"هيه.. لا تنسي الكمّون".. قد نولد في الجسد الخطأ
ما الذي يجمع الكاتب السوري جميل حتمل، بالكاتبة البريطانية سارة كين، بالممثلة المسرحية اللبنانية دارينا الجندي؟ ثم ما الذي يجمعهم ثلاثتهم بالمتفرّج الذي حضر البارحة عرض فيلم "هيه.. لا تنسي الكمّون" للسينمائية السورية هالة العبد الله؟ هالة كانت حاضرة في مقهى "نسوية" حيث تنظّم "الرابطة السورية للمواطنة"، فعالية "النادي السينمائي" للسنة الثانية. لم تتحدث عن الفيلم كثيراً قبل عرضه. لكنها لفتت إلى أن الفيلم الذي أنتج في العام 2008 وعرض للمرة الأولى في بيروت في العام ذاته، استهجنه الجمهور اللبناني ذلك الحين. أو بتعبير أدقّ، سبّب الفيلم ذهولاً ارتخى على ملامح الحاضرين الذي أتوا بحماسة لحضور جديد مخرجة "أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها"، الفيلم الذي أنتج عام 2006 وحصد العديد من الجوائز ومنع من العرض في دمشق.
أمور كثيرة تجمع بينهم وبيننا. الغربة تصلح لأن تكون عنواناً للفيلم والجنون أيضاً والموت كذلك. "هيه.. لا تنسي الكمّون"، هي آخر جملة قالها جميل حتمل لهالة وهي تعدّ له صحن حمّص في منفاهما الباريسي. ذلك المنفى أرخى ظلالاً ثقيلة على حتمل فكان دائم الشكوى وأقدم على محاولات انتحار عديدة، قلبه المريض لم يحتمل المحاولة الأخيرة حتى بعد أن نجا منها. صمّام القلب المعطّل، أخذته هالة خاتماً، لتضعه بعد سنوات في إصبع دارينا الجندي التي عاشت منفى من نوع آخر. دارينا تركت بيروت هاربة من جسدها الذي خدّرته حقن الأطباء في المشفى حيث أودعها أهلها! جسدها كان منفلتاً مثل روحها بالضبط من قيود العقل والمنطق التي يتحدث عنها فوكو في كتابه "تاريخ الجنون". دارين التي لم يكن ثمة فصل بين عقلها وروحها، تغيّرت علاقتها بجسدها بعد خروجها من المشفى وهروبها إلى باريس. لم تعد تعثر على جسدها كما كان. لقد قتلوه. قتلوه بالعقل والمنطق. باتت تعيش بجسد آخر لا يخصّها.
الجملة ذاتها تقولها الكاتبة المسرحية البريطانية سارة كين، التي انتحرت العام 1999 وكانت في الثامنة والعشرين من عمرها. تقول من ضمن ما تقوله في مسرحيتها الأخيرة "ذهان الساعة 4:48": "هل يعقل أن نولد في الجسد الخطأ؟". جملة تخرج من حافة الجنون الذي ينفلت من جدران العقل. وكأن روح الكاتبة كانت "تبرطع" في جسد لا يعرف كيف يحتويها، لا يعرف احتضانها ولا تكويناته تتلاءم مع تضاريسها. فاختارت روحها الموت والجسد الخطأ هو الذي نفّذ عملية الشنق في آب/أغسطس العام 1999.
ما فعلته هالة في فيلمها الذي وجده بعض الحاضرين صعباً ومعقداً وموجعاً، هو اقتفاء أثر تلك الثلاثية (الغربة-الجنون-الموت)، عبر سيرة صديقها جميل حتمل الذي كتب مجموعة نصوص وهو على سرير الرحيل بعنوان "قصص المرض قصص الجنون". تختار هالة واحدة من القصص لتقرأها في الفيلم. قصة عن هذيانه الأخير، متمدداً على سرير المشفى ونساؤه يحطن به. خيالات نساء متشحات بالسواد يقتربن منه ويبتعدن وهو يكرّر عبارة: "لا أحبّ الأسود".
يفتح الفيلم (66 دقيقة) الباب على مفاهيم تلتصق بالغربة والجنون والموت. الانتماء مثلاً، قد يخفّف من وطأة تلك المشاعر أو قد يزيدها تعقيداً. انتماء الروح إلى الجسد وانتماء الجسد إلى المكان. انتماؤنا إلى العقل والمنطق وانفلاتنا منهما. انتماء العين إلى ما تراه وتعيشه. جميل أتعبته باريس والمسافة التي تفصله عن سوريا يحفّها المرض والوهن والإصرار على العودة وإن كان "في تابوت". دارينا أتعبتها روحها التي تتوق إلى بيروت مدينتها وموطنها بينما يرفض جسدها الانتماء إلى ذلك المكان-السجن. لا مكان لجسدها في شوارع بيروت وباراتها. مكانه في مشفى الأمراض العصبية حيث لا يتوقف الأطباء عن حقنه بمواد تشلّه وتجعله آلة حيادية تتحرك، روحها مسحوبة منها. سارة أيضاً عاشت في الجسد الخطأ وفي وزمان لم تخلق له. أرهقها "عقل" الآخرين. أرهقتها حقائقهم وأكاذيبهم والمطلق الذي لا يتوقفون عن الاحتفاء به.
