منع مغادرة من أراضي "الخلافة"
"عودوا من حيث أتيتم.. أنتم كاذبون ومنافقون، تريدون الذهاب إلى أرض الكفر"، هكذا استقبل عناصر حاجز "السد"، بين مدينتي الرقة والطبقة، والتابع لتنظيم "الدولة الإسلامية"، راكبي إحدى الحافلات المتّجهة من الرقة، نحو مناطق حلب الشمالية على الحدود مع تركيا، والخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة المسلّحة.
لم يتوقّع سامر، أنه سيصبح يوماً، سجيناً في الرقة، عاصمة "خلافة الدولة الإسلامية"، أو أن يقوم تنظيم الدولة بفرض حالة أشبه ما تكون بالإقامة الجبرية على ساكني مناطق سيطرته. ابن دير الزور الهارب مؤخّراً من دمشق، خوفاً من اعتقاله بسبب قرب انتهاء تأجيله للخدمة العسكرية الإلزامية في جيش النظام، بات اليوم عالقاً في الرقة "مدينة الظلام" كما يصفها، وغريباً في شوارعها التي عرفها جيّداً عندما كان طالباً في إحدى كليّات جامعتها.
اللهجتان التونسية والليبية، أوّل ما سمعه سامر عند حاجز التنظيم عند مدخل الرقة. الراية السوداء الكبيرة للتنظيم والمرفوعة على سارية شاهقة قرب الكراجات، تحجب شمس المدينة عن ماء فراتها. الحديقة وسط المدينة، لم تعد تحتوي على تمثال هارون الرشيد. بقايا الدماء، ما زالت منتشرة في ساحات الإعدام. سواد ليل المدينة، ينعكس نهاراً على جدرانها وعباءات نسائها. مقهى الأطلال بجانب دوار النعيم، أُغلق وكُتب على واجهته: "هيئة الخدمات الإسلامية 65/7". ملامح الرجال تغيّرت. سيارات الأجرة الصفراء، قاومت السواد واحتفظت بلونها. نصف مدارس المدينة تفتقد صخب أطفالها، ونصفها الآخر يحوي نازحين عالقين بين طائرات النظام والتحالف، وبين سيوف التنظيم الحادّة.
إعلانات "الجهاد" ومقاومة التحالف "الصليبي"، تتزاحم في شوارع المدينة، مع صور تحضُّ النساء على ارتداء النقاب والالتزام بـ"اللباس الشرعي". سينما الهواء الطلق باتت حقيقة، من خلال عرض التنظيم إصداراته المرئية أمام العامّة، وتكرار مشاهد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة. سيارات أمن ومخابرات النظام ذات الدفع الرباعي، غابت منذ عامين، لتحلّ محلّها سيارات "الحسبة" المزوّدة بمكبّرات صوتٍ تُنادي في أوقات الصلاة لإغلاق المحال التجارية.
"بالأمس، شاهدتُ البناء الذي ألقي من فوقه أحد المُتّهمين بممارسة اللواط"، يقول سامر، واصفاً البناء الذي أصبح "مزاراً" مكوّناً من ستّ طبقات، ليواصل الكتابة بأصابع مرتجفة: "سأحذف كلّ شيء عن جوالي بعد انتهائنا من المحادثة.. بعض الكلمات كفيلة بفصل رأسي عن جسدي إن شاهدها أحد عناصر التنظيم".
البحث عن التبغ
بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على كامل مدينة الرقة، منتصف كانون الثاني/يناير 2014، عقب اشتباكات عنيفة استمرّت أياماً مع "أحرار الشام" و"جبهة النصرة" وفصائل المعارضة المسلحة، أعلن التنظيم المدينة عاصمةً لـ"دولة الخلافة". وفرَض على سكانها قراراتٍ تتحكّم بتفاصيل الحياة اليومية؛ من إلزام النساء ارتداء النقاب، وإغلاق المحال التجارية في أوقات الصلاة، إلى منع تداول وبيع الدخّان والمشروبات الكحولية. وخصّص التنظيم عبر ذراعه الأمني المُسمّى بـ"الحسبة"، عقوباتٍ لمن يُخالف هذه القرارات، تصل إلى الجَلد، والسجن لفترات متفاوتة، تتراوح بين الأيام والأشهر.
