استقالة وزير العدل المصري..ثمن الخروج عن نص المسرحية
غاضباً، أعلن وزير العدل المصري محفوظ صابر، استقالته من منصبه، على خلفية موجة هجوم ضده، بسبب تصريحاته حول رفض تعيين أبناء الطبقة الإجتماعية الدنيا في الهيئات القضائية. السؤال الأبرز هو: لماذا نجحت هذه الموجة من الانتقادات بالإطاحة به رغم فشل ذلك مراراً في مواقف سابقة؟
الوزير يجمع ما فرقته السياسة
تبدأ القصة بحوار مع الوزير مع قناة "Ten" الفضائية المصرية، حيث تلقى سؤالاً حول شرط المستوى الاجتماعي للتعيين بالقضاء، فرد بحسم قاطع: "ابن عامل النظافة لو أصبح قاضياً سيتعرض لأزمات عدة، ولن يستمر في هذه المهنة، كتر خير عامل النظافة إنه ربى ابنه، وساعده للحصول على شهادة، لكن هناك وظائف أخرى تناسبه". وأكد أن القاضي "لابد أن يكون قد نشأ في وسط مناسب لهذا العمل".
فوراً أخذ الخبر طريقه إلى قمة المواقع الإخبارية بعناوين تبرز هذا التصريح، وفوراً أصبح الأكثر تداولاً في شبكات التواصل الاجتماعي مع النقد الجاد، أو السباب الحاد، أو السخرية المريرة.
كان من اللافت أن انتقاد ما قاله الوزير جمع كل الفرقاء السياسيين، وكلٌ يغرد على ليلاه. على سبيل المثال امتلأت صفحات الإخوان بالحديث عن "بجاحة" وظلم "الانقلابيين"، وكتب الصحافي المُقرب من الإخوان وائل قنديل: "ابن جامع الزبالة أفضل من ابن مروجيها، الذين حولوا وطناً إلى مكب نفايات قد الدنيا". وفي المقابل قال مؤيدون للنظام الحاكم إن كلام محفوظ يخدم الإخوان، وكتب البرلماني السابق محمد أبوحامد، أحد أبرز الشخصيات السياسية المعادية للإخوان: "عايز أقول لوزير العدل، لما الإخوان اعتدوا على المحكمة الدستورية ومعظم المحاكم، اللي نزل معانا في الشارع يدافع عن القضاء هم الغلابة".
على هاشتاج #أقيلوا_وزير_العدل سنجد واحدة من المرات النادرة، التي يُجمع فيها من يضعون صور رابعة الإخوانية، وصور الرئيس السيسي على ذات المطلب.
ومن اللافت للغاية أن هذا التوحد على ذات الموقف، رغم محاولة كل طرف استخدامه لصالح موقفه السياسي، قد تكرر مؤخراً مع أزمة تجديد التراث ووقف برنامج إسلام البحيري، وأيضاً مع فقاعة الدعوة لخلع الحجاب.
المزايدة في الوسط السياسي المصري لا تنتهي، والجميع يريد دائماً إثبات أنه الأكثر وطنية وأخلاقاً وتديناً من منافسيه.
المحامون الحقوقيون المصريون أيضاً لم يتأخروا عن تقديم البلاغات، وكان منها بلاغ من مدير "مركز الحقانية لحقوق الإنسان" المحامي محمد عبدالعزيز، يتهم الوزير بمخالفة كلامه للدستور الذي ينص على عدم التمييز بين المواطنين.
الشباب: انظروا إلى العالم الموازي
وكأن الكون كله تحالف ضد محفوظ، فتزامنت تصريحاته بالضبط مع تعيين رئيس الوزراء البريطاني أول مسلم كوزير في حكومته، وكان والده مهاجراً باكستانياً بسيطاً يعمل سائق حافلة. في الظروف العادية لم يكن خبر كهذا سينال قراءات كبيرة، لكنه في ذلك اليوم الخاص قفز إلى القمة ليظهر بقائمة الأعلى قراءة بجوار أخبار محفوظ بالضبط.
