مخيّم "رجم الصليبي" في الحسكة: النزوح إلى قبر
أن تنام ليلاً في قبرٍ تحفره بيديك، وتستيقظ صباحاً وأنت تتأمّل عمق الحفرة، هي تجربة جديدة تبلغ حداً من القهر، تتخطى ما عاشه السوريون، منذ بدء رحلة نزوحهم ولجوئهم.
نازحون من جحيم تنظيم "الدولة الإسلامية" في دير الزور، ولاجئون عراقيون هاربون من معركة الموصل ومن الموت الذي يطوف بلادهم، يصلون يومياً إلى منطقة صحراوية قاحلة عند حاجز "رجم الصليبي"، الواقع بين مدينة الشدادي وبين بلدة الهول في ريف الحسكة الجنوبي الشرقي، والذي تديره "وحدات حماية الشعب" الكردية، قرب الحدود العراقية.
نازحون من جحيم تنظيم "الدولة الإسلامية" في دير الزور، ولاجئون عراقيون هاربون من معركة الموصل ومن الموت الذي يطوف بلادهم، يصلون يومياً إلى منطقة صحراوية قاحلة عند حاجز "رجم الصليبي"، الواقع بين مدينة الشدادي وبين بلدة الهول في ريف الحسكة الجنوبي الشرقي، والذي تديره "وحدات حماية الشعب" الكردية، قرب الحدود العراقية.
بمجرّد الوصول إلى الحاجز، يصبح النازحون واللاجئون، ومعظمهم من النساء والأطفال والمُسنّين، داخل سجنٍ من دون أسوار. فعناصر "الوحدات" يمنعون مغادرة أي شخص، حتى أصحاب الحالات الصحية الطارئة وذوي الأمراض المزمنة.
مصطفى، نازح من ريف ديرالزور الشرقي، يصف تجربته في معسكر "رجم الصليبي" بـ"الحياة بعد الموت". بدأت معاناة مصطفى بالبحث عن مُهرّبٍ يساعده في عبور مناطق تنظيم "الدولة" والوصول إلى محافظة الحسكة. يقول مصطفى لـ"المدن"، إن 150 ألف ليرة كانت تسعيرة المهرّب لنقله مع زوجته وطفلتهما المصابة بالربو، إلى خارج ديرالزور، بعيداً عن أنظار التنظيم الذي يمنع المغادرة إلى مناطق لا تخضع لسيطرته. ساعات أمضاها مصطفى وعائلته في سيارة يقودها المهرّب عبر طرقات صحراوية غير معبّدة، كي لا يمرّوا على حواجز التنظيم. وبعدها وصلوا منطقة الدشيشة داخل الحدود الإدارية لمحافظة الحسكة، والتي تُعدّ الحدّ الفاصل بين "وحدات الحماية" و"داعش"، ومنها مشوا سيراً على الأقدام، من دون رفقة المهرّب، حوالي عشرة كيلومترات عبر مناطق تكثر فيها الألغام، حتى بلغوا الحاجز.
"لا خيم، لا كهرباء، لا ماء.. فقط صحراء شاسعة، يخرج مئات المقهورين من باطنها كالنمل". هكذا يستذكر مصطفى ما جرى معه، وهو الذي أمضى مع عائلته أسبوعين في الحاجز، كادت ابنته خلالهما أن تفارق الحياة. مع اقتراب المدنيين من الحاجز، لا يعود أمرهم بيدهم، فعناصر "وحدات حماية الشعب" تحتجز الوافدين الذين يُجبرون على حفر جورة للنوم داخلها. ومن لا يقوم بذلك، يبقى في العراء ليحتمل قسوة الصحراء.
يقول مصطفى: "بأدوات بدائية تتوافر لدى المتواجدين في المخيّم، حفرتُ حفرة طولها وعرضها حوالي مترين مربّعين، وبعمق متر واحد. شعورٌ لا يوصف حين نزلتُ مع عائلتي للقبر وجلسنا فيه. استخدمتُ بعد الاستقرار في الحفرة، أغطية وشوالات مهترئة كانت لنازحين سابقين، لتغطية جزء من فتحة القبر، وللاحتماء من برد الليل وشمس النهار وغبار الأرض القاحلة".
