البلعوس: قصة اغتيال معلن
الأخبار المتفرقة التي تصل من السويداء، لا تشي بخروجها من عباءة النظام. وما حدث كان محاولة اغتيال سياسي لحركة "مشايخ الكرامة"، بعد صعودها المثير للجدل خلال العامين الماضيين.
الانفجار الأول الذي أصاب موكب الشيخ أبو فهد وحيد البلعوس، تسبب في مقتله، والشيخ فادي نعيم قائد "بيرق" آل نعيم. في حين أن انفجار السيارة المفخخة الثانية الذي ضرب المجتمعين في باحة المستشفى الوطني في السويداء، أودى بحياة 20 شخصاً، منهم قياديو الصف الأول في حركة "مشايخ الكرامة". الانفجاران وضعا حداً فعلياً لتطور حركة "مشايخ الكرامة"، وأوقفا الزخم الذي كانت تعيشه.
"مشايخ الكرامة"، ظهرت كمحاولة لسدّ فراغ سياسي-اجتماعي تعيشه الأقلية الدرزية، منذ عقود. فراغ في الزعامة التقليدية والروحية، لم يتمكن أحد من ملئه منذ وفاة قائد الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي سلطان باشا الأطرش العام 1982. الفراغ ذاته، كان قد تمادى في تظليل الساحة السورية حدّ العتمة، منذ أن هيمنت الشمولية السلطانية مع استيلاء "حزب البعث" على السلطة في العام 1963، وما افتعلته من تغييب لأصوات الضمير وتعطيل للديناميات الداخلية الحرة للمجتمعات المحلية.
منذ بداية الثورة السورية، ظهر استقطاب حاد ضمن المجتمع الدرزي في السويداء، بين موالاة ومعارضة للنظام. استقطاب تلاشى مع دخول الثورة عامها الثالث، بعد تشتت حوامل المعارضة الرئيسية. حينها بدأ يبرز صوت "مشايخ الكرامة"، كصوت يدعو للإصلاح ومحاربة الفساد، وتنظيف المحافظة منه. "مشايخ الكرامة" اصطدموا مباشرة مع مؤسسة "مشيخة العقل" التي رأت فيهم خطراً مباشراً على إرثها التاريخي، وموقع الزعامة الدنيوي "الجسماني" الذي تحظى به. "مشيخة العقل" كانت قد أصدرت حرماً دينياً، مطلع العام 2014، يقضي بإبعاد البلعوس وجماعته، بعدما تسرب مقطع مصور، يُهاجم فيه البلعوس الرئيس بشار الأسد. المشيخة الرسمية المُحابية عموماً للنظام و"الاستقرار"، عادت وتراجعت عن الحرم، تحت ضغط القواعد الدينية والشعبية. لكن أتباع البلعوس، وضعوا نصب أعينهم، ذلك الفرق بين "العقل" و"الكرامة"، و"عندما يغيب العقل لا يبقى سوى الكرامة"، كما يظهر في شعاراتهم.
وجدت حركة "مشايخ الكرامة" لنفسها، خطاً متمايزاً، لا يُقاتل النظام مباشرة، ولا يتماهى كلياً بالمعارضة السورية. خطٌ ينسجم مع فهم تأويلي خاص للعقيدة الدرزية، يرى في الصراع الحالي بين السنة والشيعة، مقتلة للدروز إن انحازوا لأحد الطرفين.
البلعوس ظهر في مجموعة كبيرة من الفيديوهات، وهو يوزع السلاح على أتباعه، في جميع قرى السويداء، ويقول علناً بإن السلاح تمّ شراؤه بأموال تبرعات من دروز فلسطين. ذلك كان، بحد ذاته، دليلاً قاطعاً لمحور "الممانعة" على "عمالة" البلعوس لإسرائيل. الدعم المالي -الذي قيل- إنه جاء على شكل تبرعات شعبية من قرى الدروز في الجليل الأعلى، لم يشترط على البلعوس مشاركة في القرار السياسي، كما يقول مقربون من الحركة. وذلك على عكس تبرعات جاءت من دروز لبنان كانت مرهونة بشروط سياسية، الأمر الذي تسبب في سوء علاقات وقطيعة، كما في علاقة "مشايخ الكرامة" بالنائب وليد جنبلاط. كما رفض البلعوس، زيارة النائب اللبناني رئيس حزب "التوحيد العربي" وئام وهاب، واعتبره غير مرحب به.
