سوريا.. حين يصبح الهروب قدراً لا مفرّ منه
المسافة التي يقطعها الهاربون من أراضي "الخلافة" إلى هدفهم المُنتظر في ألمانيا، فقط 3000 كيلومتر، وهم يحلمون بقضاء يومٍ لا تُسمع فيه أصوات القذائف والطائرات، ولا تُشاهد فيه مناظر الرؤوس المُقطّعة، والأجساد المُعلّقة.
لا يكترث هؤلاء الهاربون المغلوب على أمرهم، ببحرٍ ابتلع الكثيرين من قبلهم، أو بحدودٍ ليست من صُنع "سايكس بيكو"، أو بحرسٍ ينتشرون بين الدول، يرتدون زيّا موحّداً، ويحملون عصياً، تُذكّر ناظرها بسيوف البغدادي اللامعة. لا يكترث هؤلاء، برحلةٍ من آلاف الخطوات، وليالٍ يقضونها في العراء. هم المقهورون من ظُلم البشر، واليائسون من عدالة السماء الغائبة.
هم وحدهم فقط، مَن ينظر لهذه المغامرة، على أنها سياحةٌ مماثلة لتلك التي تنطلق من دير الزور إلى دمشق، في حافلةٍ مريحة، تصل بهم إلى كراجات القابون خلال 5 ساعاتٍ لا غير. لا صورة الطفل إيلان، قادرةٌ على ردع موجة المهاجرين اليائسين، ولا تهديدات الحكومة الهنغارية، كفيلةٌ بكبح جماح مَن صاحَبَ الموت لـ5 سنوات، وخَبِرَ الجوع جيّداً.
هروبٌ جماعي، من جحيم حربٍ، لا يميّز بين طفلٍ يموت لندرة الحليب، أو رجلٍ يقف عاجزاً أمام أبنائه الجائعين، أو شيخٍ مسنّ، أنسته سنوات النزوح الطويلة تفاصيل منزله، أو فتاةٍ تُجلد وسط قريتها، لعدم التزامها بـ "اللباس الشرعي". كـ"المُسيَّرين"، يصف أحمد، حال السكّان في المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية". يُضيف، ورغبة الهروب من البلاد تتملّكه: "لم يعد يحتمل العقل ما نراه وما نسمعه كلّ يوم. الرعب والخنوع يُسيطران على الجميع، وأسوأ ما في الأمر، أنك عاجزٌ عن فعل أيّ شيء". في المدينة ذاتها التي ينتمي اليها أحمد، وقبل نحو شهرين، تفاجأ الشاب احسان الصكر، بسيارةٍ للتنظيم توقّفت أمام منزل أهله في حي "العرضي". ترجّل أحد العناصر منها، وصادر من دون مبرّراتٍ جوّال احسان. دقائق قليلة فقط، بقي خلالها احسان في مكانه، غير مكترثٍ بنظرات جيرانه الخائفة، عادت السيارة ذاتها، وحملت معها صاحب الجوّال هذه المرة إلى المقرّ. 20 يوماً مضت، قُطع بعدها رأس احسان، وصُلبت جثّته لثلاثة أيامٍ كاملة، أمام باب المنزل. والدة احسان، تعبُر بين الحين والآخر باباً من نار. تُشاهد رأس ولدها الموضوع بين قدميه، ولافتةً معلّقةً على جسده، كُتب فيها: "التهمة: سبّ الذات الالهية"، ثمّ تعود إلى داخل المنزل. تفكّر مرة أخرى بالخروج والتحقّق من الجثّة المصلوبة على الطرف المقابل، تقترب أكثر من بقايا ابنها، لكنها تُمنع من الوصول، بأمرٍ من "الوالي". أيّ قهرٍ هذا لا يستدعي الهروب.
طريق التهريب نحو أوروبا، لا يقتصر على المغادرين من المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" فقط، فآلاف الشبّان الأكراد من المتواجدين تحت حُكم "الإدارة الذاتية" بسوريا، أو الذين لجأوا إلى كردستان العراق، سلكوا الطريق ذاته الواصل لبلاد "العمّة ميركل"، وذلك إما هرباً من قانون "التجنيد الإجباري" الذي فرضه حزب "الاتحاد الديموقراطي"، أو لتحسين ظروف حياتهم.
