شكراً حنان الحاج علي.. أطفال "الدرب الأحمر" يشبهوننا
أمطرت في بيروت البارحة وتمطر اليوم. لا نعرف كيف سيتدبّر أطفال "الدرب الأحمر" أمورهم في العرض المسرحي الذي من المفترض أن يدور عند الخامسة في حديقة "الصنائع" اليوم وغداً. أطفال مصر التي نحب،ّ جاؤوا من حي "الدرب الأحمر" الذي سمّي بهذا الإسم نسبة إلى مذبحة القلعة العام 1811، حين تخلّص محمد علي من المماليك ولونت دماؤهم الأرض. أطفال بين التاسعة والتاسعة عشر من العمر، تعلّموا العزف والغناء والرقص وفنون السيرك. تعلّموها إلى جانب دراستهم وأعمالهم الحرّة التي يمارسونها في حي شعبي ومهمّش وسط القاهرة ليكسبوا رزقهم.
حنان الحاج علي أو "مِسّ حنان" كما يحلو للأطفال أن ينادوها، اشتغلت معهم على مدى سنة كاملة لإنتاج عرض مسرحي بعنوان "تاهت ولقيناها". النصّ الذي كتبته حنان بالتعاون مع بسمة الحسيني، مقتبس من قصص الأطفال الشخصية. عن حياتهم ويومياتهم وعلاقاتهم بأهلهم وبأهالي الحي، عن أحلامهم ومقاومتهم لظروف العيش الصعبة من جهة، ولمجتمع منغلق من جهة أخرى. تلك القصص واليوميات منسوجة بإخراج رائع وسينوغرافيا محبوكة وجهد وحب كبيرين، جعلت من "تاهت ولقيناها"، عرضاً مسرحباً متكاملاً يجمع الفرجة والمتعة والخيال والسخرية من دون إغفال عمق الحدوتة. عرض للكبار والصغار، يتطلب تشغيل كل الحواس المتاحة، من سمع إلى بصر إلى خيال إلى تنقل سريع بين شخصية وأخرى، وملاحقة الحدث الذي يفور على المنصّة وكأنها ملعب كبير وليست مجرّد خشبة. كثيرون غنّوا والبعض لم يستطع منع نفسه من الرقص والبعض ضحك ملء فمه، إلا أن عيون المتفرجين من صغيرهم إلى كبيرهم، كانت معلّقة هناك، على المنصة، تتفرّج بإمعان على عرض ساحر ومتقن.
من أين أتى أطفال حي "الدرب الأحمر" بكل هذه السعادة؟ يتساءل المتفرّج الذي يخفق قلبه بسعادة مفرطة. أطفال يعيشون مأساة بين فقر وتهميش وبؤس وانعدام وسائل الترفيه، يمتلكون قدرة هائلة على إسعاد الآخر/المتفرّج. ليس فقط لأنهم مصريون، بل لأن تجاربهم في حيّهم البسيط، تفوق سنوات عمرهم. حسّ السخرية الذي يمتلكونه لا يوازي طفولتهم. كأن أرواحهم المخضرمة والمترعة بالتجارب تعيش في أجساد صغيرة. حتى قدرتهم على تطويع أجسادهم للرقص والعزف وتسلق الحبال وتحدي الجاذبية، لا تشي بأنهم صغار إلى هذا الحد. كأن ذاكرة مجرّبة وخبيرة هي التي تحرّك تلك الأجساد النحيلة والصغيرة.
العرض الذي لم يكتف الجمهور منه ويطالبون بتمديده، يشكل نقلة أيضاً من حيث الموضوع. شاهدنا ونشاهد تجارب مسرحية كثيرة، تستند في معظمها إلى كتّاب عظماء، نالت مسرحياتهم قسطاً كافياً من العرض والتداول والاقتباس. نرى أيضاً كيف يستعين المخرجون الشباب بتلك المسرحيات التي صنّفت تحفاً فنية، لإقامة عروض لأطفال مخيمات النزوح مثلاً، كوسيلة دعم نفسي. ثمة في تلك الاستعانة تعالٍ على المجتمع الذي نشأ فيه هؤلاء الأطفال. ثمة تعالٍ على تجاربهم وإمكاناتهم العظيمة التي تكبّلها ربما نصوص لا ينتمون إليها ولا يشبهونها، لا تمثّل معاناتهم إلا في بعديها الفلسفي والنفسي.