حملات التحريض على البلعوس لم تتوقف، وحفلت صحف "الممانعة" بتوصيف البلعوس بـ"شيخ الفتنة". فتنة حاول القتيل جاهداً تجنبها، إذ رفض "مشايخ الكرامة" عروض التعاون مع المعارضة المسلحة في درعا، ومعظمها لا ينتمي إلى السلفية الجهادية. لكن الاتهامات للبلعوس وجماعته، تنوعت وتكاثرت، ووصلت إلى حد اشاعات تمسّ بالعرض، درجت على بثها صفحات متخصصة في "فايسبوك" حملت إحداها اسم: "كلنا معاً ضد البلعوس"، وقد تم حذفها يوم اغتياله.
البلعوس، رفع سقفه عالياً، مهاجماً رئيس فرع الأمن العسكري في السويداء، واعتبره خصماً. النظام لدى "مشايخ الكرامة"، أخذ حجماً واقعياً، متمثلاً في القطب الأقوى في المنطقة الجنوبية: الجنرال وفيق ناصر. "مشايخ الكرامة" كانوا قد أصدروا بياناً أثناء معركة مطار الثعلة، اتهموا فيه ناصر بقصف مدينة السويداء بقذائف الهاون، وطالبوا باعتقاله.
"مشايخ الكرامة" خطفوا مجموعة رجال من حوران، مطالبين مبادلتهم بمخطوفي الدروز لدى المعارضة المسلحة في درعا، وبعض الجثث لدى "جبهة النصرة". تلك الخطوة ألّبت غضب الشارع العلماني المعارض، الذي طالب البلعوس بالإفراج عن الأسرى، خصوصاً بعد تسريب صور لهم، مكبّلي الأيدي. الملف، لم يظل عالقاً، وتمت المبادلة، بعد الاتفاق على منع الأذى المتبادل وتحريمه. وسعت حركة "مشايخ الكرامة" بدورها إلى التهدئة بعد قتل مليشيا درزية لثلاثة رجال من عشيرة بدوية، اعتقلوا أثناء قصف السويداء بالهاون. عملية الإعدام تسببت في نزوح البدو من السويداء إلى اللجاة. البلعوس جمع زعماء العشائر، وعقدوا ما يشبه "عقدة الراي" التي تمثل إعلاناً بالمصالحة.
لم يحظ البلعوس بأصدقاء على الأرض، وبعد وفاة الشيخ أبو محسن كمال الخطيب –الذي ساهم في رفع الحرم عن البلعوس- لم يبقَ له سوى الأعداء. لكن لـ"مشايخ الكرامة" وجوداً فعلياً على الأرض، خصوصاً في المزرعة والقريا، والسويداء. فقد عملت الحركة على تسليح مريديها، واستنهاض صيغة جديدة لمجموعاتها المسلحة، حملت اسم "البيارق". والبيرق، هو تقليد تاريخي، يتمثل في راية كانت تُرفع أثناء معارك الدروز، وتحمل دلالات دينية ورمزية كبيرة؛ فلكل من العائلات الكبيرة، بيرقها الخاص الذي يموت أبناؤها تحت ظله كي يظل مرفوعاً لا يلامس الأرض. للبيرق، مدلول ديني وقبلي معاً، وهذا ما حاول "مشايخ الكرامة" استعادته وتطويره. فقد أصبح لـ"آل" نعيم، بيرقهم، وهو عبارة عن راية الموحدين الدروز التاريخية بألوانها الخمسة، ومكتوب عليه "بيرق آل نعيم". لكن كلمة "البيرق" أطلقت أيضاً على قادة مجموعات "مشايخ الكرامة" المسلحة، كما حمل الشيخ البلعوس ذاته لقب "البيرق".