"هيه.. لا تنسي الكمّون"، فيلم عن الغربة والوحشة والقلق. عن المنفى والسجن والجنون. عن رفض البعض لمفهوم الحرية واستبداله بالجنون. فيلم عن اللاشيء وعن كل شيء. عن "العقلانية" التي يضنّ بها البعض، فقط خوفاً من الجنون.
أمور كثيرة تجمع بينهم وبيننا. الغربة تصلح لأن تكون عنواناً للفيلم والجنون أيضاً والموت كذلك. "هيه.. لا تنسي الكمّون"، هي آخر جملة قالها جميل حتمل لهالة وهي تعدّ له صحن حمّص في منفاهما الباريسي. ذلك المنفى أرخى ظلالاً ثقيلة على حتمل فكان دائم الشكوى وأقدم على محاولات انتحار عديدة، قلبه المريض لم يحتمل المحاولة الأخيرة حتى بعد أن نجا منها. صمّام القلب المعطّل، أخذته هالة خاتماً، لتضعه بعد سنوات في إصبع دارينا الجندي التي عاشت منفى من نوع آخر. دارينا تركت بيروت هاربة من جسدها الذي خدّرته حقن الأطباء في المشفى حيث أودعها أهلها! جسدها كان منفلتاً مثل روحها بالضبط من قيود العقل والمنطق التي يتحدث عنها فوكو في كتابه "تاريخ الجنون". دارين التي لم يكن ثمة فصل بين عقلها وروحها، تغيّرت علاقتها بجسدها بعد خروجها من المشفى وهروبها إلى باريس. لم تعد تعثر على جسدها كما كان. لقد قتلوه. قتلوه بالعقل والمنطق. باتت تعيش بجسد آخر لا يخصّها.
الجملة ذاتها تقولها الكاتبة المسرحية البريطانية سارة كين، التي انتحرت العام 1999 وكانت في الثامنة والعشرين من عمرها. تقول من ضمن ما تقوله في مسرحيتها الأخيرة "ذهان الساعة 4:48": "هل يعقل أن نولد في الجسد الخطأ؟". جملة تخرج من حافة الجنون الذي ينفلت من جدران العقل. وكأن روح الكاتبة كانت "تبرطع" في جسد لا يعرف كيف يحتويها، لا يعرف احتضانها ولا تكويناته تتلاءم مع تضاريسها. فاختارت روحها الموت والجسد الخطأ هو الذي نفّذ عملية الشنق في آب/أغسطس العام 1999.
ما فعلته هالة في فيلمها الذي وجده بعض الحاضرين صعباً ومعقداً وموجعاً، هو اقتفاء أثر تلك الثلاثية (الغربة-الجنون-الموت)، عبر سيرة صديقها جميل حتمل الذي كتب مجموعة نصوص وهو على سرير الرحيل بعنوان "قصص المرض قصص الجنون". تختار هالة واحدة من القصص لتقرأها في الفيلم. قصة عن هذيانه الأخير، متمدداً على سرير المشفى ونساؤه يحطن به. خيالات نساء متشحات بالسواد يقتربن منه ويبتعدن وهو يكرّر عبارة: "لا أحبّ الأسود".
يفتح الفيلم (66 دقيقة) الباب على مفاهيم تلتصق بالغربة والجنون والموت. الانتماء مثلاً، قد يخفّف من وطأة تلك المشاعر أو قد يزيدها تعقيداً. انتماء الروح إلى الجسد وانتماء الجسد إلى المكان. انتماؤنا إلى العقل والمنطق وانفلاتنا منهما. انتماء العين إلى ما تراه وتعيشه. جميل أتعبته باريس والمسافة التي تفصله عن سوريا يحفّها المرض والوهن والإصرار على العودة وإن كان "في تابوت". دارينا أتعبتها روحها التي تتوق إلى بيروت مدينتها وموطنها بينما يرفض جسدها الانتماء إلى ذلك المكان-السجن. لا مكان لجسدها في شوارع بيروت وباراتها. مكانه في مشفى الأمراض العصبية حيث لا يتوقف الأطباء عن حقنه بمواد تشلّه وتجعله آلة حيادية تتحرك، روحها مسحوبة منها. سارة أيضاً عاشت في الجسد الخطأ وفي وزمان لم تخلق له. أرهقها "عقل" الآخرين. أرهقتها حقائقهم وأكاذيبهم والمطلق الذي لا يتوقفون عن الاحتفاء به.
"هيه.. لا تنسي الكمّون"، فيلم عن الغربة والوحشة والقلق. عن المنفى والسجن والجنون. عن رفض البعض لمفهوم الحرية واستبداله بالجنون. فيلم عن اللاشيء وعن كل شيء. عن "العقلانية" التي يضنّ بها البعض، فقط خوفاً من الجنون.