ليس بالكوفية وحدها يمتد "جسر نحو فلسطين"
"ما كان في الماضي لك ينقلب اليوم عليك" (محمود درويش)
أن يستهل كتيب المعرض الأول المخصص للفن الفلسطيني المعاصر في لبنان، منذ الثمانينات، باقتباس للشاعر الفلسطيني محمود درويش، فإن ذلك يفرض مسؤولية فنية ووطنية على الفنانين الفلسطينيين الـ18 المشاركين في معرض "جسر نحو فلسطين" في مركز بيروت للمعارض (بيال).
يضم المعرض الجماعي 62 عملاً، يترجم فيه هؤلاء التشكيليون فلسطين، الوطن الذي ما زال بعضهم ماكثاً في أرضه، بينما يستذكره البعض الآخر، في الشتات، من خلال الرسم والنحت والنسج أو التصوير الفوتوغرافي والفيديو والتجهيز وطرائق معاصرة أخرى.
لا تغيب الكوفيات عن جسور فلسطين التي شيدها هؤلاء في "البيال". فبالنسبة إلى منذر جوابرة، الملثمون بالكوفية هم المقاومون المجهولون، أشبه بالأشباح التي تغيب ملامحها وتبقى كوفياتهم تخفي هويتهم وقناعاتهم ودوافعهم النفسية. أما بالنسبة إلى ليلى شوا، يقف هؤلاء المتشحون بالكوفيات على حدود الدولة الضائعة، معلنين قيامها بتزيينهم طوابع بريدية تراصت على لوحات القماش مذكرة بسلسلة مارلين مونرو لأندي وارهول. ورغم ذلك، تبقى الكوفيات في طرحها ومعالجتها مفتقرة إلى التجديد، وكأنها تشكل ما يشبه المهرب السهل لـ"تمثيل" فلسطين، عوضاً عن أي "جسر" آخر. إذ أن الرمز، ولكثرة استهلاكه، بات عاجزاً عن إيصال المزيد والجديد. وهنا لا يسعنا إلا أن نذكر أعمال الفنان التشكيلي اللبناني أيمن بعلبكي، بعنوان "الملثم"، على سبيل المثال لا الحصر، والتي كان موضوعها الرئيسي يدور حول ذلك الشاب المتشح بالكوفية جسّده في أكثر من لوحة بين العامين 2002 و2010.
(عمل الفنان محمد مسلّم)
بالنسبة إلى رلى حلواني، يتلخص عملها المازج بين الفيديو والتجهيز، بسلسلة بحث وتوثيق لتاريخ جرائم القتل التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق مواطنين فلسطينين منذ العام 1948. إذ أنها، وبإعادة تنظيمها وإعدادها لصور تلك الوجوه التي ذهبت ضحية الصراع للبقاء في أرض فلسطين، وصلت إلى فرض وجود تلك الوجوه، بصَمتها ونظراتها. تلك الوجوه لنساء ورجال وأطفال، المحدودة في دوائر تفصلها عن سواد الخلفية، تمنعك من النظر إلى أي شيء إلا تلك الملامح، وتدعوك للحوار معها. فهي هنا الآن، حتى لو لم يُرد العالم توثيق وجودها. هم موجودون وحاضرون وينتظرون حواراً منطقياً يبرر لهم موتهم غير المنقطع منذ العام 1948. تماما كما يلاحقون حلواني في ضميرها الوطني، هم هنا ليلاحقوا الناظر. وهنا نذكر، للمفارقة أعمال الفنان الفرنسي (اليهودي) كريستيان بولتانسكي العديدة، والتي تذكر حلواني بروحيته، إن من خلال منهجية البحث أو من خلال الصورة الفنية، إذ طرح عمل بولتانسكي "Monument Odessa” (1991) توثيقاً للمحرقة النازية المرتكبة بحق اليهود بشكل متقارب مع عمل حلواني بعنوان "العلاج بالصورة".
على صعيد آخر، لا يسعنا إلا ملاحظة مدى التشابه بين أعمال الفنان الفلسطيني محمد الهوجري (المتمثلة في إعادة تنظيم مشاهد من لوحات عالمية برموز محلية معاصرة)، ونظيره اللبناني محمد سعد. أو بين عمل ليلى شوان المتمثل بتزيين الكلاشنيكوف، وبين روحية عمل الفنانة اللبنانية زينة الخليل. أو كم هو مألوف نظرياً ما يقدمه الفنان بشار الحروب من خيالات متلاصقة خلف قطع من القماش، أو مدى تصوير محمد مسلم لموضوعه بحرفية وباستخدامه لرموز الثقافة الفلسطينية بطريقة مباشرة تسقط من عمق بيان الفنان والذي يشرح فيه العمل الفني.
