"ذروة الفن السوري": شباب يساجلون الآباء المؤسسين
رغم ظروف النزوح القسري داخل سوريا وخارجها، لم يتوقف الكثير من التشكيليين السوريين عن العمل. رافقوا الثورة منذ انطلاقتها، تعرّضوا للاعتقال أو اضطروا إلى الهرب، ومنهم من قضى تحت التعذيب، لكن حضورهم ازاداد تنوّعاً وزخماً حتى بات من الصعب أحياناً متابعتهم على نحو كاف.
تحت عنوان "ذروة الفن السوري"، تعرض "غاليري أيام" في بيروت، بالتوزاي مع صالتها في دبي، لوحات لخمسة فنانين سوريين: عبد الكريم مجدل البيك، نهاد الترك، قيس سلمان، مهند عرابي وعثمان موسى. يرافق المعرض ألبوم يقدم صوراً مزوّدة بدراسة تحليلية، كتبتها ميمنة فرحات، عن علاقة الأجيال السورية المعاصرة مع "آبائهم" المؤسّسين مثل فاتح المدرس ولؤي كيالي وآخرين، والأساليب الجديدة لكل من جيل مواجهة الحاضر السوري. وتشير فرحات إلى "أن الفنانين المشاركين للمرة الأولى بشكل جماعي، كانوا قد اجتمعوا في مشروع (شباب أيام) الذي تأسس العام 2007، ليشكّل لاحقاً، مع فنانين مختارين آخرين، دائرة متماسكة أثبتت حيويتها وقدرتها على التطور، لكن غالبيتهم تشتتت لاحقاً بين دمشق وبيروت ودبي".
يواصل مجدل البيك تعميق رؤيته في موضوعة "الجدار" التي كان قد بدأها قبل سنوات في دمشق، مازجاً بين أكياس خيش وقطع زجاج وأوراق انتزعها من جدران دمشقية، إضافة إلى صلبان صغيرة، وأعواد قطن من قرية "موريك" في ريف قامشلو، كي يخلطها بالتبن والرمل والجصّ والفحم والرماد. يبدأ مما هو ملموس وأليف، ثم يحول تلك القرابة اليومية مع الجدران والأشياء إلى بُعد بصري تجريدي متماسك. الجدار الذي يقابل الذاكرة ويتلقى الإشارات؛ نعواتٍ وكلمات حب وخيبة وتمرد، يعود كي يواجه الزمن. لا يمكننا القول إنها أعمال من قبيل الرمز والتوثيق وحسب. فيها شيء من الرمزية وشيء من الحنين وشيء من الصلابة وشيء من الجمود الثابت. تستدعي لحظة الوقوف أمام جدار، مزيجاً من الحماية والمنع، التذكّر والمرافقة في آن واحد. غير أن الاكتفاء بخلط العناصر لا يحولها إلى عناصر جديدة. يبدو العمل لذلك أقرب إلى عجينة خام وقد تمازجت وتداخلت على نحو عضوي، إنها بذلك أصل جديد لجدار كان أصلاً لها.
لوحاته ليست انعكاساً لصورة أو وقوفاً أمام محض مرآة. في عمل جداري ضخم أخذ مجدل البيك قماش خيمة عسكرية وأوثقها بسكاكين ذات مقابض سوداء. حمل الأشياء التي هي ثقل الواقع ومادته القاتمة، الخيمة العسكرية والبنادق والسكاكين على النهوض والمثول في لوحة طبعها بسواد محترق وبقع ذات ملمس ثلجي بارد.
الزهور والنباتات، الطيور والسمكة، والحيوان – الحشرة الخرافية بفمها المفتوح والذيل القصير، التي طالما قدّمها نهاد الترك في أكثر من صيغة، ملتوية أو خارجة عن حدودها، الطاولة المعوجة المائلة إلى السقوط والمزهرية الطافية ببتلات زهورها تتحول مع لوحاته الجديدة، برفقة الضوء القوي إلى صورة داخلية متخيلة. ثمة طاقة لونية حارة تتدفق وتتلاصق وتتوهج، اللون يشع فيما هو يتحول إلى شكل خالص. الشجرة أقرب إلى مزهرية كبيرة، شجرة مزينة من داخل الدماغ والرأس بدوائر ومثلثات أقرب إلى تعويذة، وكذلك هي السمكة الحمراء. كما أن الحيوان الغريب ذا الأرجل الكثيرة يعود ويظهر من جديد على ذرى وحواف مسننة كحال التفاحة التي استقرت أعلى تكسرات تنتهي بذروة متشنجة. يختلط ما هو كابوسي ومدعاة تعاسة بما هو مبهج وغزير. يأخذ نهاد مادة من الذاكرة البعيدة ومادة مما هو مرئي ويجمعهما في وحدة لونية مبهجة. تبث اللوحة مكاناً من داخلها، وتغدو أقرب إلى انعكاس داخلي مكثف ورشيق.
