حين ينتخب المرء جلّاده
خلال عشر دقائق، وهي المدة التي استغرقتها لأترّجل من السرفيس الذي أقلني من وسط بيروت، كان عليّ الإصغاء إلى كمّ مهول من الشتائم على لسان مُتّصلين بأحد البرامج في "إذاعة الشرق" بالذات. بدا البرنامج الإذاعي فرصة لمواطنين لبنانيين ليفرّغوا غضباً شديداً، وهم عالقون لساعاتٍ طوال على الطرق بسبب تدفّق سوريين نحو سفارة بلادهم في منطقة اليرزة. المذيع قطع الاتصال مع أحدهم مستدركاً بارتباك "الأولاد بسوريا ما بيستاهلوا اللي عم بيصير"! فمحدّثه كان يصرخ: "السوريين بيستاهلوا اللي عم بيصير فيهم وأكتر". فيما عبّرَ متصلٌ آخر عن يقينه بأن أهل منطقته على وشك ارتكاب مجازر قريباً بحق السوريين الذين تدفّقوا على لبنان وجلبوا معهم كل الشرور! مجدّداً لم أصل إلى نهاية مشواري بالسرفيس، ترجلتُ للمرة الثانية في يوم واحد تجنّباً لمزيدٍ من جرعات الكراهية ومن نقاشات لا طائل منها.
والحق أن لغضب اللبنانين في يوم "العرس الديم,قراطي" أسباباً وجيهة. تتعدّى بكل تأكيد أن يعلق موظفون وطلاب في اختناق مروري امتد لساعاتٍ طوال، في اليوم ذاته الذي وصلنا فيه بيان وزارة الداخلية والبلديات اللبنانية، عبر هواتفنا المحمولة، لينصّ أن "على النازحين السوريين عدم المشاركة في أي لقاء أو حدث سياسي علني قد يؤثر في الأمن والاستقرار والأمن في لبنان أو في علاقة النازحين السوريين بالمواطنين اللبنانيين".
لكني كسوري غاضب في لبنان، كعموم اللبنانين والسوريين هذه الأيام، أحاول أن أكظم غيظاً من تصاعد لهجة عنصرية تشمل جميع السوريين في يوم الانتخابات المجيد هذا! ينبع الغيظ من يقيني بأن اللبنانين "الحانقين" يدركون بأن حلفاء النظام السوري يملكون اليد الطولى في لبنانهم اليوم. هؤلاء قادرون بكل تأكيد على التأثير في قرار سوريين لاجئين حول الانتخاب. ليس بالتهديد المباشر بالضرورة، وإنما بالتذكير، المُتاح في كل حين، بأن النظام السوري ما زال حاضراً هنا، له عيونه وآذانه. وبالترغيب حيناً، والذي لا نعرف حدوده فعلاً، كأن يصرّح السياسي البعثي اللبناني عاصم قانصوه بأن أفراداً -هو من ضمنهم- يساعدون اللاجئين على السفر إلى بيروت للإدلاء بأصواتهم في السفارة (رويترز). في مقابل ذلك، وكسوري غاضب في لبنان أيضاً، أجد أنه من المشين ألا ينشغل معارضون سوريون إلا بسردياتٍ تقول إن من ذهب إلى السفارة اليوم، فعل ذلك بضغطٍ من حزب الله أو سواه. أو قدم عبر حافلات مُسيّرة من دمشق. فحتى إن صح جزء من هذا، ففي الاعتماد عليه فقط ما لا يليق بحسن التقدير ومعرفة طبيعة الأمور على الأرض، وهو في مجمله استمرارٌ في نسب كل شيء إلى نظرية مؤامرة مقابلة للنظرية الأم التي عاش عليها النظام طويلاً. هناك إذاً من ذهب إلى السفارة بإرادته، لا شك بهذا.
لكن، بين السوق نحو الانتخابات عنوةً أو الذهاب حبّاً ورغبة، لماذا يبدو انعدام الحيلة ممزوجاً بخوفٍ راسخٍ في الصدور، السبب الأول وراء قرار معظم من ذهب للانتخابات؟ سأذكر هنا نماذج ثلاثة لأشخاص عرفتهم عن قرب.
"ن" شاب في أوائل العشرينات من عربين بريف دمشق، قدم إلى لبنان منذ عام ونيف تقريباً، عمل في رَكن السيارات لرواد أحد المحلات. "م" شاب في مطلع العشرينات أيضاً، من حلب، قدم إلى بيروت هرباً من الخدمة الإلزامية، يزاول حرفته كحلاق رجالي كي يساهم في إعالة أسرته التي ما زالت إلى اليوم تقطن أحد أحياء القسم الغربي من حلب والذي تسيطر عليه قوات النظام. فيما "ع"، في مطلع الثلاثينات، من ريف حلب، يعمل في توصيل الطلبات لأحد المطاعم، وهو متزوّج وله ولدان. لا يدين أحد من هؤلاء بالحبّ لبشار الأسد. خرجوا من سوريا إما لأنهم خسروا بيوتهم أو تعرضت مناطقهم لتنكيلٍ من جيش النظام أو لأنهم لا يريدون الالتحاق بالجيش، وهم كلهم بالطبع خرجوا لتحصيل رزقهم بعدما تقطعت بهم السبل، وهو حال عموم السوريين في لبنان اليوم. لم يلاحق النظام أياً منهم بشكل مباشر. الحق أنهم لم ينخرطوا بشكل فعّال في الثورة عليه، لكنهم انتموا إلى مجتمعات حضنت الثورة وعوقبت لأجل ذلك.
