انهيار الليرة السورية: وين الدولة؟
من كان يصدق أن انخفاض قيمة الليرة سيعصف بشخصية البقال أبو مصطفى، ويغيّر من أولوياته. إذ لطالما تندّر أهالي الحي الدمشقي، بأن هدف أبو مصطفى من فتح البقالية هو لمسايرة النساء لا سعياً للربح، فقد كان يبتدع الأحاديث ليطيل وجودهن في دكانه، ويتساهل معهن في الأسعار والأوزان، فيخرجن ضاحكات راضيات.
لكنه اليوم، وخلافاً للصورة المعهودة عنه، أعلن بعصبية ونزق أنه بات يفضل البيع للرجال. فالنساء مُتعِبات يبازرن كثيراً ويتأففن، وغالباً ما لا يشترين إلا القليل، ويشعرنه أنه المسؤول عن الغلاء. يقول أبو مصطفى: "يا استاذ الدولار عم يغلى وكل شي عم يغلى معه، أنا شو ذنبي إذا ليرتنا صارت بلا قيمة؟ اليوم الدولار بـ750 ليرة. شوف يا أستاذ هي الفاتورة جبتا مبارح، وهي الفاتورة جبتا اليوم، شوف بعينك الفرق بالأسعار"، ويضع إصبعه على السعر المقصود، ويقسم أغلظ الأيمان أن المصلحة باتت متعبة وغير مجدية، ولو كانت لديه مهنة أخرى لأغلق دكانه، متمنياً أن تعود الأسعار إلى سابق عهدها لان ذلك يزيد من كمية البيع والربح، فهو في النهاية رب أسرة كغيره من الناس، ويعاني تبعات ارتفاع الأسعار مثلهم.
أبو مصطفى يدرك أن نساء الحي يعرفن واقع البلد الاقتصادي، ويعرفن أن الغلاء حالة عامة، ولكنه ما عاد قادراً على التسامح معهن بالسعر والوزن، وباتت اغلب أحاديثه معهن مشحونة بالتوتر بسبب الغلاء اليومي، ما يجعله في حالة دفاع وتبرير بدلاً من التسلية والفكاهة التي اعتادها.
ومع هذا، ومن حيث لا يدري، فهو محق في نظرته. النساء، وخصوصاً من تتولى منهن مهمة التدبير والاقتصاد المنزلي أكثر تحسسا للأزمات الاقتصادية، لكنهن خلافاً للرجال الذين يسهبون في الحديث والتحليل والتبرير وشتم الحكومة والتجار، يذهبن مباشرة إلى التعبير الشخصي عن الغضب، ورسم أوجاعهن الناجمة عن الفاقة والحرمان وقلة الحيلة، وربما يجدن في أبو مصطفى، متنفساً لتفريغ الاحتقان الذي يعشنه.
ليس أبو مصطفى حالة خاصة، فالتغيير خيم على الجميع بأشكال مختلفة. غيّرهم انهيار الليرة السورية المديد، وترك بصمته على مجمل سلوكهم وعاداتهم، وقلص حتى من وجباتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، ومن تعاملهم مع أبنائهم ومستلزماتهم الضرورية، وبدأ يستنفر دواخلهم لطرح الأسئلة التي كانوا يخشونها ويخشون المجاهرة بها.
الحديث عن انهيار الليرة، هو حديث السوريين اليومي، الطاغي في لقاءاتهم الخاصة والعامة، في الشوارع والعمل والبيوت، وحتى في أحاديث العشاق والأماكن التي يمكن لهم أن يتحملوا كلفة اللقاء فيها، فما عاد من الممكن تجنب تأثيراتها، أو الادعاء بعدم الاكتراث.
