لماذا هُزمنا؟
بعد الهزائم العسكرية التي حلّت بالمعارضة السورية، بات ضرورياً نقد فهم الثورة لذاتها، وتحليل مقولاتها الرئيسية، من أجل رسم صورة أولية لأساطيرها التأسيسية. إذ لطالما فُسّرَ فشل الثورة السورية بمزيج من العوامل السياسية الإقليمية والدولية، وعنف ووحشية النظام واختراق آلياته السلطوية والأمنية للمجتمع، والعسكرة والجهادية السلفية، ومناطقية الثورة وطائفيتها وعشائريتها، وافتقارها إلى برنامج وطني. لكن، هل هناك ما هو أبعد من ذلك؟ هل من الممكن مُساءلة بديهياتها الثورية، بحثاً عما طمره ركام الحرب من مقولاتها التأسيسية؟
رفضت الثورة منذ البداية، رفع مطالب اجتماعية أو اقتصادية جوهرية يمكن لتحقيقها تحسين نوعية حياة السوريين. الثورة اكتفت بالشرط السياسي المتمثل في قلب النظام، لتحميله كامل بُعدِها الثوري. وكأنه برنامج اجتماعي سياسي اقتصادي من بند واحد، لا يمكن انجاز أي مسألة جزئية فيه من دون تحقيقه ككل. تحقيق الكل، شرط لتحقيق الأجزاء، بينما العكس غير مطروح. وكأن التراكم خطأ سياسي، وكأن التغيير يقوم على القطع الكلي، الجذري، مع الماضي بشرطه السياسي فقط. وذلك وحده، بحسب هذا الافتراض، يضمن حلاً تلقائياً لجذور اللاعدالة المريعة التي يعيشها السوريون في اجتماعهم واقتصادهم. لا تعيين لأي مسألة يريدها السوريون خارج اسقاط النظام، إذ لطالما رفض جمهور الثورة مناقشة أي برنامج سياسي لا يضع هذا الشرط بنداً أولاً ووحيداً.
لا يمكن كثيراً لوم جمهور الثورة، ومحاكم تفتيشهم، على ذلك. فالنظام بالَغ في العنف، منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة، ولم يترك مجالاً لظهور تدرجات سياسية ضمن طيف الثورة، بل أرادها بلون واحد، شديدة القطبية مثله، على شكله ومثاله، وإن كانت نقيضه الإيجابي. مجرد أن تكون الثورة محمولة على حركات ذات سمات شمولية مثله، لا همّ لها سوى اسقاطه، كان أقصى آمال النظام.
لطالما أدرك السوريون أن إزاحة هذا النظام هي حجر الأساس للتغيير. جمود النظام، واستعصاء اصلاحه، هما بديهيات العمل السياسي المعارض ما قبل الثورة. إذ لم تتمكن أي حركة احتجاجية، منظمة أو عفوية، تحت أي سقف مطلبي، منذ استيلاء "الحركة التصحيحية" على السلطة في العام 1970 حتى آذار/مارس 2011، من تغيير شيء. لا مدير مدرسة، ولا حاجب في مؤسسة حكومية، ولا سعر ربطة الخبز أو نوعيته. النظام كان نقيض السياسة. جوهر سياسي قائم على ابتلاع الإرادة الحرة لموضوعاته التي يحوّلها إلى أشياء، بالعنف وحده.
صحيح ومفهوم. لكن ما يصعب فهمه، ألا تحمل ثورة ضد نظام كهذا، مطالب تتعلق بمواجهة الفقر، أو الحد الأدنى للأجور، الصحة أو الدواء، نوعية التعليم، البيئة، تنظيم المدن، أسعار المحروقات والسماد. لم يطالب متصدرو متن الثورة، بالحقوق الجندرية والجنسانية، ولا بالحقوق الإثنية والطائفية واللغوية.
اليوم التالي لسقوط النظام، لم يكن سوى سراب بالنسبة إلى جمهور الثورة. لا بؤرة محرقية يتركز فيها الضوء، سوى تلك اللحظة؛ اسقاط النظام، لينقلب ما بعدها خارج إطار الرؤية الثورية. وماذا حينها؟ فرح غامر، انتصار مذهل، ومن بعده العماء المطلق.
اسقاط النظام كشرط لتحقق الثورة، كان العائق الأكبر منذ اللحظة الأولى. كان الجدار الأعلى الذي اشترطت الثورة على ذاتها تسلقه، كي تتمكن من تجاوزه. استحالة اسقاط النظام، تبدو اليوم بديهية، كما بدا إسقاطه بديهياً قبل سبع سنوات.