في دمشق، الحياة سجن كبير، قد تموت فيها بقذيفة طائشة، وقد تُعتقل على أحد حواجزها، لتُنسى في معتقلاتها تحت الأرض. أمجد، في نهاية العشرينيات من العمر، لم يكن ينوي مغادرة سوريا، لولا قرب انتهاء تأجيله للخدمة العسكرية الإلزامية في قوات النظام. من دمشق إلى الرقة، هرب أمجد، كي لا يصبح قاتلاً في هذه الحرب التي لا تلوح لها نهاية. تابع صديقنا طريقه، هرباً من سياط البغدادي، من الرقة إلى شمال سوريا، ومنه دخل تهريباً إلى تركيا.
أشهر مضت، لم تنفع شهادة أمجد في الهندسة المعمارية ولا خبرته في المنظمات الإغاثية، في الحصول على عملٍ يعيش من دخله، رغم المقابلات التي أجراها في بعض "مؤسسات الثورة". هرب أمجد مجدداً نحو اليونان، وتابع هروبه من الشرطة الهنغارية، حتى وصل إلى محطة الأمان، ألمانيا.
لم تعد تنطلي على السوريين كذبة "سيسقط النظام آخر الشهر"، ولن يترقّبوا مجدّداً موعد انطلاق "ساعة الصفر"، التي روّجت لها بسذاجة، إحدى القنوات الفضائية لنحو عامٍ كامل، قبل أن يُعلن عن إغلاق القناة في آذار/مارس للعام 2014، بسبب "ضعف التمويل". السوريون المتواجدون داخل حدود البلاد المقسّمة في هذه الأيام، ألغوا "إعجابهم" بمئات صفحات "التنسيقيات" على "فايسبوك"، وندموا على "متابعة" حساباتٍ شخصيةٍ لأشخاص، ما زالوا ينادون بإسقاط النظام، وهم في واشنطن، وبرلين، ولندن. فيما يستمرّ الجدل بين آخرين، حول مستقبل شكل الحكم في البلاد، إن كان دولة علمانية، أو "خلافة" إسلامية. لم يعد يكترث جيلٌ من السوريين، بدعوات التمسّك بالأرض وعدم مغادرتها. خمس سنواتٍ سوريّة، حَمَلَ خلالها اللاجئون الهاربون هموماً بوزن الجبال، وخزّنوا في ذاكرتهم صوراً وقصصاً تُروى فقط في الخيال.
مستقبلٌ غامضٌ، وضياعٌ بين دول العالم، وسوء طالعٍ يُلاحق السوريين أينما حلّوا، حتّى أنّ البعض، استغرب كيف لم يُقتل ولا سوريّ واحد، بحادثة سقوط الرافعة العملاقة في الحرم المكّي بالسعودية، قبل أيام.
لا يكترث هؤلاء الهاربون المغلوب على أمرهم، ببحرٍ ابتلع الكثيرين من قبلهم، أو بحدودٍ ليست من صُنع "سايكس بيكو"، أو بحرسٍ ينتشرون بين الدول، يرتدون زيّا موحّداً، ويحملون عصياً، تُذكّر ناظرها بسيوف البغدادي اللامعة. لا يكترث هؤلاء، برحلةٍ من آلاف الخطوات، وليالٍ يقضونها في العراء. هم المقهورون من ظُلم البشر، واليائسون من عدالة السماء الغائبة.
هم وحدهم فقط، مَن ينظر لهذه المغامرة، على أنها سياحةٌ مماثلة لتلك التي تنطلق من دير الزور إلى دمشق، في حافلةٍ مريحة، تصل بهم إلى كراجات القابون خلال 5 ساعاتٍ لا غير. لا صورة الطفل إيلان، قادرةٌ على ردع موجة المهاجرين اليائسين، ولا تهديدات الحكومة الهنغارية، كفيلةٌ بكبح جماح مَن صاحَبَ الموت لـ5 سنوات، وخَبِرَ الجوع جيّداً.