انضمام جزء من "آل نعيم" للبيرق، يعني نظرياً انتماء العائلة الدرزية الأكثر عدداً في مدينة السويداء إلى "مشايخ الكرامة"، إلا أن هذا بحد ذاته موضوع إشكالي، حيث برز بوضوح أثناء تشييع القتلى من آل نعيم، ما يُشير إلى وجود خلاف ضمن العائلة ذاتها. رغم ذلك، فقد وجدت "مشايخ الكرامة" في آل نعيم مستنداً لها في مدينة السويداء التي تندرج تاريخياً تحت نفوذ مشيخة العقل التابعة لـ"آل جربوع". وجود "مشايخ الكرامة" و"البيارق" سرعان ما عمّ مدن المحافظة وقراها، خصوصاً في أوساط الشباب الرافضين للالتحاق بقوات النظام، حيث فرضت "البيارق" أمراً واقعاً، يقوم على حماية الشباب من "الشرطة العسكرية"، بل سعوا في مرات عديدة لمحاصرتها وإخراج المقبوض عليهم للخدمة العسكرية الإلزامية بالقوة.
مسيرة "رجال الكرامة" تعرضت لهزات، وخطوات إلى الوراء، خصوصاً بعد قبول الشيخ البلعوس بالحرم الديني، وسعيه إلى مصالحة "مشيخة العقل". حينها، تراجع عدد منتسبي "الكرامة"، وانفض قسم منهم. العودة جاءت سريعاً مع معارك الحقف والثعلة. وجاء توسع نشاط "مشايخ الكرامة" أيضاً بسبب الكاريزما التي يتمتع بها زعيم الحركة، والقائمة بشكل رئيسي على البساطة والعفوية الخاصة برجال الدين الدروز الذين يتمتعون بحالة "صوفية" فيها الكثير من التسليم بالقدر.
وحركة "الكرامة" تُمثل نوعاً من التداخل الاستثنائي بين الفضائين؛ الروحاني والدنيوي، في مجتمع الدروز المغلق. الأمر الذي كان محصوراً في "مشيخة العقل" والمتطورة تاريخياً كصيغة ناطق رسمي باسم "جماعة العقّال". هذا التداخل، لا يحدث عادة، إلا عند وجود أخطار كبرى، تهدد الكيان الدرزي. إلا أن العطالة الداخلية للمؤسسة الرسمية، وقربها من النظام، دفعت مجتمع الدروز المُتديّن إلى البحث عن اجراء عملي، والتصدر لمواجهة الوقائع المستجدة. هذا الشرخ ضمن المجتمع الدرزي المتدين "العقّال"، يعكس فجوة كبيرة، بين الممثلين الرسميين للطائفة وبين سواد المتديّنين. ويلاحظ هنا أن انطلاق "مشايخ الكرامة" بدأ من الريف الغربي للسويداء، الذي لا يقع تحت نفوذ أي من مشايخ العقل الثلاثة.
وأيّاً كان من يقف خلف اغتيال الشيخ أبو فهد، فإن نتائج العملية المباشرة، أوضحت تضعضعاً لـ"رجال الكرامة" وقد تسهم في تحويلهم إلى مجموعات متنازعة. يُشير ذلك إلى وجود خلل تنظيمي في الحركة، وإمكانية لوجود اختراقات فيها، وهذا أمر طبيعي في حركة ناشئة. وقد يكون لتصفية الثقل السياسي الذي تميزت به الحركة، خطوة مشابهة لوضع الأكراد في الشمال الشرقي من سوريا. حينها، تسبب اغتيال زعيم "تيار المستقبل"، مشعل تمو، في انهاء التيار سياسياً، وإلغاء صوت كردي متمايز في مواجهة حزب "الاتحاد الديموقراطي" بزعامة صالح مسلم. حزب مسلم، تمكن خلال فترة قصيرة، وبواسطة شبكة من العلاقات المعقدة مع النظام والقوى الإقليمية، من حرف المطالب الكردية ذات المنحى التحرري الوطني، إلى إقامة "إدارة ذاتية" كردية، وتحصيل نوع من الاستقلال الكردي.
وإذا نجحت عملية الاغتيال في إنهاء "مشايخ الكرامة"، فقد يترافق ذلك مع انسحاب جزئي للنظام من محافظة السويداء، وتسليمها لمجموعة من القوى الدرزية المسلحة، المستمدة شرعيتها من وقوف المؤسسة الدينية الرسمية معها.
