عن "البوصلة" في زمن "جي بي إس"
تصيب رشا الأطرش حين تفتتح مقالها في "المدن" بعنوان "سوريا البوصلة.. لا فلسطين" بالإحالة إلى ما فرضته الثورة السوريّة (والتي تحوّلت، كما تقول، "من حراك سلمي إلى تمرّد فأزمة فحَرب")، من تمايز بنيوي وخَندقة أدّيا إلى ترسيخ خاصيّة الحدث السوري كمعيار جديد. لكنّها، في ما تلا ذلك، تصيِّر هذا المعيار "بوصلة"، وتشرع في تسلّق جبال معاني هذه البوصلة التي تتمثّل تارة في الموقف، أيّ موقف، من "القضيّة السوريّة"، قبل أن تتحول إلى بوصلة "بالمعنى السياسيّ والأخلاقيّ الأعم". لكنّها، أي "البوصلة السوريّة"، في الحالتين، تحلّ محل فلسطين بعد فوزها الضروريّ في السبّاق المُتخيِّل صوب عرش "التَبَوصُل".
في البداية، تكون هذه "البوصلة" بطاقة هويّة تدلل على "ماهية الفرد، عمقه السياسيّ" وحتى "نظافته"، قبل أن يحدث انتفاخ لمدى البوصلة المعرفيّ، وتعاظم لقدرتها الإرشاديّة لتصير بوصلة "بالمعنى السياسيّ والأخلاقيّ الأعم". حينئذ، يبدأ تجلّي جيش الحجج المنتقاة، والتي يزيد عمرها عن عمر الثورة السوريّة، من إضاءات على عقائد الجمود الصّلف وتنميط اليهود ونفي المحرقة النازيّة. وفي هذه المرحلة، تكون رشا الأطرش قد أكملت تورّطها في استخدام المنطلقات نفسها والأدوات المعرفيّة الخاصّة بأولئك الذين أرادت استفزازهم، وخدش يقين بوصلتهم، في المقال عموماً، وفي عنوانه على وجه الخصوص.
في البداية، تكون هذه "البوصلة" بطاقة هويّة تدلل على "ماهية الفرد، عمقه السياسيّ" وحتى "نظافته"، قبل أن يحدث انتفاخ لمدى البوصلة المعرفيّ، وتعاظم لقدرتها الإرشاديّة لتصير بوصلة "بالمعنى السياسيّ والأخلاقيّ الأعم". حينئذ، يبدأ تجلّي جيش الحجج المنتقاة، والتي يزيد عمرها عن عمر الثورة السوريّة، من إضاءات على عقائد الجمود الصّلف وتنميط اليهود ونفي المحرقة النازيّة. وفي هذه المرحلة، تكون رشا الأطرش قد أكملت تورّطها في استخدام المنطلقات نفسها والأدوات المعرفيّة الخاصّة بأولئك الذين أرادت استفزازهم، وخدش يقين بوصلتهم، في المقال عموماً، وفي عنوانه على وجه الخصوص.
إذ، مثلما يورد أولئك فلسطين معلّبة، مروية وفق سرديّة الأنظمة العربيّة، فلسطين باعتبارها مطيّة، توردها الكاتبة بالشّكل نفسه والمضمون مع اختلاف الغاية. تعيب الكاتبة على فلسطين التي تعتبرها "أخلاقياً، ومن حيث المبدأ، قضيّة واضحة"، أنّها تعدّت هذا الوضوح إلى فضاء أكثر اتساخاً بتعقيدات السياسة والاجتماع والمصالح الدوليّة، ما يجعلها، كقضيّة لم تقف عند حدّ كونها قضيّة تحرر وطني، عاجزة "على الأرجح" عن أن تكون "ميزانًا لقياس الصواب السياسيّ".
هذا التورّط والقفز فوق الثنائيات المصمتة إلى الاشتغال غير محمود الجانب بالضرورة في السياسة بالأصابع العشرة، والذي يُعاب على فلسطين وقضيّتها، هو نفسه ما يُمدح في الثورة السوريّة. إنّها الحدث الذي دقّ أجراس الرُّوح، عرّى النسيج المجتمعيّ، وأطلق العنان لتساؤلات متعلقة بالعسكرة والاقتصاد والإبداع، بل "وحتى التّاريخ نفسه". وقد يكون هذا سليماً بحقّ الحدث السوري، بعد التخلّص من كل مبالغات الكاتبة العاطفيّة، لكنّه قطعاً ليس حكراً معرفياً أو سياسياً عليه، وإن كان يتمثَّل فيه أشدّ وأجود تمثّل في الفترة الرّاهنة.