(عمل الفنان منذر جوابرة)
لا يسعنا كذلك إلا التصديق على مدى سهولة ووضوح ونجاح طرح الفنان التشكيلي رأفت أسد، بتجسيده شاشات المطار في قاعات الانتظار، والتأجيل اللا منقطع لوصول الطائرة الفلسطينية إلى القدس. كذلك الأمر بالنسبة إلى ستيف سبيلا الذي يعيد بناء تاريخ ووجود من خلال صور.
لا تغيب روحية الفنانة فلسطينية الأصل منى حاطوم، عن معرض "جسر نحو فلسطين"، وإن بشكل مبسط، فهي قد تكون ألهمت ماري توما في خيوطها، ومحمد مسلم في عقده، أو رنا بشارة في تجهيزها. قد تكون الطريق إلى فلسطين بحاجة إلى أكثر من جسور، وقد تكون جسورها متعثرة بحجارة العودة وألغام السقوط في الكليشيهات، لكنها في مجملها تنجح في إيصال ما يتوقعه المتلقي: الكثير من الحنين ممزوجاً بثورة فنية مقاومة تأبى أن تنسى وتأخذ على عاتقها دور بناء الذاكرة.
تم إختيار وتنظيم تلك الأعمال الفنية من قبل "غاليري مارك هاشم"، بالتعاون مع شركة سوليدير. ويشارك في المعرض كل من: بشار الحروب، رأفت أسعد، سميرة بدران، تيسير بركات، رنا بشارة، عيسى ديبي، رولا حلواني، وفا حوراني، منذر جوابرة، بشير مخول، رانيا مطر، محمد الحواجري، محمد مسلّم، ستيف سابيلا، ليلى شوا، ناصر سومي، ماري توما، وهشام زريق. والعرض مستمر حتى الثالث من آب المقبل، يومياً، من الحادية عشرة صباحاً وحتى الثامنة مساء.
أن يستهل كتيب المعرض الأول المخصص للفن الفلسطيني المعاصر في لبنان، منذ الثمانينات، باقتباس للشاعر الفلسطيني محمود درويش، فإن ذلك يفرض مسؤولية فنية ووطنية على الفنانين الفلسطينيين الـ18 المشاركين في معرض "جسر نحو فلسطين" في مركز بيروت للمعارض (بيال).
يضم المعرض الجماعي 62 عملاً، يترجم فيه هؤلاء التشكيليون فلسطين، الوطن الذي ما زال بعضهم ماكثاً في أرضه، بينما يستذكره البعض الآخر، في الشتات، من خلال الرسم والنحت والنسج أو التصوير الفوتوغرافي والفيديو والتجهيز وطرائق معاصرة أخرى.
لا تغيب الكوفيات عن جسور فلسطين التي شيدها هؤلاء في "البيال". فبالنسبة إلى منذر جوابرة، الملثمون بالكوفية هم المقاومون المجهولون، أشبه بالأشباح التي تغيب ملامحها وتبقى كوفياتهم تخفي هويتهم وقناعاتهم ودوافعهم النفسية. أما بالنسبة إلى ليلى شوا، يقف هؤلاء المتشحون بالكوفيات على حدود الدولة الضائعة، معلنين قيامها بتزيينهم طوابع بريدية تراصت على لوحات القماش مذكرة بسلسلة مارلين مونرو لأندي وارهول. ورغم ذلك، تبقى الكوفيات في طرحها ومعالجتها مفتقرة إلى التجديد، وكأنها تشكل ما يشبه المهرب السهل لـ"تمثيل" فلسطين، عوضاً عن أي "جسر" آخر. إذ أن الرمز، ولكثرة استهلاكه، بات عاجزاً عن إيصال المزيد والجديد. وهنا لا يسعنا إلا أن نذكر أعمال الفنان التشكيلي اللبناني أيمن بعلبكي، بعنوان "الملثم"، على سبيل المثال لا الحصر، والتي كان موضوعها الرئيسي يدور حول ذلك الشاب المتشح بالكوفية جسّده في أكثر من لوحة بين العامين 2002 و2010.