هروبٌ جماعي، من جحيم حربٍ، لا يميّز بين طفلٍ يموت لندرة الحليب، أو رجلٍ يقف عاجزاً أمام أبنائه الجائعين، أو شيخٍ مسنّ، أنسته سنوات النزوح الطويلة تفاصيل منزله، أو فتاةٍ تُجلد وسط قريتها، لعدم التزامها بـ "اللباس الشرعي". كـ"المُسيَّرين"، يصف أحمد، حال السكّان في المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية". يُضيف، ورغبة الهروب من البلاد تتملّكه: "لم يعد يحتمل العقل ما نراه وما نسمعه كلّ يوم. الرعب والخنوع يُسيطران على الجميع، وأسوأ ما في الأمر، أنك عاجزٌ عن فعل أيّ شيء". في المدينة ذاتها التي ينتمي اليها أحمد، وقبل نحو شهرين، تفاجأ الشاب احسان الصكر، بسيارةٍ للتنظيم توقّفت أمام منزل أهله في حي "العرضي". ترجّل أحد العناصر منها، وصادر من دون مبرّراتٍ جوّال احسان. دقائق قليلة فقط، بقي خلالها احسان في مكانه، غير مكترثٍ بنظرات جيرانه الخائفة، عادت السيارة ذاتها، وحملت معها صاحب الجوّال هذه المرة إلى المقرّ. 20 يوماً مضت، قُطع بعدها رأس احسان، وصُلبت جثّته لثلاثة أيامٍ كاملة، أمام باب المنزل. والدة احسان، تعبُر بين الحين والآخر باباً من نار. تُشاهد رأس ولدها الموضوع بين قدميه، ولافتةً معلّقةً على جسده، كُتب فيها: "التهمة: سبّ الذات الالهية"، ثمّ تعود إلى داخل المنزل. تفكّر مرة أخرى بالخروج والتحقّق من الجثّة المصلوبة على الطرف المقابل، تقترب أكثر من بقايا ابنها، لكنها تُمنع من الوصول، بأمرٍ من "الوالي". أيّ قهرٍ هذا لا يستدعي الهروب.
طريق التهريب نحو أوروبا، لا يقتصر على المغادرين من المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" فقط، فآلاف الشبّان الأكراد من المتواجدين تحت حُكم "الإدارة الذاتية" بسوريا، أو الذين لجأوا إلى كردستان العراق، سلكوا الطريق ذاته الواصل لبلاد "العمّة ميركل"، وذلك إما هرباً من قانون "التجنيد الإجباري" الذي فرضه حزب "الاتحاد الديموقراطي"، أو لتحسين ظروف حياتهم.
في دمشق، الحياة سجن كبير، قد تموت فيها بقذيفة طائشة، وقد تُعتقل على أحد حواجزها، لتُنسى في معتقلاتها تحت الأرض. أمجد، في نهاية العشرينيات من العمر، لم يكن ينوي مغادرة سوريا، لولا قرب انتهاء تأجيله للخدمة العسكرية الإلزامية في قوات النظام. من دمشق إلى الرقة، هرب أمجد، كي لا يصبح قاتلاً في هذه الحرب التي لا تلوح لها نهاية. تابع صديقنا طريقه، هرباً من سياط البغدادي، من الرقة إلى شمال سوريا، ومنه دخل تهريباً إلى تركيا.
أشهر مضت، لم تنفع شهادة أمجد في الهندسة المعمارية ولا خبرته في المنظمات الإغاثية، في الحصول على عملٍ يعيش من دخله، رغم المقابلات التي أجراها في بعض "مؤسسات الثورة". هرب أمجد مجدداً نحو اليونان، وتابع هروبه من الشرطة الهنغارية، حتى وصل إلى محطة الأمان، ألمانيا.
لم تعد تنطلي على السوريين كذبة "سيسقط النظام آخر الشهر"، ولن يترقّبوا مجدّداً موعد انطلاق "ساعة الصفر"، التي روّجت لها بسذاجة، إحدى القنوات الفضائية لنحو عامٍ كامل، قبل أن يُعلن عن إغلاق القناة في آذار/مارس للعام 2014، بسبب "ضعف التمويل". السوريون المتواجدون داخل حدود البلاد المقسّمة في هذه الأيام، ألغوا "إعجابهم" بمئات صفحات "التنسيقيات" على "فايسبوك"، وندموا على "متابعة" حساباتٍ شخصيةٍ لأشخاص، ما زالوا ينادون بإسقاط النظام، وهم في واشنطن، وبرلين، ولندن. فيما يستمرّ الجدل بين آخرين، حول مستقبل شكل الحكم في البلاد، إن كان دولة علمانية، أو "خلافة" إسلامية. لم يعد يكترث جيلٌ من السوريين، بدعوات التمسّك بالأرض وعدم مغادرتها. خمس سنواتٍ سوريّة، حَمَلَ خلالها اللاجئون الهاربون هموماً بوزن الجبال، وخزّنوا في ذاكرتهم صوراً وقصصاً تُروى فقط في الخيال.
مستقبلٌ غامضٌ، وضياعٌ بين دول العالم، وسوء طالعٍ يُلاحق السوريين أينما حلّوا، حتّى أنّ البعض، استغرب كيف لم يُقتل ولا سوريّ واحد، بحادثة سقوط الرافعة العملاقة في الحرم المكّي بالسعودية، قبل أيام.