لا يستطيع مصطفى العودة من حيث أتى، فهو إن تمكّن من مغادرة الحاجز، سيعتقله تنظيم "الدولة"، وربّما ينتهي به الأمر جثّةً بلا رأس، بتهمة "التخابر مع الأكراد الكفّار". ولم تُفلح مناشداته المتكرّرة لعناصر "الوحدات" في الخروج من الحاجز، إلى أن ضربت المنطقة عاصفة رملية شديدة، تسبّبت باختناق طفلته الوحيدة. "حملتُ ابنتي مسرعاً. بكيتُ كالطفل أمام عناصر الحاجز لإنقاذ حياتها. طلبوا مني مبلغ 300 ألف ليرة للسماح بذهابنا إلى مدينة الحسكة. وافقتُ من دون تردّد، وعدتُ لجلب زوجتي التي كانت تنتظر وحيدةً في القبر".
مخيّم "رجم الصليبي" الذي بدأ باحتجاز الهاربين من ويلات الحرب قبل أشهر قليلة، يشهد غياباً غير مفهوم لـ"الأمم المتحدة" والمنظمات الإنسانية والإغاثية، رغم تسجيل عدد من الوفيات فيه، والتي غالباً ما يُدفن أصحابها في قبور النزوح ذاتها.
مدير "مرصد العدالة من أجل الحياة في دير الزور" جلال الحمد، أكّد لـ"المدن"، توثيق حالتي وفاة في "رجم الصليبي"، إحداهما لطفلة من بلدة السوسة التابعة لمدينة البوكمال، والأخرى لسيدة من ديرالزور تُدعى أمامة عبدالرحمن السيد، وتبلغ من العمر 63 عاماً، كانت قادمة من ريف الحسكة، فتمّ احتجازها مع عدد من أقاربها بينهم أطفال. أكثر من عشرين يوماً أمضتها أمامة، مع أقاربها داخل الحاجز، وسط انعدام أبسط مقوّمات الحياة وتردّي أحوال الطقس وغياب الخدمات الطبية، وهي التي كانت تُعاني من مرضٍ في القلب. توفّيت أمامة نتيجة احتشاءٍ في عضلة القلب، بعدما دفعت 300 ألف ليرة لسمسار وعدها بإخراجها ومَن معها من الحاجز. لكنها خرجت في اليوم التالي جثّةً إلى المشفى الوطني في مدينة الحسكة، وبقي أقاربها في حاجز الموت يراقبون السماء، خوفاً من أمطارٍ قد تُغرِق قبورهم مجدداً.
حوالي خمسة آلاف نازح ولاجئ يتواجدون في مخيّم "رجم الصليبي"، تُمارس "الوحدات" الكردية بحقّهم مختلف أنواع الاستغلال المادي. فالمنطقة لا يوجد فيها شبكة اتصال، أو مساعدات غذائية وطبية، أو حتى مياه للشرب والاستحمام. فالليتر الواحد من مياه الشرب يبلغ سعره 600 ليرة، وربطة الخبز تُباع بـ1500 ليرة، وعلبة المرتديلا الصغيرة بـ1000 ليرة.
الحمد، أشار إلى أنه بسبب غياب الرعاية الصحية والبرد القارس، أصبح بعض الأطفال في المخيّم يتبوّلون دماً، بالإضافة إلى انتشار بعض الأمراض المُعدية كالجرب وعدد من الأمراض الجلدية الأخرى.
لا مؤشرات على ما يبدو حتى الآن، لإيجاد حلولٍ لمعاناة آلاف النازحين واللاجئين على حدٍّ سواء في مخيّم "رجم الصليبي". ولا اهتمام أيضاً من قبل الجهات الإنسانية بمصير هؤلاء العالقين في باطن الأرض. وحده الموت مَن يعبر الحدود ويفرح بطول أمد الحرب.