والد "ن" مثلاً كان سائق تاكسي، وقد اعتُقل عند حاجز أمني من دون أي سبب جلي، وما زال مغيّباً منذ ما يقرب السنة، من دون أن يعلم ذووه إن كان على قيد الحياة أم لا! الثلاثة ما زالوا قادرين على عبور الحدود بشكلٍ رسمي، لزيارة أهلهم، حين يتمكّنون من نيل إجازة، وهو أمرٌ نادر. الأهم أنهم ما زالوا يشعرون بأن لبنان يضيق بهم وعليهم، وهم لا يملكون إلا التفكير بأنهم ربما يضطرون للعودة إلى سوريا في وقتٍ قريب. هذا بالضبط ما دفع الثلاثة للذهاب للانتخاب، من دون الحاجة إلى تهديد مباشر من أي جهة. إنها الخشية من إجراءات عقابية عند دخولهم سوريا. ورغم عدم رغبتهم فعلاً في رؤية الأسد الابن يحكم سوريا لسنوات مقبلة، انتهى الأمر بثلاثتهم ينتخبونه بالذات! لأنهم بالضبط يشعرون بأنهم متروكون لمصائر قاسية، ولأنهم يشعرون أن لا سند يحميهم إن صحّت الإشاعات التي تقول بأن من لن ينتخب لن تمدّد وثائق سفره! ولأنهم قبل كل ذلك أدركوا جيداً أن العالم كله فشل في، أو لم ينوي أصلاً، إيجاد أي أطر بديلة لتحكم النظام برقاب السوريين بوصفه الجهة الوحيدة التي ما زالت مخولة إصدار أوراق ثبوتية ووثائق سفر لجميع السوريين، حتى أولئك الذين يزدريهم هو، ويدمّر بيوتهم ومدنهم!
أكاد لا أجد أمراً أشد قسوة وغرابة من أن ينتخب "ن" رئيس النظام الذي اعتقل أباه، وربما قتله! "ن" ما زال يملك عائلة نزحت إلى إحدى ضواحي دمشق القريبة، له أم وأخ وأخت صغيرة، جُلّ ما يريده أن يعيلهم. هذا يقول أشياء كثيرة عن أحوالنا اليوم، وعن عالمٍ متخاذل وقاس فعل كل شيء كي يتأكد أننا سنُدجّن من جديد.
كان عصيباً أن أراقب نظرات "ن" المنكسرة مساء اليوم الذي انتخب فيه! وفيما تخوض المدينة من حوله نقاشات صاخبة، من اتهامات لتخاذل من انتخبوا، لشتائم لأنهم أغلقوا الطرقات، بقي "ن" مشغولاً بركن سيارات مَن يتحدثون عنه...
والحق أن لغضب اللبنانين في يوم "العرس الديم,قراطي" أسباباً وجيهة. تتعدّى بكل تأكيد أن يعلق موظفون وطلاب في اختناق مروري امتد لساعاتٍ طوال، في اليوم ذاته الذي وصلنا فيه بيان وزارة الداخلية والبلديات اللبنانية، عبر هواتفنا المحمولة، لينصّ أن "على النازحين السوريين عدم المشاركة في أي لقاء أو حدث سياسي علني قد يؤثر في الأمن والاستقرار والأمن في لبنان أو في علاقة النازحين السوريين بالمواطنين اللبنانيين".
لكني كسوري غاضب في لبنان، كعموم اللبنانين والسوريين هذه الأيام، أحاول أن أكظم غيظاً من تصاعد لهجة عنصرية تشمل جميع السوريين في يوم الانتخابات المجيد هذا! ينبع الغيظ من يقيني بأن اللبنانين "الحانقين" يدركون بأن حلفاء النظام السوري يملكون اليد الطولى في لبنانهم اليوم. هؤلاء قادرون بكل تأكيد على التأثير في قرار سوريين لاجئين حول الانتخاب. ليس بالتهديد المباشر بالضرورة، وإنما بالتذكير، المُتاح في كل حين، بأن النظام السوري ما زال حاضراً هنا، له عيونه وآذانه. وبالترغيب حيناً، والذي لا نعرف حدوده فعلاً، كأن يصرّح السياسي البعثي اللبناني عاصم قانصوه بأن أفراداً -هو من ضمنهم- يساعدون اللاجئين على السفر إلى بيروت للإدلاء بأصواتهم في السفارة (رويترز). في مقابل ذلك، وكسوري غاضب في لبنان أيضاً، أجد أنه من المشين ألا ينشغل معارضون سوريون إلا بسردياتٍ تقول إن من ذهب إلى السفارة اليوم، فعل ذلك بضغطٍ من حزب الله أو سواه. أو قدم عبر حافلات مُسيّرة من دمشق. فحتى إن صح جزء من هذا، ففي الاعتماد عليه فقط ما لا يليق بحسن التقدير ومعرفة طبيعة الأمور على الأرض، وهو في مجمله استمرارٌ في نسب كل شيء إلى نظرية مؤامرة مقابلة للنظرية الأم التي عاش عليها النظام طويلاً. هناك إذاً من ذهب إلى السفارة بإرادته، لا شك بهذا.
