لكل 20 سنتمتراً قصة

عمر الجباعي
الجمعة   2014/05/09
من أعمال الفنان السوري عمران يونس
 نيسان 2010: عمري 28 سنة، أحاول الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية كي أنقذ ما تبقى من العمر، وربما يمكنني القول: كان لدي طموح أيضاً.
 
دورة الأغرار في كلية المشاة. إحترامي سيدي النقيب. إحترامي سيدي العقيد. إحترامي سيدي العميد. إحترامي سيدي الشجرة. حاضر سيدي، وتكتيكات معقدة لتهريب المتة والسكر ووشائع التسخين. يحتاج الأمر لقليل من الموهبة أيضاً.
 
أيلول 2010: الفرز، الجندي المناسب في المكان المناسب، كلنا مناسبون وكل الأماكن مناسبة، إلى أين تم فرزك؟ إلى مكان مناسب، جيد. وأنا أيضاً. بعد ستة شهور من التأهيل العسكري الجدي أصبحنا نعرف أن ما نسميه "الجيش" لم يكن الجيش بل "الجيش العربي السوري"، بعد ستة شهور من التأهيل العسكري الجدي حتى صديقي دلشاد بات يعرّف نفسه على أنه مساعد في "الجيش العربي السوري".
 
آذار 2011: وبينما كنت في المكان المناسب أغبّ كمية مناسبة من المتة، غافلتنا الحتمية التاريخية، الحتمية التاريخية أنانية إلى هذه الدرجة، طيب يا حتمية، أولاً الحمد لله على السلامة، اشتقنالك، ثانياً شكراً لكِ، في ذلك الوقت على الأقل.
 
أيار 2013: عمري 31 سنة، ثلاثة شبان مناسبين، وكان لدينا طموح ذات مرة، طاولة، ثلاث زجاجات بيرة، الساعة الحادية عشرة صباحاً، في الشارع أغان تمجّد "سيدنا" بشار عليه السلام، وتصرّ على أنها: صغيرة يا كبير، وبضع انفجارات، والكثير من العجز والصمت والتلفع بالذات.
 
كنا ثلاثة من المحتفظ بهم في صفوف "الجيش العربي السوري"، سنة وسبعة شهور من عمرنا البشري القصير تم الاحتفاظ بها في سجلات "الجيش العربي السوري" زيادة على السنة والنصف الإلزامية. كنا ثلاثة، وما زال بعض الرمق يسري فينا، عندما رنّ هاتفي النقال: - ألو.. إحترامي سيدي الرائد.. حالاً سيدي الرائد... حاضر سيدي الرائد.
أكملت شرب البيرة على مهل، وانطلقت حسب أوامر سيدي الرائد، طب غم وإذا أنا بفرع المنطقة (الريف). كانت التهمة في البداية تجسّس، ثم التحريض على النظام السياسي، ثم.. كلنا مناسبون وكل التهم مناسبة.
لسبب ما نقلت إلى فرع المنطقة (المدينة)، ثم من جديد إلى فرع المنطقة (الريف)، لم أكن خائفاً طبعاً، كنت خائفاً قليلاً، أجل كنت خائفاً جداً، ولم يساعدني عناصر الفرع بقليل من التشجيع، رغم أننا جميعاً تحت سقف "الجيش العربي السوري"، كيف يمكنني أن أقنعهم أن الضرب والشبح ومسح الأحذية بالوجوه لا يشجع الإنسان؟
- يلي بيطلع إسمو يقول حاضر.
- حاضر.
 
المهجع رقم ثلاثة، فرع المنطقة (الريف) أيار 2013، عمري 31 سنة، سبق أن قرأت تشيخوف وسوفوكلس وبيكت وغيرهم، وفي العشرين سنتيمتراً بعدي ثمة من قرأ قانون الطابو ويحفظ عن ظهر قلب كيف تتم معاملات الزواج وإخراج القيد وحتى جواز السفر. لكل عشرين سنتيمتراً قصة وخبرات وحياة تتجاوز تشيخوف وسوفوكلس وبيكت بكثير أحياناً. لم نكن نحن نحن، كان كل واحد فينا مجموعة من الأرجل والأصابع والبطون والمؤخرات والرؤوس، لا يمكنك أن تعرف أين تبدأ أنت بالضبط وأين تنتهي بالضبط. لكن كلنا مناسب، وكل الأماكن مناسبة.
 