تسبب ذلك في موجة من قصص يحكيها المصريون المهاجرون بالخارج في كل دول العالم الغربي عن مواقف شهدوها تعكس المساواة الغائبة في بلادنا.
الزحف المقدس مستمر
لم يكن هذا هو التصريح الأول من نوعه، في أذار/مارس 2012 قال رئيس "نادي القضاة" المستشار أحمد الزند: "من يهاجم أبناء القضاة هم الحاقدون والكارهون ممن يُرفض تعيينهم، وسيخيب آملهم، وسيظل تعيين أبناء القضاة سنة بسنة، ولن تستطيع قوة فى مصر أن توقف هذا الزحف المقدس!".
كان الزند يوجه هذا الحديث للقضاة المتجمعين في مؤتمره الانتخابي بالمنوفية، أبان حملته للترشح لانتخابات "نادي القضاة" التي أقيمت بعد أسبوعين فقط من تصريحه، وفاز فيها بأغلبية ساحقة. القاعدة العامة من قضاة مصر أثبتوا بكل الطرق العملية أنهم مؤيدون لهذا الكلام.
لم يكتفي الزند بهذا التصريح الحاد، بل أكد نفس المعنى في مناسبة اخرى عندما قال إن "ابن القاضي صاحب تقدير مقبول أفضل من أصحاب تقدير الامتياز لأن والدهم لم يكن قاض".
نائب رئيس محكمة النقض، والعضو السابق بالمجلس الأعلى للقضاء المستشار أحمد عبدالرحمن، كان قد صرّح في أيلول/سبتمبر 2014، بذات المحتوى، حيث قال في لقاء مع الإعلامي مجدي الجلاد، إن عامل النظافة لن يعيّن في القضاء، مؤكداً "هذا هو المستقَر عليه.. مكانه في مكان آخر غير القضاء".
لماذا نجحنا؟
بمجرد إعلان الوزير استقالته تحدث العديد من الشباب النشطاء عن أن ما حدث يؤكد استمرار قوة وفاعلية مواقع التواصل الإجتماعي، العالم الافتراضي ما زال يؤثر على العالم الواقعي. كانت الثقة التي وصلت لقمتها بعد الثورة قد اهتزت بشدة.
لكن الأمر يحتاج المزيد من التفكير، فقد تعددت غضبات أوساط الانترنت المصرية، دون أن تعيرها السلطة اهتماماً، كما أن الوزير ذاته في البرنامج ذاته، أطلق تصريحات أخرى استفزازية لكنها لم تنل نفس الشهرة والتأثير؛ فقد نفى أي نية لتعديل قانون التظاهر، وقال "الحمد لله إن الأمور هديت خلاص"، كما أكد على المُضي قدماً بالتحقيق في قضية تمويل شركة أبوتريكة للإخوان، قائلاً: "مفيش حد فوق القانون، وأبوتريكة عادي مش خط أحمر".
يبدو الفارق واضحاً في الموضوع، فقانون التظاهر والنشطاء المعتقلون تظل قضية خاصة بفئة معينة، ومشتبكة تماماً مع الاستقطاب السياسي الذي يجعل من مؤيدي السلطة داعمين لموقفها. الأمر ذاته ينطبق إلى حدٍ كبير على أبوتريكة، رغم أن شعبيته الساحقة متجاوزة بالفعل للانتماءات السياسية، ولكن فوراً نشطت كتيبة الإعلاميين الموالين لإشاعة تورط شركته بالفعل في دعم "الإرهاب"، والمزايدة الإخلاقية بأنه لا أحد فوق القانون الذي حبس رئيسين سابقين لمصر.
أما تصريحات الوزير عن المستوى الاجتماعي، فهي هدف مثالي، لا تشوبها أي شبهة موقف سياسي، وأثارت غضباً واسعاً انتقل للشارع، وتعطي الجميع فرصة للمزايدة العاطفية والأخلاقية والدينية.
