'لا مؤاخذة'.. أنا مسيحي مصري
يمتلك عمرو سلامة في فيلمه الأخير "لا مؤاخذة"، الأداة اللازمة. لا ميلودراما، بل كوميديا سوداء تتعامل مع "مستنقع" الحقيقة الاجتماعية المخيفة، بما يناسب خواء تلك الحقيقة وبؤسها. المأساة هنا، أكبر مصدر للضحك. الضحك هنا، ألطف الوسائل لإخبار المجتمع بالحقيقة: قبحه ونفاقه وتكيّفه مع خواء المستنقع أيضاً.
سيناريو الفيلم المبنية حبكته على الطفل المسيحي هاني عبدالله بيتر (الطفل أحمد داش) يضطر إلى إخفاء ديانته ويدّعي أنه مسلم ليتمكّن من التكيّف و قبول الآخرين، كان قد واجه منع الرقابة المصرية لخمس مرّات، بدعوى "أن ما ذكره الفيلم لا يحدث في الواقع" أو "أن المرحلة لا تتحمل".
لكن الفيلم يملك تركيبات أعقد من ثنائية المسلم والمسيحي، دولة طوائف، كل طائفة ترى في سواها عدوّاً محتملاً، طبقات تحتمي بالعزلة بقوة المال، أو بقوة البلطجة، أو بقوة محاولة الاختباء من كل هذا العفن، كما أن اختبارات التحضّر /الثقافة/ محاولات الصعود الاجتماعي، تسقط كلها أمام نظرات المجتمع، الدونية لمن لا يملك سلطة المال أو سلطة السيف والسنجة التي يفرض بها البلطجية قانونهم على الشارع، بالتحرّش مرة وبتشويه الوجه مرة أخرى.
يبدأ الفيلم بهاني عبدالله بيتر. لقطات سريعة من حياته المعزولة بقوة المال عن حقيقة الوضع في مصر، لقطات تحاكي إعلانات السكن التي تبني تسويقها على ابتعادها عن الزحام والتحرّش والعشوائيات، المحمي بقوة عائلته التي يعيلها مدير بنك وزوجة علمانية عازفة في الأوبرا، يتعلّم في مدرسة أجنبية تقدّم له العالم نظيفاً، بلا شوائب، حتى اللعبة التي يفضّلها هي كرة السرعة، حيث لا يضطر إلى مواجهة أحد إلا نفسه.
يموت الأب بطريقة تدعو إلى الضحك أكثر من الأسى، أثناء تناوله الطعام، الطريقة التي ستتوالى على مدار الفيلم، ليمرّر بها خواء المستنقع بأساه. المأساة تجاوزت قدرتها على الاتّكاء على الحزن. صارت ملهاة تبعث على القهقهة والألم في آن، وقادرة على قول "الحقيقة المخيفة أيضاً". وينتقل هاني إلى مدرسة حكومية، بعد وفاة الوالد وغياب الحماية، ليسمع "الحقيقة المخيفة"، هناك عالم آخر، ليست أبسط مشاكله الطريقة التي يُعامَل بها المسيحي، كآخر مستبعد وغريب.
سرعان ما يلاحظ أنّ عليه إخفاء هويته كمسيحي، كي ينجح في التكيّف والحصول على القبول، أو "الاندماج" في الجماعة، لا عبر العراك، ولا خوض الأسى الذي يخوضه الآخرون. لا حل سوى الخوض في الكذب. لكن كل شيء ينتهي فور انكشاف هويته كمسيحي. يعامل معاملة مميزة ظاهرياً، لكن باطنها اجتنابه وعزله، فهو يلعب وحده ويأكل وحده لا أحد يستطيع أن يمسّه، يحصل على أعلى الدرجات من دون مجهود كي يدرأ المدرّسون عن أنفسهم تهمة الطائفية، رغم أنهم غائصون فيها حتى النخاع.ولا يلبث أن "ينتزع" مكانته الطبيعية مرة أخرى، بعد أن يصمّم على خيار "هويته". في المرتين هو يملك القدرة على النجاح، بل في المجمل قد يكون أذكى وألطف من أقرانه، لو حصل على فرصة للحياة كشخص طبيعي، بينما كانت فرصته الوحيدة للتفوق في المدرسة هي مسابقة للإنشاد الديني مخصّصة للمسلمين فقط. هنا حقيقة أن وطنا بأكمله ليس مصمّماً للمواطنة بل للغلبة. تغلب هوية على أخرى، سواء بقوة الدين أو بقوة السلاح أو بقوة المال التي كانت تحمي هاني.
لا يجد هاني الحل لدى إدارة المدرسة/صوت السلطة التي تراه كمشكلة طائفية لا إنسانية وتحدثه عن ثورة 1919، التي خرج فيها الهلال مع الصليب، الكلام المدرسي البائس والمحفوظ، بينما يقف فخوراً في المسابقة البائسة التي لا يشترك فيها سوى طلاب أربعة. هو لا يرى الخراب، بل يظنّه أقصى ما في الإمكان، وتزعجه الإشارة إلى الخراب. السلطة لا تملك حلولاً، فهي مستمتعة بالتعليم الذي ليس تعليماً، الحياة التي ليست حياة، دولة "افتراضية"، لا شيء فيها يحدث لكن كأنه يحدث.
نهاية الفيلم تشير إلى نوع من الحل: على هاني عبد الله بيتر أن ينتزع تلك المكانة، في دولة الغلبة، لا يختار الهجرة كما اختارها الشاب الذي حاول الترقّي اجتماعياً عبر التعليم، لكنه صدم بأنه لا يستطيع حماية نفسه من ضربة سنجة تشوّه خده، أو المعلمة التي تختار أن ترتدي ما تريد فينتهي بها الأمر إلى التحرّش، فتترك المدرسة وسط تحميلها مسؤولية التحرّش بها بسبب ملابسها.
فيلم لطيف عن مستنقع بائس، اختار الأداء الصحيح: الكوميديا لا المأساة التي تستطيع أن تنتزع الضحك وحقيقة خواء دولة الطوائف التي تخشى الاعتراف بتناقضاتها وخيباتها، وتفضّل اعتبار "الخراب" مملكة كبرى لا ينقصها سوى المزيد من التكيف وإخفاء العورة.. لتصبح "أد الدنيا".