ثمة فسحة في ذلك الضيق يخلفها موسى الصمادي، طفل لم يتجاوز الثالثة عشرة، من درعا، مدينة الحتمية التاريخية، لكنه كان يقيم مع أهله في مخيم اليرموك. عينان سوداوان واسعتان كشخصيات الرسوم المتحركة، جسده نحيل جداً، أصفر ومليء بالقروح، يبتسم بين الفينة والفينة، لم يكن ذلك هو اليوم الأول لموسى، إنه هنا منذ أربعة شهور ونيف.
كان يضحك، يبكي، ويسأل ببراءة حقيقية، باستغراب مستفز: ليش عم يعملوا فينا هيك؟ كانوا مناح معي بالأول، أبو فراس كان يقعدني برا بالكريدور ويعطيني بطاطاية ورغيف خبز كل ما يكون مناوب، ليش هيك صاروا؟ والله بس بدي أعرف، إذا ساويتلهن شي والله بعتذر.
- شو تهمتك موسى؟
- إنو عم طعمي الجيش الحر.
- الله يصلحك، هي عملة بتعملها؟
- الله يصلحك إنت، أنا خرج طعمي الجيش الحر.

تذكرت تهمة أمرت أن أعترف بها في التحقيق الثاني:
- إنت قتلت البوطي ولاااك.
- !!!!!!!!!! 
حسناً ربما أكون قد قتلته، وهل أنا أدرى من سيادته؟

موسى الصمادي، قياس قدمه لا يتجاوز 38، جسد نحيل أصفر مليء بالقروح، ثمة فسحة يتركها لنا دائماً لأن الأوامر تقضي بأن يظل واقفاً إن لم يكن مشبوحاً على أحد قضبان المهجع، وكان يترك فسحة أكبر كل ليلة حين يقاد إلى كريدور البطاطا ورغيف الخبز ليعذب حتى الموت. لكنه لم يمت، مئة وخمس وخمسون جلدة على رأسه في عشر ليال ولم يمت، استخدموا رأسه لليّ باب مهجعنا ولم يمت، ضُرب ورُكل وديس عليه وشُبح وحُرم من الطعام وغُطِّس في "البلوّ" وخُلع كتفاه وشُقت شفته على الكرسي الألماني ولم يمت.
 
المهجع رقم ثلاثة، فرع المنطقة (الريف) أيار 2013، موسى الصمادي عمره 13 سنة، لم يسبق له أن قرأ تشيخوف، لم يعطَ الوقت الكافي ليفعل. لا يا سيدي، لسنا كلنا مناسبين، ولا كل الأماكن مناسبة، لا أحد مناسب لهذا المكان. حتى أبو فراس.
 
آب 2013: القضاء العسكري، مرّت ثلاثة شهور على اعتقالي، قضيت منها نحو أربعين يوماً مع موسى، نقلت بعدها إلى فرع آخر، ومنه إلى القضاء العسكري. أعرف هذا الوجه، لكن أين رأيته؟ في فرع المنطقة (الريف)، عرفني هو الآخر، تعانقنا، أول سؤال خطر لي:
- طمني عن موسى الصمادي؟
- نقلوه عالفرع 248.
الفرع 248، فرع تحقيق عسكري أيضاً، موسى أتم عامه الثالث عشر في فرع المنطقة، فرع تحقيق عسكري آخر، وموسى لا يتجاوز مقاس قدمه الـ38، وأنا في القضاء العسكري، لم أتم عامي الواحد والثلاثين بعد.
 
أنا أبتسم في وجه سيدي الرائد من جديد، وموسى الصمادي يبتسم ويبكي ويسأل في أحد فروع التحقيق العسكري، وهو لم يؤدِ الخدمة الإلزامية في "الجيش العربي السوري" بعد لينقذ ما تبقى من العمر. ولست متأكداً بشأن طموحه.