المطلب المرفوع مثالي للجميع، فللمعارضة هو مطلب محدد وواضح، ليس بغموض المطالبة بـ "العدالة الإجتماعية" مثلاً، وله شعبية كبيرة، وهو مطلب خالٍ من الفزاعات، فلن يتساءل أحد من الشعب عن وجود بديل للوزير، ولن يثير أحد موجة من التخويف من "الإرهاب" الذي سيهددنا لو رحل وزير.
وبالنسبة للسلطة أيضاً هو مطلب مثالي، لأنه منخفض السقف، و"مُشخصن". فالنظام المصري الذي تحمّل التخلص من رئيسه حسني مبارك، ومن قادة الجيش التاريخيين طنطاوي وعنان، واستمر بمؤسساته وسياساته ذاتها، لن يمثل له التخلص من شخص آخر أي عبء. التخلص من الأشخاص يمنح شعوراً زائفاً بالنصر، بينما تستمر السياسات.
التوريث للجميع .. والتمثيل أيضاً
في فيلم "فبراير الأسود" للفنان الراحل خالد صالح، والذي يحكي عن مجموعة من العلماء اكتشفوا أنهم بلا قيمة في البلد، حاولوا وضع خطة للوصول لطبقة النفوذ. يقول صالح: "عشان تعيش في مصر لازم تبقى مواطن وحاجة .. مواطن وضابط، مواطن وجهة سيادية، مواطن وجهة قضائية، مواطن ورجل أعمال".
يبدو هذا القانون سائداً ضمنياً عند كل الأطراف، يسعى كل المصريين للانتماء لتلك الجهات النافذة، أو على الإقل اللحاق بفئات المهنيين من "كليات القمة"، كأساتذة الجامعة والأطباء والمهندسين. من يصل إلى أي مكان في هذه الجهات يسعى فوراً إلى ضمان دخول أكبر عدد من أبناءه وأقاربه إلى نفس القبيلة التي انتمى إليها.
وزير العدل المستقيل قال لكل من حدثه حتى بعد استقالته إنه متمسك بكلامه، لأنه فقط وصف الواقع، وقال لموقع "دوت مصر" إن الجميع يعرف أن كلامه لا ينطبق فقط على القضاء، بل أيضاً على الجيش والشرطة.
لكن الوزير لم يفهم أن الدولة والمجتمع المصري تاريخياً قد اعتادا على "التمثيليات المتفق عليها"، منذ كان مبارك يردد أن عصره "لم يقصف فيه قلم"، ويعتني للغاية بوجود أحزاب معارضة ديكورية، وانتخابات صورية تحت إشراف قضائي ودولي، ومعارضة عالية الصوت معدومة التأثير في البرلمان.
قواعد المسرحية تقول إنه كان على الوزير أن يؤكد المساواة بين الجميع، بينما يحدث في الواقع ما يعلمه الجميع. لذلك فوراً تحدث رئيس الأكاديمية الحربية وأكد بشكل قاطع أنه لا يوجد أي تمييز في دخول سلك ضباط القوات المسلحة، وأن أي مواطن من أي خلفية يمكنه ذلك، وبعده تحدث وكيل نادي القضاة عبدالله فتحي ورفض تصريحات محفوظ وقال إن القضاء يتم التعيين فيه بفرص متساوية وبلا تمييز ضد الفئات الأدنى.
هل يستقيل الواقع أيضاً؟
ذكرت مصادر صحافية مصرية أن الرئاسة طلبت من رئيس الوزراء قبول استقالة الوزير، إذن تم استبعاد من خرج عن نص المسرحية، وعاد الممثلون للعب الأدوار نفسها.
لكن التمثيل لا يغير الواقع المستقر.
في العام 2010 نشر الكاتب والشاعر الشهير فاروق جويدة، مقالاً في جريدة "الأهرام" ينتقد فيه توريث القضاء في مصر، ونشر رسائل أتته من مستبعدين من التعيين، رغم حصولهم على درجات بالكلية والمقابلات أكبر من درجات أبناء القضاة المعينين. تم استدعاء الكاتب الكبير لمكتب النائب العام للتحقيق بتهمة إهانة القضاء، وأصيب بعدها بأزمة قلبية حادة، كانت حديث مصر.