الانفجار الأول الذي أصاب موكب الشيخ أبو فهد وحيد البلعوس، تسبب في مقتله، والشيخ فادي نعيم قائد "بيرق" آل نعيم. في حين أن انفجار السيارة المفخخة الثانية الذي ضرب المجتمعين في باحة المستشفى الوطني في السويداء، أودى بحياة 20 شخصاً، منهم قياديو الصف الأول في حركة "مشايخ الكرامة". الانفجاران وضعا حداً فعلياً لتطور حركة "مشايخ الكرامة"، وأوقفا الزخم الذي كانت تعيشه.
"مشايخ الكرامة"، ظهرت كمحاولة لسدّ فراغ سياسي-اجتماعي تعيشه الأقلية الدرزية، منذ عقود. فراغ في الزعامة التقليدية والروحية، لم يتمكن أحد من ملئه منذ وفاة قائد الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي سلطان باشا الأطرش العام 1982. الفراغ ذاته، كان قد تمادى في تظليل الساحة السورية حدّ العتمة، منذ أن هيمنت الشمولية السلطانية مع استيلاء "حزب البعث" على السلطة في العام 1963، وما افتعلته من تغييب لأصوات الضمير وتعطيل للديناميات الداخلية الحرة للمجتمعات المحلية.
منذ بداية الثورة السورية، ظهر استقطاب حاد ضمن المجتمع الدرزي في السويداء، بين موالاة ومعارضة للنظام. استقطاب تلاشى مع دخول الثورة عامها الثالث، بعد تشتت حوامل المعارضة الرئيسية. حينها بدأ يبرز صوت "مشايخ الكرامة"، كصوت يدعو للإصلاح ومحاربة الفساد، وتنظيف المحافظة منه. "مشايخ الكرامة" اصطدموا مباشرة مع مؤسسة "مشيخة العقل" التي رأت فيهم خطراً مباشراً على إرثها التاريخي، وموقع الزعامة الدنيوي "الجسماني" الذي تحظى به. "مشيخة العقل" كانت قد أصدرت حرماً دينياً، مطلع العام 2014، يقضي بإبعاد البلعوس وجماعته، بعدما تسرب مقطع مصور، يُهاجم فيه البلعوس الرئيس بشار الأسد. المشيخة الرسمية المُحابية عموماً للنظام و"الاستقرار"، عادت وتراجعت عن الحرم، تحت ضغط القواعد الدينية والشعبية. لكن أتباع البلعوس، وضعوا نصب أعينهم، ذلك الفرق بين "العقل" و"الكرامة"، و"عندما يغيب العقل لا يبقى سوى الكرامة"، كما يظهر في شعاراتهم.
وجدت حركة "مشايخ الكرامة" لنفسها، خطاً متمايزاً، لا يُقاتل النظام مباشرة، ولا يتماهى كلياً بالمعارضة السورية. خطٌ ينسجم مع فهم تأويلي خاص للعقيدة الدرزية، يرى في الصراع الحالي بين السنة والشيعة، مقتلة للدروز إن انحازوا لأحد الطرفين.
البلعوس ظهر في مجموعة كبيرة من الفيديوهات، وهو يوزع السلاح على أتباعه، في جميع قرى السويداء، ويقول علناً بإن السلاح تمّ شراؤه بأموال تبرعات من دروز فلسطين. ذلك كان، بحد ذاته، دليلاً قاطعاً لمحور "الممانعة" على "عمالة" البلعوس لإسرائيل. الدعم المالي -الذي قيل- إنه جاء على شكل تبرعات شعبية من قرى الدروز في الجليل الأعلى، لم يشترط على البلعوس مشاركة في القرار السياسي، كما يقول مقربون من الحركة. وذلك على عكس تبرعات جاءت من دروز لبنان كانت مرهونة بشروط سياسية، الأمر الذي تسبب في سوء علاقات وقطيعة، كما في علاقة "مشايخ الكرامة" بالنائب وليد جنبلاط. كما رفض البلعوس، زيارة النائب اللبناني رئيس حزب "التوحيد العربي" وئام وهاب، واعتبره غير مرحب به.
