عندما ينتفض الايرانيون لكرامتهم
أسعار الوقود أشعلت فتيل الاحتجاج في إيران، ولكن سرعان ما اتخذت الحركة الاحتجاجية منحى سياسياً يطعن في مشروعية الجمهورية الاسلامية نفسها، على ما يرد في تقرير أعدته مراسلة لوموند الفرنسية، غزال غولشيري، بعنوان "أخشى وقوع حرب أهلية": في إيران، ثورة وراء الأبواب المغلقة.
وعلى رغم الستار الحديدي الذي فرضته السلطات الايرانية على شبكة الانترنت، في خطوة غير مسبوقة، يفلح الايرانيون في خرق الحظر ورفع صوتهم. فعلى سبيل المثل، قال مغرد على "تويتر" اسمه غفار ساخراً "واحد، اثنان، ثلاثة، تجربة. هل تسمعون صوتنا، صوت كوريا الشمالية. فمنذ أسبوع إيران تهزها احتجاجات عارمة وعمليات قمع عنيفة". وفي وقت أعلنت منظمة العفو الدولية وقوع 106 ضحايا في عشرين مدينة وبلدة إيرانية، قالت السلطات إن 4 قتلى سقطوا في صفوف قوات الأمن، ونددت بالمؤامرة الخارجية.
المهانة
إيران أمام المجهول، والخوف يعم البلاد. "منذ اعلان رفع سعر الوقود، ثمة شعور حقيقي بالمهانة ألمسه في أوساط كل من تحدثت معه"، هذا ما أبلغه صحافي ايراني مستقل "لوموند" في رسالة مشفرة. ومضى يروي: "أبلغني صديق بحماسة كبيرة كيف أنه وغيره من المتظاهرين سدوا الطريق. وشعر بالفرح حين حمل إلى منزله قطعة اسمنت انتزعها من محطة وقود هاجمها المتظاهرون". وفي كلام هذا المحتج ترددت أصداء غضب الايرانيين من استخدام طهران المال العام لتمويل مشاريع هيمنتها في العراق والساحة الفلسطينية في وقت يتكبد عامة الايرانيين شظف العيش.
فمنذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وفرض العقوبات من جديد على الاقتصاد الايراني، تعاظمت هشاشة الاقتصاد الناجمة عن سوء الإدارة وتفشي الفساد. ورمت الحكومة من رفع سعر الوقود الى مد الخزينة العامة بالمال بعد أن نفدت مواردها.
حرق مصارف
وعلى رغم طمأنة السلطات الايرانية شعبها واعلانها زيادة الدعم لعدد كبير من الأسر المتواضعة، يخشى الايرانيون تدهور قدرتهم الشرائية. "على رغم أننا لا نملك سيارة، شارك والدي في التظاهرات لأنه يخشى تضاعف اسعار السلع كلها ثلاث مرات"، تقول سيما (اسم مستعار)، ابنة سائق شاحنة في الخامسة والثلاثين من عمرها. وحين اتصلت بها "لوموند" قالت أن والدها أصابته رصاصة في رجله اثناء التظاهرات يوم السبت في ملارد، وهي بلدة عمالية في جوار طهران. وأسرة سيما مؤلفة من ثلاثة أشخاص تجني شهرياً ما يعادل 230 يورو، بينما عتبة الفقر هي 260 يورو.
والتعتيم الاعلامي مطبق حتى في الداخل الايراني، ولا يعرف الناس أخبار ما يجري إلا من طريق الهمس والكلام مع معارفهم على الهاتف أو عبر الرسائل القصيرة. "يوم الأحد حسبتُ أن التظاهرات انتهت. ولكن حين عبرت شرق طهران، رأيت عدداً من المصارف التي أضرمت فيها النيران. وحتى نحن المقيمين في طهران، يخفى عنا ما يجري فعلاً فيها"، يقول طالب في رسالة مشفرة حصلت عليها "لوموند". وهو يروي أنه شاهد مساء الثلاثاء عدداً كبيراً من قوات الأمن في زي مدني أمام جامعة طهران. وتسرب شريط فيديو مصور بواسطة هاتف خليوي في باحة الجامعة يظهر طلاباً يتحدون رجال شرطة. ويُسمع صوت رجل في الشريط يقول: جامعة طهران، 18 تشرين الثاني (نوفمبر). نحن محاصرون ولا يسعنا الخروج". فتهتف وراءه الجموع: "يسقط الديكتاتور!". ونقل بعض الطلاب الثلاثاء على تويتر خبر اعتقال ما بين عشرين وخمسين من زملائهم.
حرب أهلية
وفي خطاب متلفز مساء الثلاثاء، أعلن المرشد الايراني علي خامنئي، هزيمة "العدو" في البلد. وساهم قمع السلطات المحتجين قمعاً من غير رحمة وقطعها الانترنت في انتقال عدد من ناخبي الرئيس حسن روحاني من أبناء الطبقة الوسطى الى تأييد الاحتجاجات الشعبية بعد أن قاطعوها نهاية 2017 ومطلع 2018. فروحاني كان حينها موضع ثقتهم. وغرّد المقاول فرزاد من طهران قائلاً: "يا سيد روحاني، المهمشون لا ينسون أبداً أمثالهم، وتحديداً أولئك الذين انطلت عليهم شعارات حملتك عن الأمل والحوكمة العادلة". وفي تغريدة أخرى، يرى جواد أن عنف المحتجين كان لا مفر منه: هذا العنف الذي يبديه الشعب فرضته الدولة عليه. ولا خيارات أمام الناس؟ فهل يستطيعون تشكيل نقابات أو انتخابات حرة؟". ولكن عنف المتظاهرين ليس موضع إجماع. فعلى سبيل المثل، تبدي سارة (35 عاماً) من طهران خشيتها من اندلاع حرب أهلية ومن تسلل مندسين الى التظاهرات. "من هم هؤلاء الذين يهاجمون رجال الشرطة وكاميرات مراقبة حركة السير؟ في 2009، لم نفعل مثل هذه الامور"، فهي شاركت حينها شأن غيرها من بنات وأبناء الطبقة الوسطى الايرانية في حركة الاحتجاج على انتخاب محمود أحمدي نجاد لولاية جديدة.
وفي جو من العنف وغياب اليقين، باشر الايرانيون دفن أولى ضحايا قوى الامن، على رغم أن طهران تتستر على القمع. منظمة العفو الدولية أفادت أن قوات الأمن تصادر جثامين الضحايا وتخطف المصابين من المستشفيات. وبعض العائلات تنجح في استعادة جثامين أبنائها. ولكن يحظر عليها الاعلان عن الدفن. أما الصحافي الايراني جواد حيدريان فغامر باعلان سقوط قريبه في التظاهرات، وكتب على تويتر" جثمان فرزان أنصاري سُلم إلى عائلته. سيدفن اليوم في بهبهان (محافظة خوزستان)".
والسؤال اليوم هل تنحو سلطات إيران نحو تقديم تنازلات للايرانيين وتعدل عن سياسة إفقار شعبها وقمعه فتكون فاتحة التغيير في المنطقة أم تواصل السير على ما درجت عليه وتصدير شوائب "امبراطوريتها" الى عواصم عربية تغنت بإحكام القبضة عليها. فهل الفساد المستشري وتآكل أجهزة الدولة هما فحسب ركن النموذج الايراني المُصدر؟