ويبدو تفسير هذا الإشكال ملتبساً، ومتعلقاً بشكل رئيسي بتحالف اجتماعي فضفاض، شكّل حاضنة الثورة منذ لحظتها الأولى؛ شباب الطبقة الوسطى المدينية، وسكان العشوائيات في ضواحي المدن المليونية وعموم سكان الأرياف السنيّة. البطالة وانعدام آمال الشريحة الأولى، والتهميش والإخراج من دائرة الوصول إلى الدولة والثروة للشريحتين الثانية والثالثة، كلها عوامل أدّت إلى ولادة ذلك التحالف الثوري. مقولات الثورة الأولى كانت صياغة لمطالب الطبقة الوسطى المدينية، التي لم تكن قد عثرت على لغتها، ولمّ يحدث ذلك بعد. مطالب حصرت غاية الثورة في الكرامة والحرية والشعب السوري الواحد.
لا شك أن المظاهرات الأولى التي سرت في عموم المناطق السورية، ومنها ما سيتحول إلى معاقل للنظام، كانت في عمقها تضامناً مع أهالي درعا، ثم بانياس والقصير والزبداني وغيرها. البُعد التضامني الأهلي، لم يتمكن من انتاج ما هو أبعد من فكرة الشعب السوري الواحد. مع الوقت، اكتفت كل منطقة محاصرة بعيش نهايتها الخاصة المكررة، كنسخة أبدية من بقية المناطق.
الكرامة كانت جوهر الثورة السورية، ومقولتها المركزية. لكن الكرامة، موضوعة ذاتية تتعلق بالفرد. الكرامة فردية. فما معنى كرامة عشيرة أو طائفة أو أهل حارة ما؟ فما بالك بكرامة شعب! مقولة الكرامة بلا محددات أرضية، ولا يمكن ترجمتها في برنامج عملي.
كرامة السوري منتهكة. أي استدعاء إلى أي جهاز أمني هو درس في انتهاك الإنسان وفرديته. تطاول على وجوده بالتخويف والرعب. تعظيم مخيلة "الرهيب" (بحسب وصف ياسين الحاج صالح) إلى حدّ ردع السوري عن اقتراف أي فعل، لم يكن سوى إجراء بيروقراطي روتيني أدمنت "مؤسسات" الإكراه الأمنية على تكراره. الإكراه في العمل والاستشفاء والتعليم والجيش والشارع، الذي تمارسه "مؤسسات الدولة" في حق المحكومين، هو فعل عادي يومي. كرامة السوري مهدورة، وكذلك حقوق السوريين.
الكرامة المهدورة للفرد، كانت مقولة الثورة التأسيسية التي حملها شباب الطبقة الوسطى المدينية، وسرعان ما انتقلت إلى الضواحي والأرياف. والكرامة فردية، مرافقة للنزعة الفردية للبرجوازية الصغيرة، ومناسبة للإرث التاريخي لأهالي الريف والعشائر. لذا، فقد مثّلت الكرامة حجر الأساس الفكري في هذا التحالف، لكنها ظلت حجراً فريداً لا يمكن البناء عليه. ربما كان أجدى لو صارت قفل القنطرة.
أصحاب الفردانية المؤسِّسة للكرامة، سرعان ما غادروا المشهد، وعلى الأغلب هرباً خارج الحدود، بعدما نكّل بهم النظام. وانتقلت ثورة الكرامة إلى الضواحي والأرياف، وقدّمت الغالي والنفيس، مُضحيّةً بأجيال من شبابها، في مقارعة النظام وحلفائه، لتخسر كل ما تملكه. إلا أن انتقال ثورة الكرامة إلى الأرياف والضواحي، سحب من الكرامة حاملها البرجوازي الصغير، ونَسَبهُ إلى حوامل اجتماعية أهلية تتعدد باختلاف مناطقها، وتشترك في أنها سرعان ما غرقت في متاهات الحروب البَينية وهيمنة الإسلاميين، قبل أن يعاود النظام استباحتها.
النماذج التي قدمتها مناطق المعارضة لحكم ذاتها بذاتها، مع كل الأسباب المُخفِّفة المتعلقة بحصار النظام لها، وتجويعها واستمرار المجزرة اليومية بحقها، لا يمكن القول بأنها أخذت بمقولة الكرامة أو حتى الحرية على محمل التنفيذ الجدي. التخويف والتضييق والقتل واستباحة الآخر والاستقواء، من قبل المسلحين على تعدد مشاربهم، كانت مظاهر تتكرر بين الحين والآخر. لم يتمكن جسم إداري، لا سياسي، من التحول إلى نموذج سائد.
