لـ"مدينة" شخصية.. قطعت يديها لمنع تكبيلهما
كيف يمكن لشاب ثائر على المفاهيم المستوردة، رافض لأي نوع من أنواع تطبيع علاقة التصميم بالانظمة الرأسمالية، ومجاز في التصميم الغرافيكي أن يقول الكثير بتقنية فنية عالية، ونص بسيط وممتنع في آن واحد؟
هو عماد جبرايل (24 عاماً). يتكلم بلسان مدينة متواطئة على نفسها وعائمة على أسطح الأحكام المسبقة. فعلى حد قوله، بدأت رحلة بحثه عن متنفس فني وسياسي، بعد عرضه مشروع التخرج من جامعة AUST العام 2013، حين عرض جبرايل موضوع علاقة التصميم بالأنظمة، الرأسمالية منها واليسارية، فوجد السبيل في الرسوم الإيضاحية أو Illustration للهروب من التسويق. بعد تخرجه، زادت علاقته بالسياسة تعمقاً وسخطاً، هو المتعلق باللغة العربية والمؤمن بقدرة تعبيره من خلالها، فوجد لنفسه ملاذاً أسماه "مية مدينة" (أي مئة مدينة بالعامية.. أو تعرف على مدينة بحسب ترجمة كلمة meet من الانكليزية)، وانشأ صفحة مدينته الخاصة في فايسبوك وموقع تامبلر.
في رحابة التواصل الاجتماعي، ينشر جبرايل رسوماً لمدن عربية، ويحيك بحبره الأسود منمنمات في تفاصيل صورها. تلك المدن هي إنعكاس لرأي جبرايل وملاحظة وحكمه الشخصي، بصفته زائراً سابقاً للبعض منها أو متتبعاً، من خلال بحثه وقراءته وتحليله الخاص، للبعض الآخر. وهو في السياق هذا، يعترف بتصالحه مع الأحكام المسبقة ويعلم كم قد يكلفه ذلك من حقد، لكنه وبحسب تعبيره: "بفضل يكرهوا شغلي ولا إنو يحبوه بدرجة عادية أو غير مهتمة".
في تلك المدن زائر(ة) دائم(ة)، شخصية متمثلة في ذقن رجل وشعر إمرأة وعباءة تصلح للجنسين، هي محاولة جبرايل لتحييد سياق حديثه عن أي مشاكل الجنسين ومعاناتهما في تلك المجتمعات والمدن. فبالنسبة إليه، تم استُهلكت تلك الموضوعات، وهو يفضل عدم الخوض في جدليتها. وللمفارقة، يوضح المصمم كيف أن رسمه للشخصية سبق ظهور المغني المتحول جنسياً في مسابقة "يوروفيزيون"، كونشيتا ورست، الذي يشبه إلى حد ما شخصية "مدينة" من حيث شعره الطويل ولحيته.. وغريبة هي شخصية "مدينة"، إذ تفتقد عينها للبؤبؤ وتقتصر على شكل نصف دائري يتخطى حدود الوجه، مع بعض الرموش. تفتقد "مدينة" إلى يدين وتنتهي حدود ذراعيها مع كُمّ العباءة.
شخصية "مدينة" تبحث عن هويتها في كل من تلك الرحلات. وهي، إن وجدت نفسها في مكان ما، هربت منه خوفاً من الملل وبحثاً عن تحدٍّ جديد. قد تحمل الشخصية الكثير من آراء جبرايل، لكنه أرادها هوية ورمزاً معمماً للجميع، فهي تمثل الشباب العربي الباحث بلا كلل. لا تشبه مدن المؤلف أياً من المدن المألوفة، حتى وإن كانت أسماؤها غزة، دبي، دمشق وجونيه. فشخصية "مدينة"، هجينة ومتطرفة وعنيدة، لها في كل من مواضيع الساعة رأي خاص: "أرقصي مدينة. أرقصي على أطلال الخيانة، أرقصي على إيقاع دك البنادق وهتك الأعراض. أرقصي، فالرقص في غزة مشروعٌ تماماً كالمقاوَمة غير المقاوِمة. ميلي يميناً ويساراً، ميلي خائنةً ومناضلة، ميلي، دوري وانتشي تطبيعاً، إنتشي تطبيعاً. ميلي مدينة، وغادري غزة فهي أضحت غريبة حتى عمّن ولدتهم... تمتمت غاضبةً، فوضبت حقائبها وغادرت مدينة".
لم قد ترقص شخصية مدينة في حضرة بؤس غزة؟ أتراها تشمت بيمينها ويسارها؟ أم ترثي غربة أحست بها ليلة وطأت قدماها تلك الأرض؟ هل ترى شخصية مدينةن خلف رسم عينيها المغمضتين بالأسود، ما يجري حولها؟ أم تراها تسكر لتصفيق وترحيب تلك الأيدي الغزاوية الممدودة كمن يستنجد قبل الغرق خلف مكعبات الباطون المتصدعة؟ في غزة أضواء مطابقة لشكل العيون وبيوت تسكنها أبنية ودجاجات. وعلى أسطحها أيادٍ ممدودة للأعلى، قد تتلاصق دونما تشابك، استبدلت بها غزة أنتينات الاستشعار. ليست في غزة وجوه، لم يعد فيها سوى جروح مضمدة، لا تشبه غزة نفسها إلا بالشباك الحديدي الممتد على يسار الصورة.
تتأرجح رسوم جبرايل من الناحية البصرية، بين لوحات لور غريب وأسلوب جان مارك نحاس، ولعلها تجد لنفسها مكاناً بينهما لا يشبه أياً منهما. ما قد يميز عمل "مية مدينة" يتلخص في وصل الرسوم الإيضاحية برسائل قصيرة غير مباشرة، تحمل الكثير من السياسة، حتى تصل إلى حد إثقال خيالات بعض المستمتعين بالتجوال في صور المصمم العابقة بالتفاصيل لا أكثر. حتى إنها قد تصلح بثوريتها، أن تفرض نفسها كجداريات في تلك المدن.
لا يسعى المصمم إلى تسويق عمله. فالفكرة انطلقت من عمل خاص بعيد من الربح، وهو لذلك يعرض على زوار صفحته إرسال تلك الصور بحجم ملصق، للراغبين في إقتناء صورة لمدينة من مدنه. لا ينفي رغبته في جمع كل تلك المدن يوماً ما في كتاب، وهو متحمس للتعاون مع أي من الفنانين الشباب في مجال الرسم لتوسيع وإغناء التجربة، على الا يدفع ذلك "مدينة" إلى التنازل عن أي من قناعاتها.
ستنتهي رحلة "مدينة" يوم تجد لنفسها إسماً، لكنها على الأرجح سترفض التقيد بمدلول طائفي طبقي عرقي، فهي ليست "ريتا" ولا "فاطمة"، ولن تسلم بانتمائها إلى منظومة. لن تحمل هوية ولا إجازة سفر ولا أوراقاً ثبوتية ولا حتى جنسية. "مدينة" عماد جبرايل لا تريد أن تجد لنفسها هوية، هي/هو حرة/حر, حرة/حر ,حرة/حر إلى حد قطعها يديها للحؤول دون تكبيلهما.