إذ من الممكن، بسهولة شديدة في واقع الأمر، وضع المجازر المذهبيّة والشحن الطائفيّ واحتلال تنظيمات القاعدة لحيّز محترم في المشهد السّوري (الأمر الذي له تبريراته التي لا تنسف الأساس السياسيّ والأخلاقيّ للانتفاضة السوريّة، تمامًا كما الأمر مع فلسطين)، في مكان تنميط اليهود ونفي المحرقة النازيّة. كما من الممكن ضرب حجج الكاتبة في شأن "فلسطين" في مقتل؛ مع الإحالة إلى اضطرار الأنظمة العربيّة تبنّي القضيّة الفلسطينيّة تحت وقع الضغط الشعبيّ العارم بعد النكبة وهزيمة 1948، وإلى آثار نكسة حزيران التي تكاد، هي الأخرى، تشتبك على مدى اتّساع رقعة الوطن العربيّ (هل تسمية "الوطن العربيّ" جامدة وموضة قديمة هي أيضاً؟)، لا مع مسائل النُظم والسلطة والعسكرة فحسب، بل وحتّى "مع التاريخ نفسه".
لا يخترع المقال تنافساً متخيلاً على البوصلة بين فلسطين وسوريا فحسب، بل يخترع أيضاً تناقضاً غير مفهوم بين أهميّة قضية فلسطين للدول العربيّة، وبين تكشّف القوميات العربية وأخواتها عن "الجمود الصلف". السؤال هنا: لو طلّقت كل الدول العربيّة هذا الميراث المغبر، وركّزت فعلاً على الدولة-الأمّة؛ وعلى مسائل المواطنة والديموقراطيّة (وهذا ما نريده لها فعلاً) وصارت دولاً بمعنى الكلمة، فكيف يعني هذا وضع فلسطين، أو سوريا، أو العراق، أو حتّى سد إثيوبيا، على الرّف؟ كيف يعني هذا وضع أيّ شيء على الرّف غير الاستبداد ومنطق البوصلات برمّته؟
لهذا نشير إلى فضائح النظام السوريّ السفّاح، حين تقصف إسرائيل مواقع داخل سوريا، أكثر من مرة، من دون أن يَرُد. ولهذا نشير إلى فضائح مماثلة عندما تقتل إسرائيل جنوداً مصريين في سيناء، وعندما تقتل إسرائيل مواطنين أردنيين، وتقصف في السّودان، وفي لبنان، بل وحتّى تذهب بفرقة كوماندوس إلى تونس. لأنّ هذه كلها دولٌ مهزلة نريد لها، بشعوبها بشكل أخص، أن "تنظر في المرآة". ذلك أنّ الاهتمام بقضيّة فلسطين لا يتوجّب عليه أن يكون نابعاً من "المركز" كي يكون، كما لا يعني اندثار "زمن الجعجعة" اندثار القضيّة.
في نظرية العلاقات الدوليّة، كان لمدرسة ما بعد الاستعمار إسهام بالغ الأهميّة حين ركّزت كتابات العديد من رموزها (إدوارد سعيد؛ روبي شيلايم، آنيا لومبا) على ضرورة تجاوز الرّغبة الأوليّة في النضال ضد الاستعمار بعكس القطبية، كي يصبح "الشرق" خيِّراً في حين يستقر الشرُّ في مصافي "الغرب". أرادت مدرسة ما بعد الاستعمار نسف البنية برمّتها، لا عكس الأقطاب فحسب.
أمّا مقال "سوريا البوصلة .. لا فلسطين" فإنما حاول عكس الأقطاب، ونقل التّاج (وهو ليس تاجًا بأيّ حال) من رأس إلى رأس. لم تقترح رشا الأطرش خلاصنا، بعد كلّ هذا الموت، من فكرة البوصلة والمركز والهامش ومنطق الإمّا/أو، بل أرادت أن تغيِّر فيه بأدواته، وبمنهج محافظ. بكلمات أخرى، أراد المقال محاربة الوحوش فانتهى بنفسه أن صار خطاباً يمكن له أن يرد على لسّان أي وحش منهم.
تقول رشا الأطرش إنّ "القضيّة السوريّة" أطلقت "السؤال – التمرين: هل ما زال بإمكاني أن أحب نتاج شاعر ما، أو باحث، أو روائي، أو صحافي، أو حتى موسيقي.. بمعزل عن موقفه من القضية السورية؟". أياً تكن الإجابة، ما زال يتردد في الأفق صدى صرخات المدافعين عن حقّ فرقة "بنادق وورود" وحقّ لارا فابيان في الغناء في بيروت!