لم تتمكن الفوضى السورية من التحول، في أي لحظة، من تمرد أفراد، إلى ثورة شعبية. الثورة السورية ظلّت، بهذا المعنى، مجموع تمردات أفرادها، الثائرين من دون برنامج عملي لتحقيق مطالبهم. كرامات السوريين المهدورة، لم تتمكن من الوصول بثورة الكرامة إلى لحظتها القصوى وشرطها الوحيد: إسقاط النظام.
رفضت الثورة منذ البداية، رفع مطالب اجتماعية أو اقتصادية جوهرية يمكن لتحقيقها تحسين نوعية حياة السوريين. الثورة اكتفت بالشرط السياسي المتمثل في قلب النظام، لتحميله كامل بُعدِها الثوري. وكأنه برنامج اجتماعي سياسي اقتصادي من بند واحد، لا يمكن انجاز أي مسألة جزئية فيه من دون تحقيقه ككل. تحقيق الكل، شرط لتحقيق الأجزاء، بينما العكس غير مطروح. وكأن التراكم خطأ سياسي، وكأن التغيير يقوم على القطع الكلي، الجذري، مع الماضي بشرطه السياسي فقط. وذلك وحده، بحسب هذا الافتراض، يضمن حلاً تلقائياً لجذور اللاعدالة المريعة التي يعيشها السوريون في اجتماعهم واقتصادهم. لا تعيين لأي مسألة يريدها السوريون خارج اسقاط النظام، إذ لطالما رفض جمهور الثورة مناقشة أي برنامج سياسي لا يضع هذا الشرط بنداً أولاً ووحيداً.
لا يمكن كثيراً لوم جمهور الثورة، ومحاكم تفتيشهم، على ذلك. فالنظام بالَغ في العنف، منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة، ولم يترك مجالاً لظهور تدرجات سياسية ضمن طيف الثورة، بل أرادها بلون واحد، شديدة القطبية مثله، على شكله ومثاله، وإن كانت نقيضه الإيجابي. مجرد أن تكون الثورة محمولة على حركات ذات سمات شمولية مثله، لا همّ لها سوى اسقاطه، كان أقصى آمال النظام.
لطالما أدرك السوريون أن إزاحة هذا النظام هي حجر الأساس للتغيير. جمود النظام، واستعصاء اصلاحه، هما بديهيات العمل السياسي المعارض ما قبل الثورة. إذ لم تتمكن أي حركة احتجاجية، منظمة أو عفوية، تحت أي سقف مطلبي، منذ استيلاء "الحركة التصحيحية" على السلطة في العام 1970 حتى آذار/مارس 2011، من تغيير شيء. لا مدير مدرسة، ولا حاجب في مؤسسة حكومية، ولا سعر ربطة الخبز أو نوعيته. النظام كان نقيض السياسة. جوهر سياسي قائم على ابتلاع الإرادة الحرة لموضوعاته التي يحوّلها إلى أشياء، بالعنف وحده.
صحيح ومفهوم. لكن ما يصعب فهمه، ألا تحمل ثورة ضد نظام كهذا، مطالب تتعلق بمواجهة الفقر، أو الحد الأدنى للأجور، الصحة أو الدواء، نوعية التعليم، البيئة، تنظيم المدن، أسعار المحروقات والسماد. لم يطالب متصدرو متن الثورة، بالحقوق الجندرية والجنسانية، ولا بالحقوق الإثنية والطائفية واللغوية.
اليوم التالي لسقوط النظام، لم يكن سوى سراب بالنسبة إلى جمهور الثورة. لا بؤرة محرقية يتركز فيها الضوء، سوى تلك اللحظة؛ اسقاط النظام، لينقلب ما بعدها خارج إطار الرؤية الثورية. وماذا حينها؟ فرح غامر، انتصار مذهل، ومن بعده العماء المطلق.
اسقاط النظام كشرط لتحقق الثورة، كان العائق الأكبر منذ اللحظة الأولى. كان الجدار الأعلى الذي اشترطت الثورة على ذاتها تسلقه، كي تتمكن من تجاوزه. استحالة اسقاط النظام، تبدو اليوم بديهية، كما بدا إسقاطه بديهياً قبل سبع سنوات.
ويبدو تفسير هذا الإشكال ملتبساً، ومتعلقاً بشكل رئيسي بتحالف اجتماعي فضفاض، شكّل حاضنة الثورة منذ لحظتها الأولى؛ شباب الطبقة الوسطى المدينية، وسكان العشوائيات في ضواحي المدن المليونية وعموم سكان الأرياف السنيّة. البطالة وانعدام آمال الشريحة الأولى، والتهميش والإخراج من دائرة الوصول إلى الدولة والثروة للشريحتين الثانية والثالثة، كلها عوامل أدّت إلى ولادة ذلك التحالف الثوري. مقولات الثورة الأولى كانت صياغة لمطالب الطبقة الوسطى المدينية، التي لم تكن قد عثرت على لغتها، ولمّ يحدث ذلك بعد. مطالب حصرت غاية الثورة في الكرامة والحرية والشعب السوري الواحد.