تراجع الموضوع من الواجهة لفترة طويلة خلف زخم الأحداث السياسية، لكن يبدو أن القضاء مقبل على جولة جديدة من نقاش القضية نفسها، وعنوانها الأبرز هو استبعاد 138 ممن كانت أسماؤهم قد أدرجت بالفعل في كشف المقبولين للنيابة في الدفعة الأخيرة، وكان المجلس الأعلى للقضاء قد وافق عليهم فعلاً قبل أن يتم تعطيل القائمة فجأة عند مكتب رئاسة عدلي منصور، لتخرج نهائية بغير أسمائهم.
محمد كمال الدين، المتخرج بتقدير جيد جداً، وأحد المستبعدين بسبب المستوى الاجتماعي، أصيب والده بجلطة بسبب حزنه على ضياع حلمه، ما أدى إلى وفاته. نالت القصة انتشاراً كبيراً.
المتحدث باسمهم، محمود الطاروري، قال لوسائل الإعلام إنه لا وسيلة قانونية أمامهم بعد رفض تظلماتهم إلا تدخل الرئيس السيسي.
لكن أعضاء حاليين وسابقين بمجلس القضاء الأعلى في رسالة ضمنية، ربما ترد على تصريحات الوزير، وربما تستبق أي محاولة من أي جهة، أكدوا بحسم أن المجلس هو السلطة الوحيدة في مصر المسؤولة عن تعيين القضاة، وأن الشروط القانونية منشورة ومعروفة.
لكن الواقع يتغير ببطء، في 2010 كان فاروق جويدة، وحيداً أمام سلطة القضاة الكاسحة حين تحدث بمفرده عن الموضوع، أما اليوم فلم يجرؤ أحد القضاة على ملاحقة كل من تحدث ببلاغات إهانة القضاء المعتادة، واستقالة الوزير رغم أنها لم تحل القضية، لكنها تبقى حالة نادرة في مصر، ونصراً صغيراً يستحق الفرحة والدراسة والبناء عليه.
الوزير يجمع ما فرقته السياسة
تبدأ القصة بحوار مع الوزير مع قناة "Ten" الفضائية المصرية، حيث تلقى سؤالاً حول شرط المستوى الاجتماعي للتعيين بالقضاء، فرد بحسم قاطع: "ابن عامل النظافة لو أصبح قاضياً سيتعرض لأزمات عدة، ولن يستمر في هذه المهنة، كتر خير عامل النظافة إنه ربى ابنه، وساعده للحصول على شهادة، لكن هناك وظائف أخرى تناسبه". وأكد أن القاضي "لابد أن يكون قد نشأ في وسط مناسب لهذا العمل".
فوراً أخذ الخبر طريقه إلى قمة المواقع الإخبارية بعناوين تبرز هذا التصريح، وفوراً أصبح الأكثر تداولاً في شبكات التواصل الاجتماعي مع النقد الجاد، أو السباب الحاد، أو السخرية المريرة.
كان من اللافت أن انتقاد ما قاله الوزير جمع كل الفرقاء السياسيين، وكلٌ يغرد على ليلاه. على سبيل المثال امتلأت صفحات الإخوان بالحديث عن "بجاحة" وظلم "الانقلابيين"، وكتب الصحافي المُقرب من الإخوان وائل قنديل: "ابن جامع الزبالة أفضل من ابن مروجيها، الذين حولوا وطناً إلى مكب نفايات قد الدنيا". وفي المقابل قال مؤيدون للنظام الحاكم إن كلام محفوظ يخدم الإخوان، وكتب البرلماني السابق محمد أبوحامد، أحد أبرز الشخصيات السياسية المعادية للإخوان: "عايز أقول لوزير العدل، لما الإخوان اعتدوا على المحكمة الدستورية ومعظم المحاكم، اللي نزل معانا في الشارع يدافع عن القضاء هم الغلابة".