ومع كل انخفاض جديد في قيمة الليرة تتباين تعليقات السوريين الغاضبة والساخرة؛ أين الدولة وما وعدت به؟ وأين الانتصارات العسكرية؟ ومن المسؤول عما وصلنا إليه؟ وهل ضحينا بأبنائنا لنموت برداً وجوعاً؟ وتكتسب هذه التعليقات زخماً مضمراً؛ فالعيون على الثورتين اللبنانية والعراقية، وتترقب الثورة الإيرانية بحذر متوجسة انخفاضاً اضافياً في الدعم الإيراني. لكن، في كل الأحوال يُختتم الحديث بالسؤال الجوهري: ماذا بعد؟
نعيم، الذي طالما تحدث بثقة عن تعافي الاقتصاد وعودته إلى "العصر الذهبي" كما كان قبل الحرب، على حد وصفه، بات محبطاً رغم انتصار جيشه، وبات يتحدث عن "دواعش الداخل" الفاسدين، باعتبارهم أشد خطراً على السوريين من الدواعش الفعليين، كما بات اقل تحفظاً بخصوص الفصل بين القيادة السياسية وبين الحكومة كما درجت العادة في سوريا، وذهب أبعد باعتبار بشار الأسد ممثلاً لقمة الهرم المالي، مؤكداً بثقة أن ما جرى مع رامي مخلوف لا يعدو كونه نقل ملكية من الواجهة الموضوعة إلى المالك الفعلي، وهو بشار الأسد شخصياً.
ويتحدث نعيم عن خيبته: "بماذا كافأتنا الدولة على صمودنا؟ لا مازوت ولا غاز ولا كهرباء، ولا دواء! والرواتب لم تعد تكفي للمواصلات والموبايل والتدخين، نعم لقد أصبح التدخين ترفاً لا يملكه إلا القلة، حتى الفتيات تحولن إلى تدخين الحمرا الطويلة والكثيرات تحولن إلى الدخان العربي وتعلمن لف السيكارة".
أما أبو علي، فقد سمى مليشيا سهيل الحسن، بالشبيحة، رغم وجود ابنه في صفوف مقاتليهم، ويتحدث عن شرائهم بشكل مفاجئ وكثيف لشقق في منطقة مزة 86، وركنهم سيارات أمامها تفوق قيمة الواحدة منها 50 مليون ليرة سورية، معتبراً أن هؤلاء وأمثالهم بتحالفهم مع التجار يتحملون مسؤولية انهيار الاقتصاد وانخفاض قيمة الليرة السورية، معتبرا في الوقت ذاته أن انهيار الليرة والجوع الناجم عن ذلك سيفضيان إلى ما لا تُحمد عقباه.
وبموازاة أحاديث البسطاء الذين يفقدون كل شيء مع ارتفاع سعر صرف الدولار، كان للتجار والصناعيين أحاديثهم عن الليرة السورية، فاشتكى صغارهم من تأثيراتها على مداخيلهم، وحمّل كبارهم الحكومة مسؤولية سعر الصرف باعتبارها تجاهلت التحذيرات وأمعنت في السياسات الاقتصادية الخاطئة. ولم يخل الأمر من تبادل التهم في ما بينهم، واعتبار مبادرة رجال الأعمال مسؤولة بشكل ما لكونها أقرب إلى المبادرة الوهمية من الحل الحقيقي.
وفيما اجتمعت آراء الخبراء الاقتصاديين على تأثير انهيار الليرة على السوريين في نتائجها الكارثية، فإنها اختلفت في الأسباب الكامنة وراءها، وفي المعالجات المطلوبة، ليصل أغربها وأكثرها انفصالاً عن الواقع، إلى المطالبة بطباعة عملة جديدة بعد حذف صفر منها، وذلك "لإلغاء الكتلة النقدية السورية المتواجدة في الخارج"، لكونها "بيد الأعداء والمضاربين"، و"العمل على تكبيدهم الخسارة عبر إجراءات تحول دون إمكانية تبديلهم لها بالعملة الجديدة".
الجميع في سوريا يتحدث عن الليرة مع الإحساس بوجود أمر غامض وغريب، أمر غير مفهوم، وغير قابل للتفسير المنطقي، خاصة مع صمت السلطات الرسمية والبنك المركزي المركزي.
الجميع يشعر أن انهيار الليرة قد أصبح الفضاء الذي يخيم على حياة السوريين جميعاً، ويتحكم بمصائرهم العامة، وبإحباط أحلامهم الصغيرة، إذ نسوا ما يتعلق بتملك البيوت، وبات المهم تأمين الطعام والكساء للأطفال الذين يدخل بعضهم محل أبو مصطفى، بعيون مكسورة قائلين: "عمو عندك شي بخمسين ليرة؟".