الأطفال قدّموا العرض، غير مدركين ربما حجم موهبتهم. يمثلون أدوراهم بإتقان، يضحكون الجمهور بقصصهم التي لا تخلو من السخرية. يسخرون من كل شيء، مجتمعهم، أهلهم، تعصّبهم، حتى من أنفسهم يسخرون. يقدّمون مشاهد يومياتهم كاملة، لكن بحب. يصطحبوننا إلى "الميدان" وإلى زمن الثورة والغرافيتي والغناء والهتافات. يحكون عن غرامياتهم البريئة والعابرة. عن مقاهي حيّهم التي لا تعرف النوم. صبية تدرس الحقوق وفي الوقت ذاته، تلعب على "الطبلة". تحكي عن ولعها بإطلاق صوتها في المحكمة صباحاً وإطلاق يديها وأصابعها على مساحة الطبلة ليلاً. تحلم وتعرف كيف تواجه انتقادات أهلها وصديقاتها الذين لم يتردّدوا بعدما شاهدوا العرض المسرحي بإبداء إعجابهم بموهبتها وتمكّنها من اللعب على "الطبلة".
سيعود أطفال "الدرب الأحمر" إلى حيّهم بعد أيام. سيكملون يومياتهم. "قطقوطة" التي لم تتجاوز العاشرة، وإن كانت تبدو في السابعة بجسدها الصغير والناعم، شاركت، رمضان الماضي، في مسلسل درامي إلى جانب هند صبري. موهبتها أكبر من عمرها، تتقن كل أنواع الفنون. تقول لنا ببساطة ومن دون تعقيدات: الإبداع يخرج من هناك، من قلب أحياء المهمّشين، من معاناتهم ومن الحب أيضاً. وعمر سيكمل دراسته الثانوية إلى جانب العزف. حسيني الذي يضحك باستمرار، بات مطلوباً أيضاً لإحياء حفلات فنية. دنيا التي خطبها حبيبها مصمّمة على إكمال تعليمها الجامعي والتعمّق في دراسة فنون اللعب على "الطبلة". هاشم الذي قدّم المسرحية وقال مازحاً إنه "الجوكر"، يحلم بإكمال دراسته وبالخوض في تجارب مسرحية أخرى مع "مِسّ حنان". وحنان الحاج علي، بذلت كل ما تملك من أدوات ووقت وخبرة لتبث الطاقة في شخصيات مسرحيتها ولتقدّم لجمهورها عملاً يصعب العثور على شبيه له في كثير من تجارب المسرح الحديث الضائع بين التقليد والاقتباس والعبث والحداثة.
حنان الحاج علي أو "مِسّ حنان" كما يحلو للأطفال أن ينادوها، اشتغلت معهم على مدى سنة كاملة لإنتاج عرض مسرحي بعنوان "تاهت ولقيناها". النصّ الذي كتبته حنان بالتعاون مع بسمة الحسيني، مقتبس من قصص الأطفال الشخصية. عن حياتهم ويومياتهم وعلاقاتهم بأهلهم وبأهالي الحي، عن أحلامهم ومقاومتهم لظروف العيش الصعبة من جهة، ولمجتمع منغلق من جهة أخرى. تلك القصص واليوميات منسوجة بإخراج رائع وسينوغرافيا محبوكة وجهد وحب كبيرين، جعلت من "تاهت ولقيناها"، عرضاً مسرحباً متكاملاً يجمع الفرجة والمتعة والخيال والسخرية من دون إغفال عمق الحدوتة. عرض للكبار والصغار، يتطلب تشغيل كل الحواس المتاحة، من سمع إلى بصر إلى خيال إلى تنقل سريع بين شخصية وأخرى، وملاحقة الحدث الذي يفور على المنصّة وكأنها ملعب كبير وليست مجرّد خشبة. كثيرون غنّوا والبعض لم يستطع منع نفسه من الرقص والبعض ضحك ملء فمه، إلا أن عيون المتفرجين من صغيرهم إلى كبيرهم، كانت معلّقة هناك، على المنصة، تتفرّج بإمعان على عرض ساحر ومتقن.