(عمل الفنان محمد مسلّم)
بالنسبة إلى رلى حلواني، يتلخص عملها المازج بين الفيديو والتجهيز، بسلسلة بحث وتوثيق لتاريخ جرائم القتل التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق مواطنين فلسطينين منذ العام 1948. إذ أنها، وبإعادة تنظيمها وإعدادها لصور تلك الوجوه التي ذهبت ضحية الصراع للبقاء في أرض فلسطين، وصلت إلى فرض وجود تلك الوجوه، بصَمتها ونظراتها. تلك الوجوه لنساء ورجال وأطفال، المحدودة في دوائر تفصلها عن سواد الخلفية، تمنعك من النظر إلى أي شيء إلا تلك الملامح، وتدعوك للحوار معها. فهي هنا الآن، حتى لو لم يُرد العالم توثيق وجودها. هم موجودون وحاضرون وينتظرون حواراً منطقياً يبرر لهم موتهم غير المنقطع منذ العام 1948. تماما كما يلاحقون حلواني في ضميرها الوطني، هم هنا ليلاحقوا الناظر. وهنا نذكر، للمفارقة أعمال الفنان الفرنسي (اليهودي) كريستيان بولتانسكي العديدة، والتي تذكر حلواني بروحيته، إن من خلال منهجية البحث أو من خلال الصورة الفنية، إذ طرح عمل بولتانسكي "Monument Odessa” (1991) توثيقاً للمحرقة النازية المرتكبة بحق اليهود بشكل متقارب مع عمل حلواني بعنوان "العلاج بالصورة".
على صعيد آخر، لا يسعنا إلا ملاحظة مدى التشابه بين أعمال الفنان الفلسطيني محمد الهوجري (المتمثلة في إعادة تنظيم مشاهد من لوحات عالمية برموز محلية معاصرة)، ونظيره اللبناني محمد سعد. أو بين عمل ليلى شوان المتمثل بتزيين الكلاشنيكوف، وبين روحية عمل الفنانة اللبنانية زينة الخليل. أو كم هو مألوف نظرياً ما يقدمه الفنان بشار الحروب من خيالات متلاصقة خلف قطع من القماش، أو مدى تصوير محمد مسلم لموضوعه بحرفية وباستخدامه لرموز الثقافة الفلسطينية بطريقة مباشرة تسقط من عمق بيان الفنان والذي يشرح فيه العمل الفني.
(عمل الفنان منذر جوابرة)
لا يسعنا كذلك إلا التصديق على مدى سهولة ووضوح ونجاح طرح الفنان التشكيلي رأفت أسد، بتجسيده شاشات المطار في قاعات الانتظار، والتأجيل اللا منقطع لوصول الطائرة الفلسطينية إلى القدس. كذلك الأمر بالنسبة إلى ستيف سبيلا الذي يعيد بناء تاريخ ووجود من خلال صور.
لا تغيب روحية الفنانة فلسطينية الأصل منى حاطوم، عن معرض "جسر نحو فلسطين"، وإن بشكل مبسط، فهي قد تكون ألهمت ماري توما في خيوطها، ومحمد مسلم في عقده، أو رنا بشارة في تجهيزها. قد تكون الطريق إلى فلسطين بحاجة إلى أكثر من جسور، وقد تكون جسورها متعثرة بحجارة العودة وألغام السقوط في الكليشيهات، لكنها في مجملها تنجح في إيصال ما يتوقعه المتلقي: الكثير من الحنين ممزوجاً بثورة فنية مقاومة تأبى أن تنسى وتأخذ على عاتقها دور بناء الذاكرة.
تم إختيار وتنظيم تلك الأعمال الفنية من قبل "غاليري مارك هاشم"، بالتعاون مع شركة سوليدير. ويشارك في المعرض كل من: بشار الحروب، رأفت أسعد، سميرة بدران، تيسير بركات، رنا بشارة، عيسى ديبي، رولا حلواني، وفا حوراني، منذر جوابرة، بشير مخول، رانيا مطر، محمد الحواجري، محمد مسلّم، ستيف سابيلا، ليلى شوا، ناصر سومي، ماري توما، وهشام زريق. والعرض مستمر حتى الثالث من آب المقبل، يومياً، من الحادية عشرة صباحاً وحتى الثامنة مساء.