حملات التحريض على البلعوس لم تتوقف، وحفلت صحف "الممانعة" بتوصيف البلعوس بـ"شيخ الفتنة". فتنة حاول القتيل جاهداً تجنبها، إذ رفض "مشايخ الكرامة" عروض التعاون مع المعارضة المسلحة في درعا، ومعظمها لا ينتمي إلى السلفية الجهادية. لكن الاتهامات للبلعوس وجماعته، تنوعت وتكاثرت، ووصلت إلى حد اشاعات تمسّ بالعرض، درجت على بثها صفحات متخصصة في "فايسبوك" حملت إحداها اسم: "كلنا معاً ضد البلعوس"، وقد تم حذفها يوم اغتياله.
البلعوس، رفع سقفه عالياً، مهاجماً رئيس فرع الأمن العسكري في السويداء، واعتبره خصماً. النظام لدى "مشايخ الكرامة"، أخذ حجماً واقعياً، متمثلاً في القطب الأقوى في المنطقة الجنوبية: الجنرال وفيق ناصر. "مشايخ الكرامة" كانوا قد أصدروا بياناً أثناء معركة مطار الثعلة، اتهموا فيه ناصر بقصف مدينة السويداء بقذائف الهاون، وطالبوا باعتقاله.
"مشايخ الكرامة" خطفوا مجموعة رجال من حوران، مطالبين مبادلتهم بمخطوفي الدروز لدى المعارضة المسلحة في درعا، وبعض الجثث لدى "جبهة النصرة". تلك الخطوة ألّبت غضب الشارع العلماني المعارض، الذي طالب البلعوس بالإفراج عن الأسرى، خصوصاً بعد تسريب صور لهم، مكبّلي الأيدي. الملف، لم يظل عالقاً، وتمت المبادلة، بعد الاتفاق على منع الأذى المتبادل وتحريمه. وسعت حركة "مشايخ الكرامة" بدورها إلى التهدئة بعد قتل مليشيا درزية لثلاثة رجال من عشيرة بدوية، اعتقلوا أثناء قصف السويداء بالهاون. عملية الإعدام تسببت في نزوح البدو من السويداء إلى اللجاة. البلعوس جمع زعماء العشائر، وعقدوا ما يشبه "عقدة الراي" التي تمثل إعلاناً بالمصالحة.
لم يحظ البلعوس بأصدقاء على الأرض، وبعد وفاة الشيخ أبو محسن كمال الخطيب –الذي ساهم في رفع الحرم عن البلعوس- لم يبقَ له سوى الأعداء. لكن لـ"مشايخ الكرامة" وجوداً فعلياً على الأرض، خصوصاً في المزرعة والقريا، والسويداء. فقد عملت الحركة على تسليح مريديها، واستنهاض صيغة جديدة لمجموعاتها المسلحة، حملت اسم "البيارق". والبيرق، هو تقليد تاريخي، يتمثل في راية كانت تُرفع أثناء معارك الدروز، وتحمل دلالات دينية ورمزية كبيرة؛ فلكل من العائلات الكبيرة، بيرقها الخاص الذي يموت أبناؤها تحت ظله كي يظل مرفوعاً لا يلامس الأرض. للبيرق، مدلول ديني وقبلي معاً، وهذا ما حاول "مشايخ الكرامة" استعادته وتطويره. فقد أصبح لـ"آل" نعيم، بيرقهم، وهو عبارة عن راية الموحدين الدروز التاريخية بألوانها الخمسة، ومكتوب عليه "بيرق آل نعيم". لكن كلمة "البيرق" أطلقت أيضاً على قادة مجموعات "مشايخ الكرامة" المسلحة، كما حمل الشيخ البلعوس ذاته لقب "البيرق".