هذا التشديد، لم يمنع البعض من تهريب كميات من الدخّان، بشكل مستمر، إلى المدينة. يقول سامر: "حتى وإن توفّر الدخّان لدى أحد المحلات، فمن الصّعب أن يقوم صاحبه ببيعه لأشخاص لا يعرفهم جيّداً، خوفاً من أن يكون هؤلاء متعاونين مع التنظيم، وبالتالي سيتم سجنه وإغلاق محلّه، كما حصل مع أبي محمد، الذي طردني خارج محله، بمجرّد أن سألته عن توافر الدخّان لديه. ليتبيّن في ما بعد، أنه أنهى منذ يومين فقط، عقوبته التي استمرّت شهراً كاملاً في أحد السجون، تخللتها دروس شرعية وحفظ لسور من القرآن". يضيف سامر: "استغلّ التجّار هذه الأوضاع، ورفعوا سعر الدخّان 4 أضعاف سعره الأصلي". ويتابع: "بعد عناء طويل وتزكية من قبل أحد ساكني الحيّ، تمكّنتُ من شراء علبة تبغ رديئة من نوع (ميكادو) بسعر خيالي 500 ليرة سورية".
تابوت في الطائرة
الحصار الذي يعيشه سامر داخل حدود "الخلافة"، ينطبق بصورة أخرى على نحو 400 ألف مدني متواجدين في الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام في مدينة دير الزور. حيث يقوم كل من التنظيم والنظام بمنع سكان تلك الأحياء، من الدخول إليها أو مغادرتها، رغم الظروف الإنسانية الصعبة التي بلغت حدّ الجوع. وهو ما دفع بعض الأهالي إلى مغادرة هذا الحصار، من طريق استخدام طائرات النظام العسكرية المتّجهة إلى دمشق، بعد الحصول على موافقة ضبّاط النظام المسؤولين عن ذلك. تقول سهى: "لم يعد بإمكاننا البقاء بسبب الجوع وندرة المواد الغذائية، فغادرتُ مع عائلتي في طائرة شحن عسكرية كبيرة، وطوال رحلة الخوف، كان أمامي تابوت يحوي بداخله جثّة لأحد عناصر قوات النظام، ممّن سقطوا مؤخّراً في الاشتباكات مع تنظيم الدولة".
يتجوّل سامر مرّة أخرى في شوارع المدينة المُظلمة، ويُعيد مشاهدة ساحة الساعة ودوار الدلّة ومطعم الحاضري في حيّ الثكنة، في انتظار ردّ أحد المُهرّبين الذين تواصل معهم، لمغادرة الرقة وسوريا بشكل نهائي، دون أن يفكّر في العودة خلال السنوات المقبلة. "هذه البلاد لم تعد لنا"، هكذا قال سامر، قبل أن يقوم بحذف أرشيف المحادثة بيننا.
لم يتوقّع سامر، أنه سيصبح يوماً، سجيناً في الرقة، عاصمة "خلافة الدولة الإسلامية"، أو أن يقوم تنظيم الدولة بفرض حالة أشبه ما تكون بالإقامة الجبرية على ساكني مناطق سيطرته. ابن دير الزور الهارب مؤخّراً من دمشق، خوفاً من اعتقاله بسبب قرب انتهاء تأجيله للخدمة العسكرية الإلزامية في جيش النظام، بات اليوم عالقاً في الرقة "مدينة الظلام" كما يصفها، وغريباً في شوارعها التي عرفها جيّداً عندما كان طالباً في إحدى كليّات جامعتها.
اللهجتان التونسية والليبية، أوّل ما سمعه سامر عند حاجز التنظيم عند مدخل الرقة. الراية السوداء الكبيرة للتنظيم والمرفوعة على سارية شاهقة قرب الكراجات، تحجب شمس المدينة عن ماء فراتها. الحديقة وسط المدينة، لم تعد تحتوي على تمثال هارون الرشيد. بقايا الدماء، ما زالت منتشرة في ساحات الإعدام. سواد ليل المدينة، ينعكس نهاراً على جدرانها وعباءات نسائها. مقهى الأطلال بجانب دوار النعيم، أُغلق وكُتب على واجهته: "هيئة الخدمات الإسلامية 65/7". ملامح الرجال تغيّرت. سيارات الأجرة الصفراء، قاومت السواد واحتفظت بلونها. نصف مدارس المدينة تفتقد صخب أطفالها، ونصفها الآخر يحوي نازحين عالقين بين طائرات النظام والتحالف، وبين سيوف التنظيم الحادّة.
