سالسا وتانغو..مسارب إلى الشريك
أذكر أني، فيما كنا نتحادث، ويسري في أجسادنا الخَدَر البيروتي المقيم تحت قشرة القلق الدائمة في العاصمة، كنت أتساءل بدهشة عن وجود دروس للرقص اللاتيني (على قلّتها) في بيروت، بل وإقامة مهرجاني تانغو فيها في الأعوام الماضية. كانت الصديقة تخبرني عن اضطرارها للذهاب إلى الطرف الآخر للعاصمة دون ضمانة حتى بأن يتجمع العدد الكافي لتلك الدروس. وسبب الدهشة هو ذلك الكسل الدؤوب والملل الناحت في جوانب العيش في تلك المدينة، بما يجبر البعض على الغرق في الكحول أو في البحث عن الجنس، بحثاً عن تعبٍ يمكّن من التأقلم مع زحام المدينة وضجيجها "المعلق" كمواطنيها، كما وصفهم أحمد بيضون؟ فمن ذا الذي سيجد الطاقة الكافية ليخرج في نهاية يومه في مثل هذه المدينة المُثقلة على النفس كي يؤرجح جسده في بهجة السالسا، أو من قد يهرب من تلصّصها الدائم نحو أناقة التانغو الانطوائية. قالت إن السالسا بها خفة تحتاجها كي تستطيع أن تكمل أيامها، فيما بحتُ بأن مالنخوليا التانغو العاطفية، رغم كونها لا تلائم وجهي الجامد والشيب المتزايد، تستثير فيّ كل الشجن المشرقي المعتّق وتضيف إليه رقصاً حميماً يترفع عن ابتذال الرشاقة والشباب وتوسلهما للفت الناظرين. الصبية "الرِوْشَة" تنتقي من موسيقى القارة اللاتينية ورقصها ما يناسبها غواية وغنجاً، وأنا أعلن عن استباقي الكهولة في تحويلها متعة بوح لا يتجاوز حدود الثنائي ولا يصرخ في وجه العالم. لكن كلانا كان يعرف أن الرقص، على اختلاف أجناسه، مقياس للثنائي هذا نفسه وكاشف لعيوبه. فالرقص يضمّ تحدي التوازن المفرد إلى التواصل بالإشارة اللماحة، مثلما يصل تحدّي الثقة بالآخر إلى الخوف من الملل والتكرار، ويجمع اللعب في وسط الحشد وتحت أنظاره إلى خلخلة ذاكرة الجسد نفسها.
إذ للجسد ذاكرة لا يغتنمها الحلم حيث لاوعي الذاكرة يعمل، بل يفعمها تيار الرقص كما الجنس أو الرياضة، اذ تختزن الأعصاب ومسامات البشرة الأحاسيس وتسترجعها، آليةً تقريباً، بمتعة الانفصال عن العقل والتفكر. وكما في الرياضة والجنس، فإن الرقص أيضاً مغامرة تيه، تكون فيها الأحاسيس وردود الفعل المختزنة نقطة انطلاق، أي نقطة نبتعد منها وعنها وإليها نؤوب. لا نبتعد هنا عن التوتر الدائم الذي يقيمنا، حيثما وليّنا وجوهنا، ما بين أمن اللجوء وسكنى يقينه وبين رغبة التغرب ومتعة اضطرابه.
في هذا لا تنفصل متعة الرقص عن الموسيقى نفسها التي هي انتظار ودهشة، توقع ومفاجأة، مزاج الطمأنينة والطرب مخرج المرء عن نفسه. غير أن الرقص، على الأقل اللاتيني منه كما التانغو والسالسا على الفوارق ما بينهما، يضيف إلى تلك المتع أخرى تتولد عن لقاء الشريك على ساحة الرقص، لا سيما وسط الراقصين.
في الرقصتين، التانغو كما السالسا، جدل ولذة القيادة والانقياد، ما بين الشريكين، وتطور متسارع لدور المرأة متجاوزاً الزخرفة إلى حدود استلام القيادة بنفسها في أوقات من الرقصة بعد قرن مرّ على بدايات كان فيها الرجال وحدهم، في التانغو الارجنتيني، يتمرنون على الرقص كي يفوز أفضلهم بالمرأة الأجمل فيما لم تكن هي آنذاك إلا تابعة يكاد الرجل يحملها كي تتابع حركاته والإيقاع. ومع تطور الأزمنة باتت الرقصتان محل بحث عن شراكة متنامية التوجه إلى الإنصاف، وبحث عن تناغم ثلاثي، بل رباعي، بين الشريكين والايقاع والجملة الموسيقية، فضلاً عن الوسط المحيط بهما. في سوى ذلك تفترق متع الرقصتين باختلاف جذورهما ومعانيهما.