وثمة بُعد فوتوغرافي دقيق، حيادي وباهر في لوحات عثمان موسى. حبة الكوسا هي نقل حقيقي لحبة كوسا فعلية، كذلك زجاجة الحليب والبطيخة منقولة كما لو كانت الغاية التذكير بما هو حقيقي للوهلة الأولى. نقاء ناقلٌ وشفافية أثيرية كأنما جاءتا من مختبر معقم. غير أن كل ذلك مرهون ومقيد بانفجار لصيقٍ بها عبر ربطها بمفخخات وأصابع متفجرات. زجاجة الحليب التي تحملها الأم إلى طفلها، وحبة الكوسا التي كان يفترض ان تكون على طاولة مطبخ أو في وعاء على موقد، البطيخة الجميلة المخططة، كلها لم تعد في مكانها ولا تحت يد استعمالها العادي. لا شيء عادياً في سوريا بعد 2011. يمكن للحليب أن يكون سبب الموت والجوع والقتل. يمكن للطعام أن يتحول إلى غبار متفجر. العنف في قلب الحياة، هي لحظة واحدة تكفي كي تتحول الأشياء العادية إلى نقيضها.
في إحدى لوحات مهند عرابي يأخذ وجه الطفل كامل اللوحة تقريباً. دائرة الأمس أمام عين اللحظة الجارفة. دراما تحيط بوجه الطفل وتمتد من خديه وجبينه وفمه ولمعات الدمع الزجاجية في عينيه، الحزن والبراءة والابتسامة الغائرة الصغيرة والهادئة تجدها مع بندقية هي أقرب إلى لطخة حمراء بيد الطفل الذي تبدو نظراته وملامحه أبعد ما تكون عن معرفة أي شيء. يظهر السلاح في مقدمة اللوحة كما لو أنه يقيم خارجها. يأتي الوجه من فكرة وحياة تنبغي حمايتهما أكثر مما يأتي من واقع دفن الأفكار، رغم أنه يظل ملتبساً بها. لدى الفنان السوري تبقى الآمال متوازية مع أثمانها المدفوعة، واللوحة التي تنقل الصدمة واللامعقول تبقى أسيرة حلم حقيقي وبسيط تحول مع مرور الوقت إلى مأساة تكاد تتوالد بلا نهاية. اللوحة بهذا هي أيضاً نوع من إعلان مرافق ورسالة وفائيّة وتذكير أخلاقي. ثمة داوئر حول وجه الطفل الذي تبقى نظرة عينه متوسلة ومستشفقة، مؤجلة كأنما هي في انتظار من يعود كي ينتشلها ممن يترصد قتلها. زمنٌ من وجه يجسد فكرة وحياةً هي حياة أي أحد.
أما لوحات قيس سلمان فتعبّر عن هيئات رمزية، كاريكاتورية بمقاسات كبيرة، تحيل إلى أتباع تيار ديني متطرف واسع الانتشار. يبدو قيس سائلاً غاضباً عن عدم التوافق والغرابة التي تجمع بين شخصيات تريد إعادة التاريخ إلى الوراء، فيما هي تتوسل أدوات من عالم استهلاكي شمولي قطع الصلة مع أفكار الماضي! سماكة وثقل وتجويف (خواء) تغلف الوجوه على نحو معبر عن انغلاق فكري وهو، في الوقت نفسه، أقرب إلى التهريج والبربرية. يرى سلمان من الماضي وقد عاد حاضراً وجوهاً أقرب إلى مهرّجين معاصرين سرعان ما يتحولون إلى مسوخ معولمة. الأسنان القبيحة والنظرة الشريرة هي التي تقف خلف أفعال همجية، هي التي تدفن مثالاً لطالما تغذت عليه إلى أن حولته إلى نفاية!
