كيف أُبعِدَ الأكراد عن الثورة السورية؟

سميان محمد
الثلاثاء   2016/03/15
ينتقدُ قادة "الاتحاد" في مراسم التشييع خصومهم السياسيين، وينعتونهم بالخيانة والتعامل مع الأعداء (أ ف ب)
في شارع "الوحدة" وسط مدينة القامشلي في محافظة الحسكة، لم يعد مفاجئاً أن تصادف بائع البسطة وهو يبيع اكسسوارات عليها صور الرئيس السوري بشار الأسد أو علم النظام. المشهد كان مستحيل الحدوث في الأعوام السابقة بين 2011 و2013.

وشارع "الوحدة" هو نافذة المدينة والرابط بين أحيائها ومكوناتها، ومقراتها الحكومية الرئيسية بما في ذلك الفروع الأمنية. شارع شهد أول مشاركة كردية في الثورة السورية في 1 نيسان/ابريل 2011، في "جمعة الشهداء"، حين صدحت مئات الحناجر في القامشلي وعامودا، منادية بالحرية، ومعبّرة عن تألّم أهلها على دماء أطفال درعا وشباب بانياس. حينها لم يمر سوى أسبوعين على بدء الثورة السورية، حتى هبت القامشلي لتهتف للحرية، ليبدأ تفاعل أكراد سوريا مع الثورة، بعدما وجدوا فيها أملاً يخلصهم من نظام مارس بحقهم صنوف القهر والحرمان.

الأكراد دخلوا الثورة على أنها تمثل وجعهم، وأن الدماء التي أراقها النظام في بابا عمرو هي امتداد لتلك الدماء في انتفاضتهم ضده في العام 2004. وكانت الثورة السورية وفية لأكرادها، حين هتف الثوار في مختلف المناطق السورية، للأكراد، في "جمعة آزادي" في 20 آيار/مايو 2011.

أجهزة النظام الأمنية حاولت تحييد الأكراد عن الثورة من خلال الانفتاح المتأخر على القضية الكردية، عبر إعادة تجنيس أكثر من مئتي ألف كردي، بموجب المرسوم رقم 49 الذي أصدره الأسد في العام 2011، بعدما حرموا من الجنسية في 1962. الأسد أرسل دعوة إلى الأحزاب الكردية للاجتماع بممثلي النظام، لاستمالة الأكراد والالتفاف على الثورة، في حزيران/يونيو 2011. دعوة الأسد جاءت عبر عضو مجلس الشعب السوري الكردي عمر أوسي، الذي شغل لسنوات مهمة ضابط الارتباط بين النظام وحزب "العمال الكردستاني". إلا أن ضغط الشارع الكردي حال دون ذلك، وقرر 12 حزباً كردياً رفض الدعوة، في اجتماع جرى في مدينة القامشلي في 12 يونيو 2011. والمفارقة أنه وبحسب ما كشفت إحدى القيادات التي حضرت الاجتماع لـ"المدن"، أن القياديين الكرديين الوحيدين اللذين شجعا على التفاوض مع النظام، كانا فؤاد عليكو وعبد الحكيم بشار، اللذان صارا لاحقاً ضمن وفد "الائتلاف الوطني" المعارض في محادثات "جنيف-3".

الأحزاب الكردية التي كانت تمارس السياسة بأساليب كلاسيكية، منذ تأسيس أول حزب كردي في سوريا في العام 1957، لم تتمكن من السيطرة على الشارع الكردي وضبط تظاهراته.
النظام السوري حاول، بمختلف الأساليب، كسب الأكراد إلى صفه، وسمح لحزب "الاتحاد الديموقراطي" بفتح مراكز ثقافية ونشاطات سياسية في المناطق الكردية والأحياء الكردية في دمشق وحلب، وهو ما كان محرماً قبل الثورة. النظام أطلق سراح العديد من المعتقلين السياسيين الأكراد، من بينهم المعارض ورئيس "تيار المستقبل" مشعل تمو، مقابل تهدئة الشارع الكردي، إلا أن تمو ربط مصير الأكراد بمصير الثورة وألقى خطاباً يوم إطلاق سراحه، بدأه بمقولته المشهورة: "ابصقوا في وجوه جلاديكم".