فالسالسا لجهة جذورها الموسيقية الأكثر خلاسية تعتمد ايقاعاً أكثر حيوية وارتجالات أكثر من العازفين، يقابلها في الرقص نفسه شركاء يرقصون في وضعية مفتوحة لا تؤطرها الأيدي بصرامة التانغو. فالأجساد متباعدة قليلاً بما يسهل عليها الدورات والالتفافات، كما أن الأيدي حرة في التأرجح مثلما هي الخصور. وزخرفات الرقص تطلق عليها أسماء مشتقة من البريق واللمعة. فحيوية الايقاع وجذل الموسيقى ينعكسان في رقصة هي تحرير للطاقة الفتية واحتفاء بعافيتها. وهي رقصة اجتماعية بالدرجة الأولى إذ يرقص الشريكان في انفتاح على الراقصين الآخرين والحضور، وتندرج لمعات الزخرفة واشتباكات الأيدي وفضّها في استراتيجية استدراج أبصار الناظرين وشدّها إلى الاحتفال معاً بحياة عفيّة ومرحة.
أما التانغو فجذور موسيقاه التي تعود إلى المهاجرين الإيطاليين، ممزوجة بالباندونيون الذي اخترعه الألمان على سفن الهجرة إلى الأرجنتين، تمنحه نبرة حنين وشجن لا تخطئها الأذن، وإن امتزجت خطوات رقصه برقصات الأفارقة ما يتبدى في انحناءة الركبتين أثناء الرقص ودوام الارتباط بالأرض التي يستمد الراقص منها ومن غرزه طاقته فيها القدرة على السير والحركة. وفي التانغو، حكاية الغرام في ثلاث دقائق على ما توصف به، عشق وهجر وأسى ولقاء وتضاد واشتياق ومزاح، تنعكس جميعها في الأشكال التي تتخذها أجساد الراقصين. ففي رقصة التانغو يرسم التقاء أذرع الشريكين من جهة وكفّاهما من الأخرى دائرة مقفلة ستتحرك فيها الأجساد. غير أن الخصور جامدة في هذه الرقصة التي ينشد فيها الجسد، مثل انشداد جذورها، إلى محورين متضادين، فالأرجل تغرز في الأرض في حين يشرئب الجذعان في فخر. ثبات الخصرين واقفال الدائرة يجعل من الأرجل المناط الوحيد للكلام والتحدي والشوق، بخلاف الأيدي التي تتحادث في السالسا. غير ان لهذين الثبات والاقفال أيضاً أُثراً آخر يتجلى في كون الصدر هو القوة المحركة للشريكين، لا الأيدي. فمن الصدر تنطلق الدفعة الأولى التي تحرك الرجل وتنتقل عبر دائرة الأيدي إلى المرأة، ومن الصدر ايضاً تتجلى الاتجاهات التي يدعوها إلى السير فيها، وثبات الخصر ينقل الحركة الواصلة الصدر إلى الساقين، حتى يكاد يكون القلب ملتقاهما.
غير أن الفارق الأبرز قد يكون تمثيل الأجساد شجن التانغو في مقابل مرح السالسا. فإذا كان الجسد في السالسا يستدعي أنظار الحاضرين ويلفتهما بلمعاته وينفتح الشريكان، في وضعية جسديهما، على الحضور، فإن دائرة التانغو مقفلة ومنطوية على لقاء الشريكين فيها. فمثال التانغو هو تفادي الراقصين الآخرين والعثور على لحظة التناغم الجسدي والشعوري مع الموسيقى، في حين يتضاءل الاهتمام بالايقاع. ضمن هذه الدائرة، التي يتوجها الشكل الهرمي للقاء الراقصين من أعلى جذعيهما ورأسيهما، تتخلق في لحظة التناغم مشاعر قصص الهوى ولحظاتها ويسعى الشريكان إذذاك إلى ابقائها مضمومة بين صدريهما وأذرعهما. خلافاً لرقص التانغو الاستعراضي المباع للسياح والكاميرات، يكاد مثال التانغو ينحصر، كما لدى الكبير غافيتو، في توليد هذه المشاعر التي لا يراها أحد ولا يستشعرها، إلا لمحاً خاطفاً، سوى الراقصان في خضم رقصهما الحميم.
تتقوم الرقصتان على مزج الخطوات التي يحاول الراقص حفظها، قبل أن تحدوه أنغام الموسيقى والرغبات التي يبعثها الايقاع وحركات الراقصين الكثر حوله والبحث عن استمرار التواصل مع الشريك وعن تناغم حريتين إلى الخروج عنها والارتجال والبحث عن مفردات أخرى تتولد في اللحظة ذاتها. في مثل هذه اللحظة، يتحدى الراقص/الراقصة ذاكرة الجسد نفسها، ذاك أن اللقاء بالشريك لا يتم دون تجاوز حدود الجسد، ولو وهماً على وقع موسيقى عابرة.