(*) "ذروة الفن السوري" غاليري أيام/ بيروت -دبي، مستمر حتى 2 آب/أغسطس المقبل.
تحت عنوان "ذروة الفن السوري"، تعرض "غاليري أيام" في بيروت، بالتوزاي مع صالتها في دبي، لوحات لخمسة فنانين سوريين: عبد الكريم مجدل البيك، نهاد الترك، قيس سلمان، مهند عرابي وعثمان موسى. يرافق المعرض ألبوم يقدم صوراً مزوّدة بدراسة تحليلية، كتبتها ميمنة فرحات، عن علاقة الأجيال السورية المعاصرة مع "آبائهم" المؤسّسين مثل فاتح المدرس ولؤي كيالي وآخرين، والأساليب الجديدة لكل من جيل مواجهة الحاضر السوري. وتشير فرحات إلى "أن الفنانين المشاركين للمرة الأولى بشكل جماعي، كانوا قد اجتمعوا في مشروع (شباب أيام) الذي تأسس العام 2007، ليشكّل لاحقاً، مع فنانين مختارين آخرين، دائرة متماسكة أثبتت حيويتها وقدرتها على التطور، لكن غالبيتهم تشتتت لاحقاً بين دمشق وبيروت ودبي".
يواصل مجدل البيك تعميق رؤيته في موضوعة "الجدار" التي كان قد بدأها قبل سنوات في دمشق، مازجاً بين أكياس خيش وقطع زجاج وأوراق انتزعها من جدران دمشقية، إضافة إلى صلبان صغيرة، وأعواد قطن من قرية "موريك" في ريف قامشلو، كي يخلطها بالتبن والرمل والجصّ والفحم والرماد. يبدأ مما هو ملموس وأليف، ثم يحول تلك القرابة اليومية مع الجدران والأشياء إلى بُعد بصري تجريدي متماسك. الجدار الذي يقابل الذاكرة ويتلقى الإشارات؛ نعواتٍ وكلمات حب وخيبة وتمرد، يعود كي يواجه الزمن. لا يمكننا القول إنها أعمال من قبيل الرمز والتوثيق وحسب. فيها شيء من الرمزية وشيء من الحنين وشيء من الصلابة وشيء من الجمود الثابت. تستدعي لحظة الوقوف أمام جدار، مزيجاً من الحماية والمنع، التذكّر والمرافقة في آن واحد. غير أن الاكتفاء بخلط العناصر لا يحولها إلى عناصر جديدة. يبدو العمل لذلك أقرب إلى عجينة خام وقد تمازجت وتداخلت على نحو عضوي، إنها بذلك أصل جديد لجدار كان أصلاً لها.
لوحاته ليست انعكاساً لصورة أو وقوفاً أمام محض مرآة. في عمل جداري ضخم أخذ مجدل البيك قماش خيمة عسكرية وأوثقها بسكاكين ذات مقابض سوداء. حمل الأشياء التي هي ثقل الواقع ومادته القاتمة، الخيمة العسكرية والبنادق والسكاكين على النهوض والمثول في لوحة طبعها بسواد محترق وبقع ذات ملمس ثلجي بارد.
الزهور والنباتات، الطيور والسمكة، والحيوان – الحشرة الخرافية بفمها المفتوح والذيل القصير، التي طالما قدّمها نهاد الترك في أكثر من صيغة، ملتوية أو خارجة عن حدودها، الطاولة المعوجة المائلة إلى السقوط والمزهرية الطافية ببتلات زهورها تتحول مع لوحاته الجديدة، برفقة الضوء القوي إلى صورة داخلية متخيلة. ثمة طاقة لونية حارة تتدفق وتتلاصق وتتوهج، اللون يشع فيما هو يتحول إلى شكل خالص. الشجرة أقرب إلى مزهرية كبيرة، شجرة مزينة من داخل الدماغ والرأس بدوائر ومثلثات أقرب إلى تعويذة، وكذلك هي السمكة الحمراء. كما أن الحيوان الغريب ذا الأرجل الكثيرة يعود ويظهر من جديد على ذرى وحواف مسننة كحال التفاحة التي استقرت أعلى تكسرات تنتهي بذروة متشنجة. يختلط ما هو كابوسي ومدعاة تعاسة بما هو مبهج وغزير. يأخذ نهاد مادة من الذاكرة البعيدة ومادة مما هو مرئي ويجمعهما في وحدة لونية مبهجة. تبث اللوحة مكاناً من داخلها، وتغدو أقرب إلى انعكاس داخلي مكثف ورشيق.