على هاشتاج #أقيلوا_وزير_العدل سنجد واحدة من المرات النادرة، التي يُجمع فيها من يضعون صور رابعة الإخوانية، وصور الرئيس السيسي على ذات المطلب.
ومن اللافت للغاية أن هذا التوحد على ذات الموقف، رغم محاولة كل طرف استخدامه لصالح موقفه السياسي، قد تكرر مؤخراً مع أزمة تجديد التراث ووقف برنامج إسلام البحيري، وأيضاً مع فقاعة الدعوة لخلع الحجاب.
المزايدة في الوسط السياسي المصري لا تنتهي، والجميع يريد دائماً إثبات أنه الأكثر وطنية وأخلاقاً وتديناً من منافسيه.
المحامون الحقوقيون المصريون أيضاً لم يتأخروا عن تقديم البلاغات، وكان منها بلاغ من مدير "مركز الحقانية لحقوق الإنسان" المحامي محمد عبدالعزيز، يتهم الوزير بمخالفة كلامه للدستور الذي ينص على عدم التمييز بين المواطنين.
الشباب: انظروا إلى العالم الموازي
وكأن الكون كله تحالف ضد محفوظ، فتزامنت تصريحاته بالضبط مع تعيين رئيس الوزراء البريطاني أول مسلم كوزير في حكومته، وكان والده مهاجراً باكستانياً بسيطاً يعمل سائق حافلة. في الظروف العادية لم يكن خبر كهذا سينال قراءات كبيرة، لكنه في ذلك اليوم الخاص قفز إلى القمة ليظهر بقائمة الأعلى قراءة بجوار أخبار محفوظ بالضبط.
تسبب ذلك في موجة من قصص يحكيها المصريون المهاجرون بالخارج في كل دول العالم الغربي عن مواقف شهدوها تعكس المساواة الغائبة في بلادنا.
الزحف المقدس مستمر
لم يكن هذا هو التصريح الأول من نوعه، في أذار/مارس 2012 قال رئيس "نادي القضاة" المستشار أحمد الزند: "من يهاجم أبناء القضاة هم الحاقدون والكارهون ممن يُرفض تعيينهم، وسيخيب آملهم، وسيظل تعيين أبناء القضاة سنة بسنة، ولن تستطيع قوة فى مصر أن توقف هذا الزحف المقدس!".
كان الزند يوجه هذا الحديث للقضاة المتجمعين في مؤتمره الانتخابي بالمنوفية، أبان حملته للترشح لانتخابات "نادي القضاة" التي أقيمت بعد أسبوعين فقط من تصريحه، وفاز فيها بأغلبية ساحقة. القاعدة العامة من قضاة مصر أثبتوا بكل الطرق العملية أنهم مؤيدون لهذا الكلام.
لم يكتفي الزند بهذا التصريح الحاد، بل أكد نفس المعنى في مناسبة اخرى عندما قال إن "ابن القاضي صاحب تقدير مقبول أفضل من أصحاب تقدير الامتياز لأن والدهم لم يكن قاض".
نائب رئيس محكمة النقض، والعضو السابق بالمجلس الأعلى للقضاء المستشار أحمد عبدالرحمن، كان قد صرّح في أيلول/سبتمبر 2014، بذات المحتوى، حيث قال في لقاء مع الإعلامي مجدي الجلاد، إن عامل النظافة لن يعيّن في القضاء، مؤكداً "هذا هو المستقَر عليه.. مكانه في مكان آخر غير القضاء".
لماذا نجحنا؟
بمجرد إعلان الوزير استقالته تحدث العديد من الشباب النشطاء عن أن ما حدث يؤكد استمرار قوة وفاعلية مواقع التواصل الإجتماعي، العالم الافتراضي ما زال يؤثر على العالم الواقعي. كانت الثقة التي وصلت لقمتها بعد الثورة قد اهتزت بشدة.