لكن، بين السوق نحو الانتخابات عنوةً أو الذهاب حبّاً ورغبة، لماذا يبدو انعدام الحيلة ممزوجاً بخوفٍ راسخٍ في الصدور، السبب الأول وراء قرار معظم من ذهب للانتخابات؟ سأذكر هنا نماذج ثلاثة لأشخاص عرفتهم عن قرب.
"ن" شاب في أوائل العشرينات من عربين بريف دمشق، قدم إلى لبنان منذ عام ونيف تقريباً، عمل في رَكن السيارات لرواد أحد المحلات. "م" شاب في مطلع العشرينات أيضاً، من حلب، قدم إلى بيروت هرباً من الخدمة الإلزامية، يزاول حرفته كحلاق رجالي كي يساهم في إعالة أسرته التي ما زالت إلى اليوم تقطن أحد أحياء القسم الغربي من حلب والذي تسيطر عليه قوات النظام. فيما "ع"، في مطلع الثلاثينات، من ريف حلب، يعمل في توصيل الطلبات لأحد المطاعم، وهو متزوّج وله ولدان. لا يدين أحد من هؤلاء بالحبّ لبشار الأسد. خرجوا من سوريا إما لأنهم خسروا بيوتهم أو تعرضت مناطقهم لتنكيلٍ من جيش النظام أو لأنهم لا يريدون الالتحاق بالجيش، وهم كلهم بالطبع خرجوا لتحصيل رزقهم بعدما تقطعت بهم السبل، وهو حال عموم السوريين في لبنان اليوم. لم يلاحق النظام أياً منهم بشكل مباشر. الحق أنهم لم ينخرطوا بشكل فعّال في الثورة عليه، لكنهم انتموا إلى مجتمعات حضنت الثورة وعوقبت لأجل ذلك.
والد "ن" مثلاً كان سائق تاكسي، وقد اعتُقل عند حاجز أمني من دون أي سبب جلي، وما زال مغيّباً منذ ما يقرب السنة، من دون أن يعلم ذووه إن كان على قيد الحياة أم لا! الثلاثة ما زالوا قادرين على عبور الحدود بشكلٍ رسمي، لزيارة أهلهم، حين يتمكّنون من نيل إجازة، وهو أمرٌ نادر. الأهم أنهم ما زالوا يشعرون بأن لبنان يضيق بهم وعليهم، وهم لا يملكون إلا التفكير بأنهم ربما يضطرون للعودة إلى سوريا في وقتٍ قريب. هذا بالضبط ما دفع الثلاثة للذهاب للانتخاب، من دون الحاجة إلى تهديد مباشر من أي جهة. إنها الخشية من إجراءات عقابية عند دخولهم سوريا. ورغم عدم رغبتهم فعلاً في رؤية الأسد الابن يحكم سوريا لسنوات مقبلة، انتهى الأمر بثلاثتهم ينتخبونه بالذات! لأنهم بالضبط يشعرون بأنهم متروكون لمصائر قاسية، ولأنهم يشعرون أن لا سند يحميهم إن صحّت الإشاعات التي تقول بأن من لن ينتخب لن تمدّد وثائق سفره! ولأنهم قبل كل ذلك أدركوا جيداً أن العالم كله فشل في، أو لم ينوي أصلاً، إيجاد أي أطر بديلة لتحكم النظام برقاب السوريين بوصفه الجهة الوحيدة التي ما زالت مخولة إصدار أوراق ثبوتية ووثائق سفر لجميع السوريين، حتى أولئك الذين يزدريهم هو، ويدمّر بيوتهم ومدنهم!
أكاد لا أجد أمراً أشد قسوة وغرابة من أن ينتخب "ن" رئيس النظام الذي اعتقل أباه، وربما قتله! "ن" ما زال يملك عائلة نزحت إلى إحدى ضواحي دمشق القريبة، له أم وأخ وأخت صغيرة، جُلّ ما يريده أن يعيلهم. هذا يقول أشياء كثيرة عن أحوالنا اليوم، وعن عالمٍ متخاذل وقاس فعل كل شيء كي يتأكد أننا سنُدجّن من جديد.
كان عصيباً أن أراقب نظرات "ن" المنكسرة مساء اليوم الذي انتخب فيه! وفيما تخوض المدينة من حوله نقاشات صاخبة، من اتهامات لتخاذل من انتخبوا، لشتائم لأنهم أغلقوا الطرقات، بقي "ن" مشغولاً بركن سيارات مَن يتحدثون عنه...