تمو غلب عليه الطابع الوطني السوري أكثر من القومي الكردي، وكان من مؤسسي "مؤتمر الإنقاذ" الذي عقد في مدينة انطاليا التركية، قبل أن يتم اغتياله من قبل أجهزة النظام الأمنية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2011، في منزل أحد رفاقه في مدينة القامشلي. حينها تفجرت الاحتجاجات في مختلف المدن الكردية، وبدا للحظة أن رهانات النظام على تحييد الأكراد عن الثورة السورية قد سقطت.

مع مرور أسابيع الثورة، تزايدت وتيرة المشاركة الكردية في الاحتجاجات، لتتحول المشاركة من نطاق المئات إلى الآلاف، قبل أن تصبح الاحتجاجات موكلة إلى "المجلس الوطني الكردي" الذي تأسس في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2011، والمؤلف من 11 حزباً كردياً ومنظمة شبابية ثورية، وفعاليات مدنية، في مدينة أربيل في إقليم كردستان، برعاية رئيس الإقليم مسعود برزاني.

"المجلس الوطني الكردي" أصبح منذ ذلك التاريخ الممثل الوحيد للجناح الثوري للأكراد، ليقوم حزب "الاتحاد الديموقراطي" وكردّ فعل، بالإعلان عن تأسيس "مجلس شعب غرب كردستان" المؤلف من جميع المنظمات التابعة للحزب، وبعض الأحزاب الكردية الصغيرة. بعد ذلك انقسم الحراك الثوري الكردي إلى قسمين؛ الأول يرفع علم الثورة وينادي بشعاراتها، والثاني يرفع أعلام منظمات حزب "العمال الكردستاني" وصور رموزه، ويسمى "جُمع الثورة" بمسمياته الخاصة.

النظام السوري ظل يمارس لأشهر سياسة غض الطرف عن النشاط الثوري الكردي، ولم تتعرض المظاهرات الكردي للعنف كما في بقية المناطق السورية. من جهته، سعى "الاتحاد الديموقراطي" إلى إقناع الشارع الكردي بتمثيله لـ"الخط الثالث"، وأن لا علاقة لهم بما سماه "الصراع على السلطة"، وأن لهم قضية كردية في ثورة سموها "ثورة روج آفا".

سعي "الاتحاد الديموقراطي" والنظام السوري لوأد الثورة في المناطق الكردية، لم يتوقف، وتم تسليم المراكز الأمنية والعسكرية لـ"الاتحاد الديموقراطي" في 19 تموز/يوليو 2012. حينها أصبحت السلطة الفعلية في المناطق الكردية، لـ"الاتحاد الديموقراطي"، بموجب ما يعرفه الشارع الكردي بـ"الاتفاقية الأمنية" بين قيادات "العمال الكردستاني" والنظام السوري. وتم بعد ذلك تأسيس "وحدات حماية الشعب" وقوات "الأسايش" الأمنية. وعملت القوة العسكرية لـ"الاتحاد الديموقراطي" بقيادة كوادر "العمال الكردستاني"، على خلق حالة أمنية جديدة، لهدفين؛ الأول تصفية بعض قيادات "الاتحاد الديموقراطي" المنفتحين على الثورة السورية، والثاني ترهيب خصومهم السياسيين من الأحزاب الكردية المتحالفة مع الثورة.

وتزامنت فترة دخول "العمال الكردستاني" إلى المناطق الكردية في سوريا، بتغيرات جوهرية في قيادته التي كانت ذات توجهين؛ الأول تيار قومي يقوده مراد قر يلان، والثاني يقوده جميل باييق المقرب من حلف "الممانعة" وإيران. باييق تخلص من خصومه السياسيين بتصفية بعضهم أو اخراجهم من مقر القيادة في قنديل، عبر إرسالهم في مهمات خارجية إلى مناطق أخرى. وكانت المناطق الكردية في سوريا إحدى تلك المناطق، حيث أوفد القيادي في "العمال" خبات ديركي، وتمت تصفيته من قبل مسلحين ملثمين من "العمال الكردستاني" مطلع العام 2012 في مدينة القامشلي، بعد شهور من تأسيسه لـ"وحدات حماية الشعب"، وذلك بحسب الفيلم الوثائقي "فيلم روج آفا" للقيادي المنشق عن "العمال الكردستاني" عاكف حسن.