لكن الأمر يحتاج المزيد من التفكير، فقد تعددت غضبات أوساط الانترنت المصرية، دون أن تعيرها السلطة اهتماماً، كما أن الوزير ذاته في البرنامج ذاته، أطلق تصريحات أخرى استفزازية لكنها لم تنل نفس الشهرة والتأثير؛ فقد نفى أي نية لتعديل قانون التظاهر، وقال "الحمد لله إن الأمور هديت خلاص"، كما أكد على المُضي قدماً بالتحقيق في قضية تمويل شركة أبوتريكة للإخوان، قائلاً: "مفيش حد فوق القانون، وأبوتريكة عادي مش خط أحمر".
يبدو الفارق واضحاً في الموضوع، فقانون التظاهر والنشطاء المعتقلون تظل قضية خاصة بفئة معينة، ومشتبكة تماماً مع الاستقطاب السياسي الذي يجعل من مؤيدي السلطة داعمين لموقفها. الأمر ذاته ينطبق إلى حدٍ كبير على أبوتريكة، رغم أن شعبيته الساحقة متجاوزة بالفعل للانتماءات السياسية، ولكن فوراً نشطت كتيبة الإعلاميين الموالين لإشاعة تورط شركته بالفعل في دعم "الإرهاب"، والمزايدة الإخلاقية بأنه لا أحد فوق القانون الذي حبس رئيسين سابقين لمصر.
أما تصريحات الوزير عن المستوى الاجتماعي، فهي هدف مثالي، لا تشوبها أي شبهة موقف سياسي، وأثارت غضباً واسعاً انتقل للشارع، وتعطي الجميع فرصة للمزايدة العاطفية والأخلاقية والدينية.
المطلب المرفوع مثالي للجميع، فللمعارضة هو مطلب محدد وواضح، ليس بغموض المطالبة بـ "العدالة الإجتماعية" مثلاً، وله شعبية كبيرة، وهو مطلب خالٍ من الفزاعات، فلن يتساءل أحد من الشعب عن وجود بديل للوزير، ولن يثير أحد موجة من التخويف من "الإرهاب" الذي سيهددنا لو رحل وزير.
وبالنسبة للسلطة أيضاً هو مطلب مثالي، لأنه منخفض السقف، و"مُشخصن". فالنظام المصري الذي تحمّل التخلص من رئيسه حسني مبارك، ومن قادة الجيش التاريخيين طنطاوي وعنان، واستمر بمؤسساته وسياساته ذاتها، لن يمثل له التخلص من شخص آخر أي عبء. التخلص من الأشخاص يمنح شعوراً زائفاً بالنصر، بينما تستمر السياسات.
التوريث للجميع .. والتمثيل أيضاً
في فيلم "فبراير الأسود" للفنان الراحل خالد صالح، والذي يحكي عن مجموعة من العلماء اكتشفوا أنهم بلا قيمة في البلد، حاولوا وضع خطة للوصول لطبقة النفوذ. يقول صالح: "عشان تعيش في مصر لازم تبقى مواطن وحاجة .. مواطن وضابط، مواطن وجهة سيادية، مواطن وجهة قضائية، مواطن ورجل أعمال".
يبدو هذا القانون سائداً ضمنياً عند كل الأطراف، يسعى كل المصريين للانتماء لتلك الجهات النافذة، أو على الإقل اللحاق بفئات المهنيين من "كليات القمة"، كأساتذة الجامعة والأطباء والمهندسين. من يصل إلى أي مكان في هذه الجهات يسعى فوراً إلى ضمان دخول أكبر عدد من أبناءه وأقاربه إلى نفس القبيلة التي انتمى إليها.
وزير العدل المستقيل قال لكل من حدثه حتى بعد استقالته إنه متمسك بكلامه، لأنه فقط وصف الواقع، وقال لموقع "دوت مصر" إن الجميع يعرف أن كلامه لا ينطبق فقط على القضاء، بل أيضاً على الجيش والشرطة.