وثمة بُعد فوتوغرافي دقيق، حيادي وباهر في لوحات عثمان موسى. حبة الكوسا هي نقل حقيقي لحبة كوسا فعلية، كذلك زجاجة الحليب والبطيخة منقولة كما لو كانت الغاية التذكير بما هو حقيقي للوهلة الأولى. نقاء ناقلٌ وشفافية أثيرية كأنما جاءتا من مختبر معقم. غير أن كل ذلك مرهون ومقيد بانفجار لصيقٍ بها عبر ربطها بمفخخات وأصابع متفجرات. زجاجة الحليب التي تحملها الأم إلى طفلها، وحبة الكوسا التي كان يفترض ان تكون على طاولة مطبخ أو في وعاء على موقد، البطيخة الجميلة المخططة، كلها لم تعد في مكانها ولا تحت يد استعمالها العادي. لا شيء عادياً في سوريا بعد 2011. يمكن للحليب أن يكون سبب الموت والجوع والقتل. يمكن للطعام أن يتحول إلى غبار متفجر. العنف في قلب الحياة، هي لحظة واحدة تكفي كي تتحول الأشياء العادية إلى نقيضها.
في إحدى لوحات مهند عرابي يأخذ وجه الطفل كامل اللوحة تقريباً. دائرة الأمس أمام عين اللحظة الجارفة. دراما تحيط بوجه الطفل وتمتد من خديه وجبينه وفمه ولمعات الدمع الزجاجية في عينيه، الحزن والبراءة والابتسامة الغائرة الصغيرة والهادئة تجدها مع بندقية هي أقرب إلى لطخة حمراء بيد الطفل الذي تبدو نظراته وملامحه أبعد ما تكون عن معرفة أي شيء. يظهر السلاح في مقدمة اللوحة كما لو أنه يقيم خارجها. يأتي الوجه من فكرة وحياة تنبغي حمايتهما أكثر مما يأتي من واقع دفن الأفكار، رغم أنه يظل ملتبساً بها. لدى الفنان السوري تبقى الآمال متوازية مع أثمانها المدفوعة، واللوحة التي تنقل الصدمة واللامعقول تبقى أسيرة حلم حقيقي وبسيط تحول مع مرور الوقت إلى مأساة تكاد تتوالد بلا نهاية. اللوحة بهذا هي أيضاً نوع من إعلان مرافق ورسالة وفائيّة وتذكير أخلاقي. ثمة داوئر حول وجه الطفل الذي تبقى نظرة عينه متوسلة ومستشفقة، مؤجلة كأنما هي في انتظار من يعود كي ينتشلها ممن يترصد قتلها. زمنٌ من وجه يجسد فكرة وحياةً هي حياة أي أحد.
أما لوحات قيس سلمان فتعبّر عن هيئات رمزية، كاريكاتورية بمقاسات كبيرة، تحيل إلى أتباع تيار ديني متطرف واسع الانتشار. يبدو قيس سائلاً غاضباً عن عدم التوافق والغرابة التي تجمع بين شخصيات تريد إعادة التاريخ إلى الوراء، فيما هي تتوسل أدوات من عالم استهلاكي شمولي قطع الصلة مع أفكار الماضي! سماكة وثقل وتجويف (خواء) تغلف الوجوه على نحو معبر عن انغلاق فكري وهو، في الوقت نفسه، أقرب إلى التهريج والبربرية. يرى سلمان من الماضي وقد عاد حاضراً وجوهاً أقرب إلى مهرّجين معاصرين سرعان ما يتحولون إلى مسوخ معولمة. الأسنان القبيحة والنظرة الشريرة هي التي تقف خلف أفعال همجية، هي التي تدفن مثالاً لطالما تغذت عليه إلى أن حولته إلى نفاية!
(*) "ذروة الفن السوري" غاليري أيام/ بيروت -دبي، مستمر حتى 2 آب/أغسطس المقبل.