إعلانات "الجهاد" ومقاومة التحالف "الصليبي"، تتزاحم في شوارع المدينة، مع صور تحضُّ النساء على ارتداء النقاب والالتزام بـ"اللباس الشرعي". سينما الهواء الطلق باتت حقيقة، من خلال عرض التنظيم إصداراته المرئية أمام العامّة، وتكرار مشاهد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة. سيارات أمن ومخابرات النظام ذات الدفع الرباعي، غابت منذ عامين، لتحلّ محلّها سيارات "الحسبة" المزوّدة بمكبّرات صوتٍ تُنادي في أوقات الصلاة لإغلاق المحال التجارية.
"بالأمس، شاهدتُ البناء الذي ألقي من فوقه أحد المُتّهمين بممارسة اللواط"، يقول سامر، واصفاً البناء الذي أصبح "مزاراً" مكوّناً من ستّ طبقات، ليواصل الكتابة بأصابع مرتجفة: "سأحذف كلّ شيء عن جوالي بعد انتهائنا من المحادثة.. بعض الكلمات كفيلة بفصل رأسي عن جسدي إن شاهدها أحد عناصر التنظيم".
البحث عن التبغ
بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على كامل مدينة الرقة، منتصف كانون الثاني/يناير 2014، عقب اشتباكات عنيفة استمرّت أياماً مع "أحرار الشام" و"جبهة النصرة" وفصائل المعارضة المسلحة، أعلن التنظيم المدينة عاصمةً لـ"دولة الخلافة". وفرَض على سكانها قراراتٍ تتحكّم بتفاصيل الحياة اليومية؛ من إلزام النساء ارتداء النقاب، وإغلاق المحال التجارية في أوقات الصلاة، إلى منع تداول وبيع الدخّان والمشروبات الكحولية. وخصّص التنظيم عبر ذراعه الأمني المُسمّى بـ"الحسبة"، عقوباتٍ لمن يُخالف هذه القرارات، تصل إلى الجَلد، والسجن لفترات متفاوتة، تتراوح بين الأيام والأشهر.
هذا التشديد، لم يمنع البعض من تهريب كميات من الدخّان، بشكل مستمر، إلى المدينة. يقول سامر: "حتى وإن توفّر الدخّان لدى أحد المحلات، فمن الصّعب أن يقوم صاحبه ببيعه لأشخاص لا يعرفهم جيّداً، خوفاً من أن يكون هؤلاء متعاونين مع التنظيم، وبالتالي سيتم سجنه وإغلاق محلّه، كما حصل مع أبي محمد، الذي طردني خارج محله، بمجرّد أن سألته عن توافر الدخّان لديه. ليتبيّن في ما بعد، أنه أنهى منذ يومين فقط، عقوبته التي استمرّت شهراً كاملاً في أحد السجون، تخللتها دروس شرعية وحفظ لسور من القرآن". يضيف سامر: "استغلّ التجّار هذه الأوضاع، ورفعوا سعر الدخّان 4 أضعاف سعره الأصلي". ويتابع: "بعد عناء طويل وتزكية من قبل أحد ساكني الحيّ، تمكّنتُ من شراء علبة تبغ رديئة من نوع (ميكادو) بسعر خيالي 500 ليرة سورية".
تابوت في الطائرة
الحصار الذي يعيشه سامر داخل حدود "الخلافة"، ينطبق بصورة أخرى على نحو 400 ألف مدني متواجدين في الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام في مدينة دير الزور. حيث يقوم كل من التنظيم والنظام بمنع سكان تلك الأحياء، من الدخول إليها أو مغادرتها، رغم الظروف الإنسانية الصعبة التي بلغت حدّ الجوع. وهو ما دفع بعض الأهالي إلى مغادرة هذا الحصار، من طريق استخدام طائرات النظام العسكرية المتّجهة إلى دمشق، بعد الحصول على موافقة ضبّاط النظام المسؤولين عن ذلك. تقول سهى: "لم يعد بإمكاننا البقاء بسبب الجوع وندرة المواد الغذائية، فغادرتُ مع عائلتي في طائرة شحن عسكرية كبيرة، وطوال رحلة الخوف، كان أمامي تابوت يحوي بداخله جثّة لأحد عناصر قوات النظام، ممّن سقطوا مؤخّراً في الاشتباكات مع تنظيم الدولة".
يتجوّل سامر مرّة أخرى في شوارع المدينة المُظلمة، ويُعيد مشاهدة ساحة الساعة ودوار الدلّة ومطعم الحاضري في حيّ الثكنة، في انتظار ردّ أحد المُهرّبين الذين تواصل معهم، لمغادرة الرقة وسوريا بشكل نهائي، دون أن يفكّر في العودة خلال السنوات المقبلة. "هذه البلاد لم تعد لنا"، هكذا قال سامر، قبل أن يقوم بحذف أرشيف المحادثة بيننا.