وتحرك "الاتحاد الديموقراطي" في النصف الثاني من العام 2012، على المستويين السياسي والعسكري للقضاء على الحراك الثوري. وعلى المستوى السياسي احتوى "الاتحاد" خصمه "المجلس الوطني الكردي" بعقد سلسلة من الاتفاقات السياسية بدأها بتأسيس "الهيئة الكردية العليا" في 25 تموز/يوليو 2012، في مدينة أربيل العراقية برعاية رئاسة إقليم كردستان. إلا أن "الهيئة" لم تُفعّل إلى حين فتح معبر سيمالكا الحدودي الرابط بين الأراضي الكردية في سوريا والعراق مطلع العام 2013، والذي كشف لاحقاً زيف الاتفاقية والهيئة.

وسهّل تأسيس قوة عسكرية وأمنية منظمة، إلى حد ما، من مهمة "العمال الكردستاني" لإنهاء الحراك الثوري في المناطق الكردية. وبدأت مرحلة تصفية قيادات الحراك الثوري باغتيال "العمال الكردستاني" للقائد الميداني للحراك الثوري محمود والي، في مدينة سري كانيه في 20 أيلول/سبتمبر 2012، وتبعها بفترة قصيرة اغتيال نظيره جوان قطنا، في مدينة الدرباسية، ثم اغتيال القيادي في "الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا" نصر الدين برهك، في بلدة الجوادية، واختطاف قيادات من الأحزاب الكردية متعاطفة مع الحراك الشبابي، ومن أبرزهم بهزاد دورسن، القيادي في "الديموقراطي الكردي" في مدينة المالكية.

الحراك الثوري في المناطق الكردية لم يهدأ، واستمر "المجلس الوطني الكردي" الذي ضم "التنسيقيات الثورية الكردية" في قيادة الاحتجاجات، ما دفع بـ"الاتحاد الديموقراطي" إلى سلوك سبل أخرى لوأد الثورة كردياً.

ما لم ينجح فيه "الاتحاد الديموقراطي" بالترهيب نجح فيه سياسياً في احتواء "المجلس الكردي"، من خلال تفعيل "الهيئة الكردية العليا" وتعهد "الاتحاد" بإشراك "المجلس" في موارد معبر سيمالكا، مقابل إنهاء الحراك الثوري. وكانت مظاهرة "الهيئة الكردية العليا تمثلني" في 12 آذار/مارس 2013 بداية للتظاهر ذي اللون واحد، ليسيطر بذلك "الاتحاد الديموقراطي" على الشارع الكردي، وتصبح المظاهرات الكردية مرهونة بقرار "الهيئة الكردية العليا".

المشاركة الكردية في الثورة السورية انتهت منذ تأسيس "الهيئة الكردية العليا" التي انتهت صلاحيتها بدخول الشارع الكردي مرحلة الصمت الثوري. وفي حين انشغل الإطاران الكردييان الرئيسيان بالخلافات والتجاذبات السياسية، حاول رئيس إقليم كردستان استيعاب خلافاتهما بعقد اتفاقية أخرى بينهما تحت مسمى اتفاقية "هولير-2"، أواخر العام 2013، ونصت على شراكة الطرفين في إدارة المناطق الكردية عسكرياً وسياسياً. إلا أن "الاتحاد الديموقراطي" تنصل بعد شهور من الاتفاقية، لتسقط مع تبلور المحاور السياسية، وانضمام "المجلس الوطني الكردي" إلى "الائتلاف السوري" المعارض، فيما أعلن "الاتحاد الديموقراطي" عن "إدارة ذاتية" للمناطق الكردية، مؤلفة من ثلاثة كانتونات: عفرين وكوباني والجزيرة.

