على ضفاف الفرات: دير الزور تموت عطشاً
لم يخطر في بال أبناء دير الزور، يوماً، أنهم سيواجهون العطش وندرة الماء، وهم القاطنون منذ مئات السنين على ضفاف نهر الفرات الذي بات يُشكّل حاجزاً طبيعياً يفصل بين مناطق سيطرة قوات النظام وتنظيم "الدولة الإسلامية"، في المدينة وريفها.
"تحمّلنا انقطاع التيار الكهربائي منذ عام، وتحمّلنا كثيراً الجوع والحاجة والمذلّة. لكن، أن يصل الأمر إلى الموت عطشاً، فهذه الحياة ليست سوى جحيم، لا قدرة لبشرٍ على تحمّله". تحدّث بهذه الكلمات، أبو صالح، الأربعيني، وعيناه تُراقبان دلواً مملوءاً بمياهٍ غير معقّمة، هي كلّ ما استطاع تأمينه لستّة أطفال، نصفهم أبناء شقيقه الذي تُوفّي بقذيفةٍ طائشة قبل عام.
أكثر من 120 ألف مدنيّ، معظمهم نساءٌ وأطفال، يتواجدون في أحياء القصور والجورة والموظّفين ومساكن غازي عيّاش وفيلات البلدية وهرابش والطحطوح، الخاضعة لسيطرة قوات النظام في مدينة دير الزور. ويقبع هؤلاء تحت حصارٍ خانقٍ يفرضه تنظيم "الدولة" منذ منتصف كانون الثاني/يناير 2015. وبدأ الحصار بقطع التنظيم لجميع الطرقات البريّة، والمعابر المائية، الواصلة بين مناطق الريف الخاضعة لسيطرة التنظيم، وتلك التي تخضع لسيطرة قوات النظام في المدينة. حوالي 75 مدنياً، أكثر من نصفهم نساء وأطفال، قضوا خلال فترة الحصار المُستمرّ، نتيجة الجوع والأمراض التي لا يتوافر الدواء اللازم لعلاجها، يُضاف لذلك القصف المدفعي الذي تتعرّض له هذه الأحياء بين الحين والآخر، من قبل التنظيم.
ولم يكد المدنيون في هذه الأحياء يعتادون حياتهم البائسة التي تخلو من أبسط المقوّمات، حتى ظهرت لهم مؤخّراً أزمة المياه الصالحة للشرب. ففي 12 أيار/مايو توقفت محطة المياه الرئيسية عن ضخّ المياه المُعقّمة، نتيجة نفاذ الوقود اللازم لتشغيلها، وهو ما تسبّب بأزمةٍ إنسانية حقيقية، تُعدّ الأكثر خطراً على حياة المدنيين منذ بداية الحصار.
مدير "مرصد العدالة من أجل الحياة في دير الزور"، جلال الحمد، قال لـ"المدن": "يوجد في الأحياء الخاضعة لسيطرة قوات النظام، محطة الباسل الرئيسية في منطقة البغيلية، و3 محطاتٍ أخرى قرب معسكر الطلائع، وجميعها متوقفة عن العمل، نتيجة وجودها في مرمى قناصة تنظيم الدولة". وهناك محطة وحيدة تقع في حي الجورة وتعمل بشكلٍ شبه منتظم، وتحتوي على 8 مضخّاتٍ تعمل باستطاعةٍ أقلّ من 30 في المئة من استطاعتها الإسمية، منذ بداية الحصار، وذلك بسبب قلة الوقود. ويتمّ ضخّ المياه الصالحة للشرب، بعد سحب المياه وتعقيمها، إلى أحياء الجورة والقصور والموظفين وهرابش، بالإضافةً إلى المطار العسكري. لكنّ هذه المحطة لا تُزوِّد سوى المنازل الطابقية بالماء بسبب ضعف ضغط الضخ.
وأشار مدير "المرصد" إلى أنّ مشكلة انقطاع المياه الصالحة للشرب عن الأحياء المُحاصرة، تكمن في "قلّة الوقود اللازم لتشغيل محطات المياه، وذلك بسبب استيلاء قوات النظام على الوقود المُخصّص للمحطات، واستخدامه في تشغيل عرباتها وآلياتها العسكرية في معاركها مع التنظيم".
ورغم بلوغها حدّ تهديد حياة المدنيين مؤخّراً، إلا أنّ أزمة انقطاع المياه لا تُعدّ حدثاً طارئاً، فهي حالة مستمرة منذ أشهر، حاول البعض بجهودٍ فردية تداركها، لكنّ جميع المحاولات باءت بالفشل، أو أنها لم تُغطّ الحاجة المطلوبة. ففي 25 آذار/مارس، فقد العامل في مؤسسة المياه مختار العريفي، حياته، حين حاول الوصول إلى المحطة الرئيسية في منطقة البغيلية وتشغيلها. فتنظيم "الدولة" أصرّ على فرض الجوع والعطش، والانتقام من عشرات آلاف المدنيين، فقط لأنهم يتواجدون في "أرض الكُفر"، فاصطاد العامل، برصاصة قناصٍ يتواجد على الجانب الآخر من النهر.
فرع "الهلال الأحمر" بدوره، يحاول تأمين الحدّ الأدنى من احتياجات المدنيين للمياه، فيقوم بتوزيع المياه للمناطق التي لا يصلها الضخّ نهائياً، عبر الصهريج الوحيد الذي يمتلكه، والذي يتّسع لنحو 70 برميلاً. يُضاف لذلك، الخزانات التي خصّص لها نقاطاً مُحدّدة في حيّي الجورة والقصور، والتي غالباً ما تكون فارغةً، بسبب الضغط الكبير عليها.
120 ألف مدني، ليسوا في دمشق أو حلب لينالوا تعاطف المنظمات الدولية، أو اهتمام الحملات في وسائل التواصل الاجتماعي. 120 ألف مدني، يواجهون واقعاً شديد القساوة، ومصيراً يتحكّم فيه النظام والتنظيم على حدٍّ سواء، ضمن لعبة المصالح والاستعراض المُتبادلة.
"لا خبز، ولا كهرباء، ولا ماء.. لا أدري كيف بقينا على قيد الحياة منذ عام ونصف العام"، يُنهي حديثه أبو صالح، ولا يُعوِّل على حدوث شيءٍ في القريب العاجل.