"منطقة الاضطرابات": الشاعر مأخوذاً بالشروق
يأتي عنوان المجموعة الشِعريّة الجديدة "منطقة الاضطرابات"، (دار نلسن- بيروت)، للشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي ليختزل ذلك الحيّز "الفاصل/ الواصل" ما بين الحياة والموت.
من البرزخ القَلِق ذاك ينطلق الشاعر، حيثُ دوَّن قصائده من على سرير المرض، مُخلفاً الباب المفتوح على مصراعيه أمام أسئلة الوجود، سواء من جهة تردّد الكائن في التكيّف مع الوضع الجديد بتخّطي أهوال المرض وشبح المجهول المتربّص إلى ما بعد الحياة، أو البقاء في تلك البرهة الحرجة رغم الوجع الذي طالما ينهش الذاكرة والجسد معاً، تاركاً تداخل لمعان وجهي العملة- من حياةٍ وموت- كما لو ظمآن ينظر بريبةٍ إلى الماء وهو على "مشارف النبع"، فتأتي القصائد وكأنّها "مُجرّد حكاية بسيطة/ بعض جُمَلٍ تمّ التلفّظ بها/ في حلم/ لن تتسرّب منه/ ولا كلمة واحدة/ في اليقظة". وحيثُ كلّ شيء يتيهُ في الـ ما بين والشاعر هناكَ "وحيداً في الصحراء/ ورأسه ضائع بين النجوم".
أيضاً، ثمّة انبهار حقيقي لدى صاحب "مجنون الأمل" في البقاء طويلاً في تلك "البرهة" المليئة بالتناقضات والتضاد، لأجل الكتابة وحدها. دون العودة إلى الوراء أو التخطّي إلى الأمام باعتباره مجهولاً، لذا نجده يحتكم إلى الكتابة رغم انعدام التفكير وعدم إمكانية التوصّل إلى فكرةٍ بعينها، "أراني/ فوق أعلى غصن/ للشجرةِ التي تقابلني/ أنا العصفورُ الجامدُ/ المأخوذُ بمشهدِ الشروق". وما أنْ يهدأ الألم حتى تصبح الرغبة في الكتابة أكثر إلحاحاً وتتصدّر المشهد، "هَدَأَ الألمُ العُضويّ/ يُمْكِنكَ أن تحلم في الكتابة/ لكنّكَ تَفْتقِدُ الآن/ إلى فكرة/ إلى حدْس غامض/ لِما يمكن أن يعطي/ أجْنِحَةً للكلمات/ ويحُثّها/ على اجتياز منطقة الاضطرابات".
يُهندس اللعبي قصائد المجموعة في أبواب عدة، ليتفرّع كل باب إلى عدد من المقاطع المرقمة، رغم ذلك نجد القصائد وكأنّها مُجرّد قصيدة واحدة- عالم قائم بحدّ ذاته- آخذةً شكل سيمفونيةٍ متناغمةً، شِعرية وموسيقيّة في آن. فمن "مطلع" كمدخل استهلالي في البداية، إلى "خاتمة" في النهاية، وما بينهما نقرأ "مقصورة الفراغ" كدلالةٍ على جدوى الحياة التي تذخر بالصراعات والخيبات، وما يرافق ذلك من خوفٍ أو قلقٍ، ومن ثم توق الذات إلى السمو والوصول إلى الاستقرار المنشود. كما نجد "محراث الصُّدفة" في إشارةٍ إلى ما تجنيه الكائنات من الحياة كونها مجرّد صدف وما علينا سوى حرثها ومن ثم حراسة ما تم اغتنامها، والحفاظ عليها، دون إغفال غموض هذه الحياة وغرابتها، "إنّها مجرّد حياة/ بَهيمَةٌ غامضة/ تُقرَن بمحراث الصُّدفة./ إنّه مجرّد إنسان/ غَريب بِنِعال من ريح/ استدركته الظُّلُمات/ وهو يتقصّى على ضوء/ نَيزكٍ/ ساعةَ ذاكرته الرمليّة".
وفي قصيدة "الكتاب" أسئلة لا يكلّ أو يملُّ الشاعر من طرحها، على قرينه "بستانيّ الروح"، تتعلق بماهيّة الوجود وعلاقة الكائن بمن حوله، أسئلة لا تركنُ إلى القلقِ والضياع فحسب، بقدر ما تبحثُ عن درب للخلاص والخروج من النفق الوجوديّ المظلم، "يا بستانيّ الروح/ هل تحسَّبتَ/ لفسحةٍ من أرضِ البشر/ تَزرَعُ فيها بعضَ الأحلام؟/ هل اخترتَ البِذارَ/ هل شَمَّستَ الأدواتِ/ وعاينتَ تحْليقَ الطيْر/ هل راقبتَ الكواكبَ/ الوجوهَ/ الحَصى والأمواج؟/ هل تحدّثَ إليكَ الحبُّ/ هذه الأيّام/ بِلُغَتِهِ الغريبة؟/ هل أضأتَ شمعةً أخرى/ لتجرح الليلَ في كبريائه؟/ تكلَّم/ إن كنتَ هنا/ أخبِرني على الأقلّ/ ماذا أكلتَ وماذا شربتَ؟".
مجموعة "منطقة الاضطرابات"، (ترجمة: عيسى مخلوف)، تدوينٌ سَلِسٌ للحظاتٍ حياتيّةٍ حرجةٍ، حيثُ التمسّك بالحياة في مواجهة الموت على أشدّهِ، لكأنّ الانتصار على الموت وتخطّي منطقة الاضطرابات لا يكون إلّا بمجاز شِعريّ محض، موازٍ ومرادف لمجازاتٍ أخرى تذخر بها الحياة.