كما قام "الاتحاد الديموقراطي" بتفريغ ذكرى الانتفاضة الكردية في العام 2004 من محتواها، من خلال الاستيلاء على ذكرى المناسبة في العام 2013، بعدما استهدف تفجير انتحاري أحد المراكز الإدارية لـ"الاتحاد الديموقراطي" في مدينة القامشلي، وفسرها المراقبون بأنها مسرحية من "الاتحاد الديموقراطي" لإلغاء المناسبة التي كانت تمثل إيقونة ثورية للأكراد ضد النظام السوري.

"الاتحاد الديموقراطي" لم يكن يملك بين الجماهير الكردية، سوى نسبة قليلة من المؤيدين كانوا أساساً من جماهير "العمال الكردستاني" الذي نشط في التسعينيات في المناطق الكردية بدعم من الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، قبل أن يتعرض للملاحقة ويضعف نشاطه بعد اعتقال زعيمه عبدالله أوجلان، على خلفية "اتفاق أضنة" بين سوريا وتركيا، والذي انتهى حينها بطرد أوجلان من الأراضي السورية. "الإتحاد" عمل على أكثر من صعيد لإعادة شعبيته، وتوسيعها من خلال سياسات تشبه إلى حد كبير سياسة نظام البعث.

الوجه الأول لتلك السياسة كان اللعب على الوتر القومي، وإبراز "الاتحاد" كحامٍ للغة والألوان الكردية. بدأ ذلك في العام الأول من الثورة، حين خرج في مظاهرات بألوان وشعارات كردية وفتح مراكز لتعليم اللغة الكردية. أما الوجه الثاني، فكان الوجه الذي تعتمده الأنظمة الشمولية التي تختلق أعداء خارجيين لها وتلعب على وتر المقاومة، وساعده في ذلك النظام الذي وضع أمامه تنظيم "الدولة الإسلامية". ويقول أحد المنشقين عن "وحدات حماية الشعب" لـ"المدن" بأن سبب انشقاقه ثم هربه إلى خارج البلاد، هو أنه رأى بعينيه إنزال الطيران المروحي لقوات النظام للأسلحة والذخائر للطرفين، قبل أن يصبح "الاتحاد" قوة اعتماد برية لطيران "التحالف الدولي" ضد تنظيم "الدولة الإسلامية". وهو الأمر الذي عمل على توسيع الشرخ بين الأكراد وجوارهم العربي، من خلال استهداف المدنيين أكثر من استهداف مواقع التنظيم العسكرية.

أكثر من ثلاث سنوات من الاشتباكات المستمرة بين "الدولة الإسلامية" و"وحدات حماية الشعب"، كانت خلالها المدن الكردية تستقبل يومياً جنازات الضحايا، وتتخللها مراسم جماهيرية ينتقدُ فيها قادة "الاتحاد" خصومهم السياسيين، وينعتونهم بالخيانة والتعامل مع الأعداء، خاصة منهم القوى الثورية الكردية والعربية. "الاتحاد" عمل على توجيه الرأي العام الكردي باتجاه مناهضة سياسة حزب "العدالة والتنمية" في تركيا، من دون التطرق إلى الجرائم التي يرتكبها نظام الأسد بحق الشعب السوري.

ومع مرور الوقت، وجد المتسلقون وعملاء النظام البعثي في المناطق الكردية، مكاناً لهم في "الإدارة الذاتية" التي أسست نظاماً أمنياً، من خلال نظام "الكومون" الذي صار يربط الأمور المعيشية في كل حي وقرية بشكل مباشر مع جهازه الأمني. ما دفع بالآلاف من معارضي "الاتحاد الديموقراطي" إلى الهجرة، وباتت محافظة الحسكة تُعتبر ثالث محافظة من حيث عدد المهاجرين، خاصة شريحة الشباب الذين طالهم قرار التجنيد الإجباري لـ"الإدارة الذاتية".

الأكراد في سوريا عاشوا ثورة "سياحية" قياساً لما تعرضت له بقية المناطق السورية، إلا أن "الاتحاد الديموقراطي" كان يد النظام في قمع الأصوات الكردية الوطنية، سواء بالقتل أو الاعتقال أو النفي أو التهجير.