لا شك أن المظاهرات الأولى التي سرت في عموم المناطق السورية، ومنها ما سيتحول إلى معاقل للنظام، كانت في عمقها تضامناً مع أهالي درعا، ثم بانياس والقصير والزبداني وغيرها. البُعد التضامني الأهلي، لم يتمكن من انتاج ما هو أبعد من فكرة الشعب السوري الواحد. مع الوقت، اكتفت كل منطقة محاصرة بعيش نهايتها الخاصة المكررة، كنسخة أبدية من بقية المناطق.
الكرامة كانت جوهر الثورة السورية، ومقولتها المركزية. لكن الكرامة، موضوعة ذاتية تتعلق بالفرد. الكرامة فردية. فما معنى كرامة عشيرة أو طائفة أو أهل حارة ما؟ فما بالك بكرامة شعب! مقولة الكرامة بلا محددات أرضية، ولا يمكن ترجمتها في برنامج عملي.
كرامة السوري منتهكة. أي استدعاء إلى أي جهاز أمني هو درس في انتهاك الإنسان وفرديته. تطاول على وجوده بالتخويف والرعب. تعظيم مخيلة "الرهيب" (بحسب وصف ياسين الحاج صالح) إلى حدّ ردع السوري عن اقتراف أي فعل، لم يكن سوى إجراء بيروقراطي روتيني أدمنت "مؤسسات" الإكراه الأمنية على تكراره. الإكراه في العمل والاستشفاء والتعليم والجيش والشارع، الذي تمارسه "مؤسسات الدولة" في حق المحكومين، هو فعل عادي يومي. كرامة السوري مهدورة، وكذلك حقوق السوريين.
الكرامة المهدورة للفرد، كانت مقولة الثورة التأسيسية التي حملها شباب الطبقة الوسطى المدينية، وسرعان ما انتقلت إلى الضواحي والأرياف. والكرامة فردية، مرافقة للنزعة الفردية للبرجوازية الصغيرة، ومناسبة للإرث التاريخي لأهالي الريف والعشائر. لذا، فقد مثّلت الكرامة حجر الأساس الفكري في هذا التحالف، لكنها ظلت حجراً فريداً لا يمكن البناء عليه. ربما كان أجدى لو صارت قفل القنطرة.
أصحاب الفردانية المؤسِّسة للكرامة، سرعان ما غادروا المشهد، وعلى الأغلب هرباً خارج الحدود، بعدما نكّل بهم النظام. وانتقلت ثورة الكرامة إلى الضواحي والأرياف، وقدّمت الغالي والنفيس، مُضحيّةً بأجيال من شبابها، في مقارعة النظام وحلفائه، لتخسر كل ما تملكه. إلا أن انتقال ثورة الكرامة إلى الأرياف والضواحي، سحب من الكرامة حاملها البرجوازي الصغير، ونَسَبهُ إلى حوامل اجتماعية أهلية تتعدد باختلاف مناطقها، وتشترك في أنها سرعان ما غرقت في متاهات الحروب البَينية وهيمنة الإسلاميين، قبل أن يعاود النظام استباحتها.
النماذج التي قدمتها مناطق المعارضة لحكم ذاتها بذاتها، مع كل الأسباب المُخفِّفة المتعلقة بحصار النظام لها، وتجويعها واستمرار المجزرة اليومية بحقها، لا يمكن القول بأنها أخذت بمقولة الكرامة أو حتى الحرية على محمل التنفيذ الجدي. التخويف والتضييق والقتل واستباحة الآخر والاستقواء، من قبل المسلحين على تعدد مشاربهم، كانت مظاهر تتكرر بين الحين والآخر. لم يتمكن جسم إداري، لا سياسي، من التحول إلى نموذج سائد.
لم تتمكن الفوضى السورية من التحول، في أي لحظة، من تمرد أفراد، إلى ثورة شعبية. الثورة السورية ظلّت، بهذا المعنى، مجموع تمردات أفرادها، الثائرين من دون برنامج عملي لتحقيق مطالبهم. كرامات السوريين المهدورة، لم تتمكن من الوصول بثورة الكرامة إلى لحظتها القصوى وشرطها الوحيد: إسقاط النظام.