"منطقة الاضطرابات" لعبد اللطيف اللعبي صدر عن دار نلسن (2014)، ترجمة عيسى مخلوف.
من البرزخ القَلِق ذاك ينطلق الشاعر، حيثُ دوَّن قصائده من على سرير المرض، مُخلفاً الباب المفتوح على مصراعيه أمام أسئلة الوجود، سواء من جهة تردّد الكائن في التكيّف مع الوضع الجديد بتخّطي أهوال المرض وشبح المجهول المتربّص إلى ما بعد الحياة، أو البقاء في تلك البرهة الحرجة رغم الوجع الذي طالما ينهش الذاكرة والجسد معاً، تاركاً تداخل لمعان وجهي العملة- من حياةٍ وموت- كما لو ظمآن ينظر بريبةٍ إلى الماء وهو على "مشارف النبع"، فتأتي القصائد وكأنّها "مُجرّد حكاية بسيطة/ بعض جُمَلٍ تمّ التلفّظ بها/ في حلم/ لن تتسرّب منه/ ولا كلمة واحدة/ في اليقظة". وحيثُ كلّ شيء يتيهُ في الـ ما بين والشاعر هناكَ "وحيداً في الصحراء/ ورأسه ضائع بين النجوم".
أيضاً، ثمّة انبهار حقيقي لدى صاحب "مجنون الأمل" في البقاء طويلاً في تلك "البرهة" المليئة بالتناقضات والتضاد، لأجل الكتابة وحدها. دون العودة إلى الوراء أو التخطّي إلى الأمام باعتباره مجهولاً، لذا نجده يحتكم إلى الكتابة رغم انعدام التفكير وعدم إمكانية التوصّل إلى فكرةٍ بعينها، "أراني/ فوق أعلى غصن/ للشجرةِ التي تقابلني/ أنا العصفورُ الجامدُ/ المأخوذُ بمشهدِ الشروق". وما أنْ يهدأ الألم حتى تصبح الرغبة في الكتابة أكثر إلحاحاً وتتصدّر المشهد، "هَدَأَ الألمُ العُضويّ/ يُمْكِنكَ أن تحلم في الكتابة/ لكنّكَ تَفْتقِدُ الآن/ إلى فكرة/ إلى حدْس غامض/ لِما يمكن أن يعطي/ أجْنِحَةً للكلمات/ ويحُثّها/ على اجتياز منطقة الاضطرابات".
يُهندس اللعبي قصائد المجموعة في أبواب عدة، ليتفرّع كل باب إلى عدد من المقاطع المرقمة، رغم ذلك نجد القصائد وكأنّها مُجرّد قصيدة واحدة- عالم قائم بحدّ ذاته- آخذةً شكل سيمفونيةٍ متناغمةً، شِعرية وموسيقيّة في آن. فمن "مطلع" كمدخل استهلالي في البداية، إلى "خاتمة" في النهاية، وما بينهما نقرأ "مقصورة الفراغ" كدلالةٍ على جدوى الحياة التي تذخر بالصراعات والخيبات، وما يرافق ذلك من خوفٍ أو قلقٍ، ومن ثم توق الذات إلى السمو والوصول إلى الاستقرار المنشود. كما نجد "محراث الصُّدفة" في إشارةٍ إلى ما تجنيه الكائنات من الحياة كونها مجرّد صدف وما علينا سوى حرثها ومن ثم حراسة ما تم اغتنامها، والحفاظ عليها، دون إغفال غموض هذه الحياة وغرابتها، "إنّها مجرّد حياة/ بَهيمَةٌ غامضة/ تُقرَن بمحراث الصُّدفة./ إنّه مجرّد إنسان/ غَريب بِنِعال من ريح/ استدركته الظُّلُمات/ وهو يتقصّى على ضوء/ نَيزكٍ/ ساعةَ ذاكرته الرمليّة".
وفي قصيدة "الكتاب" أسئلة لا يكلّ أو يملُّ الشاعر من طرحها، على قرينه "بستانيّ الروح"، تتعلق بماهيّة الوجود وعلاقة الكائن بمن حوله، أسئلة لا تركنُ إلى القلقِ والضياع فحسب، بقدر ما تبحثُ عن درب للخلاص والخروج من النفق الوجوديّ المظلم، "يا بستانيّ الروح/ هل تحسَّبتَ/ لفسحةٍ من أرضِ البشر/ تَزرَعُ فيها بعضَ الأحلام؟/ هل اخترتَ البِذارَ/ هل شَمَّستَ الأدواتِ/ وعاينتَ تحْليقَ الطيْر/ هل راقبتَ الكواكبَ/ الوجوهَ/ الحَصى والأمواج؟/ هل تحدّثَ إليكَ الحبُّ/ هذه الأيّام/ بِلُغَتِهِ الغريبة؟/ هل أضأتَ شمعةً أخرى/ لتجرح الليلَ في كبريائه؟/ تكلَّم/ إن كنتَ هنا/ أخبِرني على الأقلّ/ ماذا أكلتَ وماذا شربتَ؟".
مجموعة "منطقة الاضطرابات"، (ترجمة: عيسى مخلوف)، تدوينٌ سَلِسٌ للحظاتٍ حياتيّةٍ حرجةٍ، حيثُ التمسّك بالحياة في مواجهة الموت على أشدّهِ، لكأنّ الانتصار على الموت وتخطّي منطقة الاضطرابات لا يكون إلّا بمجاز شِعريّ محض، موازٍ ومرادف لمجازاتٍ أخرى تذخر بها الحياة.
"منطقة الاضطرابات" لعبد اللطيف اللعبي صدر عن دار نلسن (2014)، ترجمة عيسى مخلوف.