من أين أتى أطفال حي "الدرب الأحمر" بكل هذه السعادة؟ يتساءل المتفرّج الذي يخفق قلبه بسعادة مفرطة. أطفال يعيشون مأساة بين فقر وتهميش وبؤس وانعدام وسائل الترفيه، يمتلكون قدرة هائلة على إسعاد الآخر/المتفرّج. ليس فقط لأنهم مصريون، بل لأن تجاربهم في حيّهم البسيط، تفوق سنوات عمرهم. حسّ السخرية الذي يمتلكونه لا يوازي طفولتهم. كأن أرواحهم المخضرمة والمترعة بالتجارب تعيش في أجساد صغيرة. حتى قدرتهم على تطويع أجسادهم للرقص والعزف وتسلق الحبال وتحدي الجاذبية، لا تشي بأنهم صغار إلى هذا الحد. كأن ذاكرة مجرّبة وخبيرة هي التي تحرّك تلك الأجساد النحيلة والصغيرة.
العرض الذي لم يكتف الجمهور منه ويطالبون بتمديده، يشكل نقلة أيضاً من حيث الموضوع. شاهدنا ونشاهد تجارب مسرحية كثيرة، تستند في معظمها إلى كتّاب عظماء، نالت مسرحياتهم قسطاً كافياً من العرض والتداول والاقتباس. نرى أيضاً كيف يستعين المخرجون الشباب بتلك المسرحيات التي صنّفت تحفاً فنية، لإقامة عروض لأطفال مخيمات النزوح مثلاً، كوسيلة دعم نفسي. ثمة في تلك الاستعانة تعالٍ على المجتمع الذي نشأ فيه هؤلاء الأطفال. ثمة تعالٍ على تجاربهم وإمكاناتهم العظيمة التي تكبّلها ربما نصوص لا ينتمون إليها ولا يشبهونها، لا تمثّل معاناتهم إلا في بعديها الفلسفي والنفسي.
الأطفال قدّموا العرض، غير مدركين ربما حجم موهبتهم. يمثلون أدوراهم بإتقان، يضحكون الجمهور بقصصهم التي لا تخلو من السخرية. يسخرون من كل شيء، مجتمعهم، أهلهم، تعصّبهم، حتى من أنفسهم يسخرون. يقدّمون مشاهد يومياتهم كاملة، لكن بحب. يصطحبوننا إلى "الميدان" وإلى زمن الثورة والغرافيتي والغناء والهتافات. يحكون عن غرامياتهم البريئة والعابرة. عن مقاهي حيّهم التي لا تعرف النوم. صبية تدرس الحقوق وفي الوقت ذاته، تلعب على "الطبلة". تحكي عن ولعها بإطلاق صوتها في المحكمة صباحاً وإطلاق يديها وأصابعها على مساحة الطبلة ليلاً. تحلم وتعرف كيف تواجه انتقادات أهلها وصديقاتها الذين لم يتردّدوا بعدما شاهدوا العرض المسرحي بإبداء إعجابهم بموهبتها وتمكّنها من اللعب على "الطبلة".
سيعود أطفال "الدرب الأحمر" إلى حيّهم بعد أيام. سيكملون يومياتهم. "قطقوطة" التي لم تتجاوز العاشرة، وإن كانت تبدو في السابعة بجسدها الصغير والناعم، شاركت، رمضان الماضي، في مسلسل درامي إلى جانب هند صبري. موهبتها أكبر من عمرها، تتقن كل أنواع الفنون. تقول لنا ببساطة ومن دون تعقيدات: الإبداع يخرج من هناك، من قلب أحياء المهمّشين، من معاناتهم ومن الحب أيضاً. وعمر سيكمل دراسته الثانوية إلى جانب العزف. حسيني الذي يضحك باستمرار، بات مطلوباً أيضاً لإحياء حفلات فنية. دنيا التي خطبها حبيبها مصمّمة على إكمال تعليمها الجامعي والتعمّق في دراسة فنون اللعب على "الطبلة". هاشم الذي قدّم المسرحية وقال مازحاً إنه "الجوكر"، يحلم بإكمال دراسته وبالخوض في تجارب مسرحية أخرى مع "مِسّ حنان". وحنان الحاج علي، بذلت كل ما تملك من أدوات ووقت وخبرة لتبث الطاقة في شخصيات مسرحيتها ولتقدّم لجمهورها عملاً يصعب العثور على شبيه له في كثير من تجارب المسرح الحديث الضائع بين التقليد والاقتباس والعبث والحداثة.