مما بقي من تلك الحياة الطويلة
كان في سنيّ مراهقته حين اعتُقل، بسبب تخلّفه عن الخدمة العسكرية، ليُنقل على الباخرة "كلير" من بلده الجزائر إلى دمشق. كان ذلك سنة 1940 ألسنة الثانية للحرب العالمية. لكنه لم يشترك في القتال بحسب ما نُقل من سيرته*. أو ربما أغفلت السيرة ذكر ذلك فطويت تلك الحقبة من حياته. ذاك أنّ التنقّل الإنتقائي بين سنوات العمر وعقوده، من الأربعينات إلى التسعينات، قد يقفز عن أمور كثيرة حدثت. ثم أن الرواية هذه، كتاب السيرة، لم تشأ أن تقف عند ما هو مثير، ولم ترغب في أن تصعّد وقائع الحياة إلى قممها الدرامية، على ما تحبّذ الروايات عادة. فهنا، حتى في الصفحات الأخيرة، حين يتسارع السرد ناقلاً وقائع مرض ذلك الشاب الذي بات كهلاً، لن توصلنا الرواية إلى موته. سيعود إلى منزله سليما معافى محاطاً بعائلته. وكان ذلك مفاجئاً، أقصد أن تقرّر الرواية، هكذا، في لحظة أخيرة، النزول عن الذروة التي بلغتها.
أحسب أن ذلك الموت الذي لم يحصل هو الذي، بين تفاصيل أخرى، أعطى للرواية فرادتها. لم يعد ما جرى في سنوات العيش الطويلة مجرد وقائع ضرورية لتغذية الحدث الدراميّ الأخير، بل باتت الحياة نفسها، تلك الوقائع نفسها، مهمة بذاتها. أما الرواية فهي في ذلك الأسى المهيمن على مراحل الحياة كلّها. ذلك الأسى الذي يجعل الحياة الكاملة، وقد عاشها "الطيّب"، قليلة. أي أن من الممكن أن تحتوي صفحات رواية صغيرة حياة ذلك الرجل كما أجزاء واسعة من حياة زوجته وابنتيه وابنيه وجيرانه وآخرين عديدين.
لم يحصل شيء ذو شأن، بالمعنى المعتاد في الروايات الساعية إلى بلوغ الذروة التراجيدية. فمع أحد إبنيه اقتصر ما جرى في تلك الحياة على طرد الطيّب له من بيته، أما ابنته سحر فقد تطلّقت من زوجها ثم عادت إليه من بعد الطلاق. جار الطيّب، "أبو نذير"، وقف إلى جانب الطيّب في محنة مرّت به فحفظ له الطيّب وقفته. الإبن "مأمون" غادر إلى السعودية للعمل، ثم عاد منها مع زوجته وأولاده الثلاثة... إلخ في ما يتعلّق بسائر الشخصيات الكثيرة. وسمية أيضا، التي تبدأ فصول الرواية وهي جدّة في الستين أو السبعين من عمرها، نعود معها إلى أيام ما كانت صبية لاهية في مقتبل العمر حيث سعت إلى غواية الطيب بأن خلعت فستانها وهي مدركة أنه يتلصّص عليها مع رفيقه محمود.
أما في ما خصّ بلده الجزائر، الذي انتُزع الطيّب منه مراهقاً ولم يعد إليه أبدا، فله حيّز من مساحة الرواية هو أيضاً. إنه في الرسائل القصيرة التي كان قد أرسلها "الحسن" في أزمنة متفاوتة، وهو الأخ الأكبر للطيّب الذي يعيد فتح واحد من مظاريفها كلما مرّت فاصلة من زمن، طويلة أو قصيرة. في الرسائل ليس إلا ما يدلّ على انقضاء الزمن، وعلى جريان الحياة عادية، وعلى شوق الأهل مكتوبا بإنشاء الرسائل العادي. لا شيء فجائعيا في رواية وسيم الشرقي هذه، لا شيء يذهب، أو يجنح، نحو ما هو مأسوي. حتى حين كانت الباخرة تصل بالطيب ورفاقه المعتقلين إلى البلد الغريب عنهم، ليصيروا جنوداً في جيش الفرنسيين، أهدتنا الرواية إلى ذلك النوع العابر من السرور ظاهراً على محيا الطيّب. من دون احتفال باكتشاف المشاعر المتفارقة، والتقاط ما هو غريب في انفعالات البشر ومشاعرهم، نحت بنا الرواية إلى خارج سياقات السرد التي باتت آلية في كتابة الروايات.
لا فجائع ولا مآسٍ، لكن أيضاً لا هناءة زائدة في هذه الحياة. لا أحد من الشخصيات الكثيرة حظي بسعادة تفوق ما تأتي به الحياة الرتيبة الخالية من كل ما يمكن أن يكون جديداً أو مفاجئاً. لكن هذه هي الحياة، كما تقول الرواية.
*"الحاجب" رواية وسيم الشرقي كتبت من ضمن ما تقدّمه "آفاق" لدعم الكتابة الروائية، وبمتابعة من محترف نجوى بركات "كيف تكتب رواية"، وقد صدرت عن "دار الساقي" في 159 صفحة، 2016.