لكن الوزير لم يفهم أن الدولة والمجتمع المصري تاريخياً قد اعتادا على "التمثيليات المتفق عليها"، منذ كان مبارك يردد أن عصره "لم يقصف فيه قلم"، ويعتني للغاية بوجود أحزاب معارضة ديكورية، وانتخابات صورية تحت إشراف قضائي ودولي، ومعارضة عالية الصوت معدومة التأثير في البرلمان.
قواعد المسرحية تقول إنه كان على الوزير أن يؤكد المساواة بين الجميع، بينما يحدث في الواقع ما يعلمه الجميع. لذلك فوراً تحدث رئيس الأكاديمية الحربية وأكد بشكل قاطع أنه لا يوجد أي تمييز في دخول سلك ضباط القوات المسلحة، وأن أي مواطن من أي خلفية يمكنه ذلك، وبعده تحدث وكيل نادي القضاة عبدالله فتحي ورفض تصريحات محفوظ وقال إن القضاء يتم التعيين فيه بفرص متساوية وبلا تمييز ضد الفئات الأدنى.
هل يستقيل الواقع أيضاً؟
ذكرت مصادر صحافية مصرية أن الرئاسة طلبت من رئيس الوزراء قبول استقالة الوزير، إذن تم استبعاد من خرج عن نص المسرحية، وعاد الممثلون للعب الأدوار نفسها.
لكن التمثيل لا يغير الواقع المستقر.
في العام 2010 نشر الكاتب والشاعر الشهير فاروق جويدة، مقالاً في جريدة "الأهرام" ينتقد فيه توريث القضاء في مصر، ونشر رسائل أتته من مستبعدين من التعيين، رغم حصولهم على درجات بالكلية والمقابلات أكبر من درجات أبناء القضاة المعينين. تم استدعاء الكاتب الكبير لمكتب النائب العام للتحقيق بتهمة إهانة القضاء، وأصيب بعدها بأزمة قلبية حادة، كانت حديث مصر.
تراجع الموضوع من الواجهة لفترة طويلة خلف زخم الأحداث السياسية، لكن يبدو أن القضاء مقبل على جولة جديدة من نقاش القضية نفسها، وعنوانها الأبرز هو استبعاد 138 ممن كانت أسماؤهم قد أدرجت بالفعل في كشف المقبولين للنيابة في الدفعة الأخيرة، وكان المجلس الأعلى للقضاء قد وافق عليهم فعلاً قبل أن يتم تعطيل القائمة فجأة عند مكتب رئاسة عدلي منصور، لتخرج نهائية بغير أسمائهم.
محمد كمال الدين، المتخرج بتقدير جيد جداً، وأحد المستبعدين بسبب المستوى الاجتماعي، أصيب والده بجلطة بسبب حزنه على ضياع حلمه، ما أدى إلى وفاته. نالت القصة انتشاراً كبيراً.
المتحدث باسمهم، محمود الطاروري، قال لوسائل الإعلام إنه لا وسيلة قانونية أمامهم بعد رفض تظلماتهم إلا تدخل الرئيس السيسي.
لكن أعضاء حاليين وسابقين بمجلس القضاء الأعلى في رسالة ضمنية، ربما ترد على تصريحات الوزير، وربما تستبق أي محاولة من أي جهة، أكدوا بحسم أن المجلس هو السلطة الوحيدة في مصر المسؤولة عن تعيين القضاة، وأن الشروط القانونية منشورة ومعروفة.
لكن الواقع يتغير ببطء، في 2010 كان فاروق جويدة، وحيداً أمام سلطة القضاة الكاسحة حين تحدث بمفرده عن الموضوع، أما اليوم فلم يجرؤ أحد القضاة على ملاحقة كل من تحدث ببلاغات إهانة القضاء المعتادة، واستقالة الوزير رغم أنها لم تحل القضية، لكنها تبقى حالة نادرة في مصر، ونصراً صغيراً يستحق الفرحة والدراسة والبناء عليه.