتخاء قبضته، بحسب ما يفكّر ذاك الفيلسوف العربي الذي سأل من سيضبط رفع الفاعل ونصب المفعول في حال غياب الخليفة أو السلطان.