انضمام جزء من "آل نعيم" للبيرق، يعني نظرياً انتماء العائلة الدرزية الأكثر عدداً في مدينة السويداء إلى "مشايخ الكرامة"، إلا أن هذا بحد ذاته موضوع إشكالي، حيث برز بوضوح أثناء تشييع القتلى من آل نعيم، ما يُشير إلى وجود خلاف ضمن العائلة ذاتها. رغم ذلك، فقد وجدت "مشايخ الكرامة" في آل نعيم مستنداً لها في مدينة السويداء التي تندرج تاريخياً تحت نفوذ مشيخة العقل التابعة لـ"آل جربوع". وجود "مشايخ الكرامة" و"البيارق" سرعان ما عمّ مدن المحافظة وقراها، خصوصاً في أوساط الشباب الرافضين للالتحاق بقوات النظام، حيث فرضت "البيارق" أمراً واقعاً، يقوم على حماية الشباب من "الشرطة العسكرية"، بل سعوا في مرات عديدة لمحاصرتها وإخراج المقبوض عليهم للخدمة العسكرية الإلزامية بالقوة.
مسيرة "رجال الكرامة" تعرضت لهزات، وخطوات إلى الوراء، خصوصاً بعد قبول الشيخ البلعوس بالحرم الديني، وسعيه إلى مصالحة "مشيخة العقل". حينها، تراجع عدد منتسبي "الكرامة"، وانفض قسم منهم. العودة جاءت سريعاً مع معارك الحقف والثعلة. وجاء توسع نشاط "مشايخ الكرامة" أيضاً بسبب الكاريزما التي يتمتع بها زعيم الحركة، والقائمة بشكل رئيسي على البساطة والعفوية الخاصة برجال الدين الدروز الذين يتمتعون بحالة "صوفية" فيها الكثير من التسليم بالقدر.
وحركة "الكرامة" تُمثل نوعاً من التداخل الاستثنائي بين الفضائين؛ الروحاني والدنيوي، في مجتمع الدروز المغلق. الأمر الذي كان محصوراً في "مشيخة العقل" والمتطورة تاريخياً كصيغة ناطق رسمي باسم "جماعة العقّال". هذا التداخل، لا يحدث عادة، إلا عند وجود أخطار كبرى، تهدد الكيان الدرزي. إلا أن العطالة الداخلية للمؤسسة الرسمية، وقربها من النظام، دفعت مجتمع الدروز المُتديّن إلى البحث عن اجراء عملي، والتصدر لمواجهة الوقائع المستجدة. هذا الشرخ ضمن المجتمع الدرزي المتدين "العقّال"، يعكس فجوة كبيرة، بين الممثلين الرسميين للطائفة وبين سواد المتديّنين. ويلاحظ هنا أن انطلاق "مشايخ الكرامة" بدأ من الريف الغربي للسويداء، الذي لا يقع تحت نفوذ أي من مشايخ العقل الثلاثة.
وأيّاً كان من يقف خلف اغتيال الشيخ أبو فهد، فإن نتائج العملية المباشرة، أوضحت تضعضعاً لـ"رجال الكرامة" وقد تسهم في تحويلهم إلى مجموعات متنازعة. يُشير ذلك إلى وجود خلل تنظيمي في الحركة، وإمكانية لوجود اختراقات فيها، وهذا أمر طبيعي في حركة ناشئة. وقد يكون لتصفية الثقل السياسي الذي تميزت به الحركة، خطوة مشابهة لوضع الأكراد في الشمال الشرقي من سوريا. حينها، تسبب اغتيال زعيم "تيار المستقبل"، مشعل تمو، في انهاء التيار سياسياً، وإلغاء صوت كردي متمايز في مواجهة حزب "الاتحاد الديموقراطي" بزعامة صالح مسلم. حزب مسلم، تمكن خلال فترة قصيرة، وبواسطة شبكة من العلاقات المعقدة مع النظام والقوى الإقليمية، من حرف المطالب الكردية ذات المنحى التحرري الوطني، إلى إقامة "إدارة ذاتية" كردية، وتحصيل نوع من الاستقلال الكردي.
وإذا نجحت عملية الاغتيال في إنهاء "مشايخ الكرامة"، فقد يترافق ذلك مع انسحاب جزئي للنظام من محافظة السويداء، وتسليمها لمجموعة من القوى الدرزية المسلحة، المستمدة شرعيتها من وقوف المؤسسة الدينية الرسمية معها.