إبراهيم الكوني السويسري: أنا روح ليبيا
صحيحُ أمسكتُ، قبل ليلة واحدة من تلك، بجواز سفره السويسري، بينما نقوم بإجراءات تسجيل دخوله في الفندق، إلا أنني عندما وقفت إلى جوار الروائي الليبي إبراهيم الكوني في ذلك المساء، ببهو فندق آخر، وهو هنا فندق "ويندسور" قديم الطراز في وسط القاهرة، ظننته يقصد طرابلس(الغرب)، عندما أشار إلى صورة معلقة على الحائط لميدان قديم، بينما يقول "عاصمتنا". دققت في الصورة فإذا بها لميدان عتيق الطراز جميل المظهر، فأبديت دهشة مماثلة لما أبداها، ربما لأداري جهلي، ولسان حالي يقول "طرابلس؟ كيف؟ في أي زمن بدت بهذا الشكل، ربما زمن الاحتلال، ولكن كيف؟". لكنه لم يشأ أن يتركني في حيرتي طويلا، حيث عقب: "هذه مدينتنا في سويسرا، لم عُلقت هذه الصور هنا؟".. "عاصمتنا.. سويسرا"، الكوني يحمل الجنسية السويسرية، هذا معروف، ولكن كيف يعتبرها وطنه؟
في الليلة السابقة على تلك، أعني ما يخص تسجيله بالفندق، شغلتُ بما رسمه الكوني كتوقيع على عقد تأجير الغرفة، أكثر من التقائي به شخصيًا، وأنا جد مفتون بأدبه. لكن توقيعه لا يقل في هيئته عما يحمله أدبه من خصوصية، هو أقرب إلى وسم منه إلى توقيع، يشبه نقوش الحجر القديمة المتناثرة في جبال الطوارق، يصنع نصف دائرة بيضاوية ثم يسقط بداخلها حروف "إبراهيم الكوني"، في يسر وسرعة، لا يناسبان بهاء الختم الذي وضعه على الورقة، كيف يمكن لمجرد توقيع أن يصير –وبكل دقة- هوية مماثلة لهوية الشخص ذاته؟ وكيف يمكن للشخص نفسه أن يبدد لدي ذلك التصور كله، بالسرعة واليسر نفسيهما، ما بين التقاء لفظي "عاصمتنا.. سويسرا".
كان الكاتب الليبي ضيف شرف على الدورة الثانية من مهرجان القاهرة الأدبي الذي يعقد في القاهرة في الفترة مابين 13 إلى 18 فبراير الجاري، وخلال أمسية أقيمت على شرفه في فندق ويندسور، لم يخف الكوني إعجابه بكل المظاهرة السويسرية المتناثرة في جنبات الفندق، ابتداءً من بهوه وحتى جدران باره الذي استضاف لقاءنا، ما جعلني أسأله في السيارة بينما نعود إلى حيث ينزل في أحد فنادق حي الدقي: "أستاذ إبراهيم أنت ابن الصحراء، لكنك تنقلت بين العديد من المدن، فما هو الوطن في ظنك؟". فأجاب: "لقد وجّه لي أحدهم سؤالك ذاته خلال جلستنا"، فبادرته، وقررت لحظتها أن أكون مباشرًا: "لقد أشرت إلى صورة في ويندسور وقلت هذه عاصمتنا، ولوهلة ظننتها طرابلس، فما هو تفسيرك لذلك وأيهما هو وطنك؟". فردَّ: الوطن هو المكان الذي يحتويك، لا الذي يلفظك، أنا لا أخجل من أن أقول أن وطني هو سويسرا، أنا من صنعت لليبيا مكاناً في العالم، وكتبت رواياتي باللغة العربية ولم أكتبها بالأمازيغية أو الروسية أو الألمانية، رواياتي هي روح ليبيا.. أنا روح ليبيا، لكن ليبيا المكان غرّبني بسبب هويتي، بينما في ألمانيا –مثلا- هم يدرّسون رواياتي للطلبة في المدارس، وفي سويسرا كرموني ومنحنوني الجنسية، فقل لي بظنك أيهما الوطن بالنسبة إلي؟".
أستطيع ببساطة، وكمحب لأدبه وشخصه، أن أؤوّل ما سبق، فأقول إنه الصحراوي، أي ابن الصحراء، ليس له وطن محدد، بل الأرض كلها وطنه، وأن ما قاله الكوني ليس انسلاخا من هويته العربية بقدر ما هو تماهٍ معها. لكن الرجل كان أصدق مني ومن تأويلي المتكلف ذاته، ليصير بعدها التأويل هو الحقيقة ذاتها، إن إبراهيم الكوني، هو الصحراوي، وإن ابتذل المعنى لكثرة ما التصق به، لكنه الصحراوي ليس فقط لتمثله بيئته في النقش الذي يتركه على الأوراق مثل توقيع، ولا في ارتكانه إلى الأمان حيث يجده، ولا في تقشفه المفرط في الحياة (طوال يومين رافقته خلالهما، لم أجد لديه أي رغبة حقيقية، وربما قد يكتفي بشربة ماء طول اليوم، وخلال مائدتيّ عشاء أقيمتا على شرفه لم يطلب في الأولى غير زجاجة شعير غازية لم يكملها، وفي الثانية لم يطلب غير عصير القصب، ولا أدري إن كان شربه أم لا، فيما لم يضع في فمه لقمة واحدة!). ولا هو صحراوي –أيضًا- بسبب الـ81 كتابًا الذين ألفهم ودار معظمهم حول الصحراء.
لكنه صحراوي لأنه يخلص، أبدًا وفقط، إلى روحه، وكأن وجوده تفسير إلى ما جاء على لسانه، في قوله إن: "ما يبقى من نشاط الإنسان، ليصير تاليًا غنيمة الأجيال، ليس الحرف، ولكن فحوى الحرف، أي الموقف من وجودٍ لا خلود له، ولا حول له، ليتحوّل أمثولة متوارثة، إلاّ بروح الفعل المبثوث بطبيعته في النصّ، القادر أن يكون خليفةً بعد فناء الشخص".