يوم اعتقلت مع بيتر كاسيغ
قال لي: "سنقوم بقطع رأسك، إن اكتشفنا أنك تكذب علينا". كان ذلك منذ عامين، قبل انتشار رايات "الدولة الإسلامية" السوداء في شرق سوريا. حفظتُ حينها هذه الكلمات جيّداً، رغم أنّ رهبة الموقف عطّلت إدراكي. أصوات التعذيب ورائحة "السبيرتو" زادت من ظلمة قطعة القماش السوداء، التي منعتني من رؤية من يهددنا بالذبح، ذلك المعروف بين معتقلي "الدولة الإسلامية في العراق والشام" بـ"أبي يوسف".
أبو يوسف بلهجته الشرقية، كان يتحكّم بمصير آلاف المساجين في مهاجع مبنى "المحافظة" في مدينة الرقة. يحكُم على المُتّهمين من خلال "ظواهر الأمور"، إما بالإعدام، أو بالسجن، أو بإطلاق سراحٍ على مضض.
منذ أيام، استعدتُ ذكريات "الولادة من الموت"، حين رأيتُ صورةً حديثة لأحد مسؤولي "ديوان العشائر" التابع لتنظيم "الدولة الإسلامية" في ريف الرقة. لم يمت هذا "الداعشي"، رغم تزاحم الطائرات فوقه، ولم يتغيّر مظهره، منذ لقائنا الوحيد الذي استمرّ دقائق قليلة فقط. حتى أنني أستطيع تمييز صوته، إن تحدّثت الصورة.
الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2013، كان يوماً روتينياً بما يحمله من قصفٍ ونزوح، لمَن كان خارج سيارة الإسعاف المتّجهة من الرقة إلى دير الزور. ساعةٌ يتيمة مضت على بداية رحلة الخوف، التقيتُ خلالها لأول مرةٍ بعامل الإغاثة الأميركي بيتر كاسيغ. كلماتٌ قليلة تبادلناها، وصورةٌ تذكارية التُقطت لنا، بقيت في ذاكرة كاميرا "كانون" تعود لمصوّرٍ صحافي من حلب، كان يُرافق بيتر.
لحظات تأمّل غروب الشمس، وانعكاس أشعّتها البرتقالية على الأسطح المنخفضة للمنازل المتباعدة، فرضت هدوءاً لا إرادياً داخل السيارة البطيئة. تطايرت هذه الأحلام، بمجرّد توقّفنا عند حاجزٍ لتنظيم "الدولة الإسلامية" في "عِراقِه وشامِه"، في منطقة الكرامة التي تبعد 35 كيلومتراً شرقي مدينة الرقة. أمرَنا قائد الحاجز المُلثّم بالعودة إلى مقرّ التنظيم في المنطقة ذاتها، بعدما احتجز الهويات الشخصية لراكبي السيارة الستة. تزامن وصولنا إلى المقرّ مع صلاة المغرب التي كانت جامعةً لعناصره بزعامة "أميرهم". التحق ثلاثةٌ منّا بالصفوف الخلفية للمُصلّين، ربّما بدافع الخوف، واكتفيتُ باستطلاع المكان، وانتظار المجهول. حديثُ نظراتٍ لا يبعث على الطمأنينة، واتهاماتٌ بالتعامل مع "الصليبيين"، كانت كافية لمصادرة ممتلكاتنا، وحبسِنا في زنزانةٍ، تبيّن أنها كانت إحدى قاعات المركز الثقافي الذي اكتسى بالسواد من الخارج.
لم تُجدِ صرخاتنا لمعرفة مصيرنا نفعاً، في قدوم أحد عناصر التنظيم، أو في فتح الباب الذي أٌقفل بإحكام. حاولنا تمضية بعض الوقت بتقليب كتبٍ لـ "ابن تيمية"، وقراءة منشوراتٍ لـ"نواقض الإسلام"، تمّ وضعها في الزنازين بغرض "تثقيف" المساجين دينياً. ساعاتُ مضت، حوّلت فكرة الاعتقال إلى جحيم، في زمنٍ يُفترض أن يكون ثورةً على الظُلم والظلام.
صديقي الذي نال نصيبه من التوبيخ على يد "الداعشي"، لارتدائه قلادةً لعلم الثورة "العلماني"، كَسَرَ صمت الانتظار، ونقشَ على الجدار عبارة "داعش الأسد"، ليبدأ بعدها بركل الباب، الذي دخل منه على وجه السرعة، ثلاثة عناصر قاموا بسحله وضربه ونقله إلى قاعةٍ "ثقافية" أخرى.
عُدنا لخوفنا مجدّداً، وعاد بيتر لمراقبة أعيننا وحركاتنا بحثاً عن إجابةٍ لا نملكها. لم تكن أسوأ الاحتمالات القائمة حينها، تُشير أنّ هذا الشاب الذي قطع آلاف الكيلومترات لمساعدة المحتاجين، سيظهر رأسه مفصولاً عن جسده بعد عامٍ ونيّف، فوق أرض دابق في ريف حلب، التي يتوعّد التنظيم فيها "جيوش الكفّار" بـ"معركةٍ حاسمة"، تُمهّد لنهاية هذا العالم.
نُقلنا في اليوم التالي إلى مبنى "المحافظة" الذي كان يُعدّ معقل التنظيم في سوريا، توزّعنا على ثلاثة مهاجع، يضمّ الواحد منها نحو ثلاثين معتقلاً، كانوا في ازديادٍ مستمر. استعطتُ بصعوبة تأمين مكانٍ للنوم، قرب نصف حائط، يفصل بيني وبين ما يمكن تسميته بـ"دورة مياه".
استبدلتُ الأحلام في ذلك المكان، بقطعة خبزٍ أتحايل فيها على الجوع، وبذكرياتٍ من العام 2003، حين عَرَضَ عليّ صاحب أحد محلات الألبسة الرياضية في مدينة دير الزور، الالتحاق بصفوف "المجاهدين" في العراق، لمقاومة الغزو الأميركي.
لا أحد يعرف لماذا، وإلى متى سيبقى محتجزاً تحت الأرض، عند هؤلاء "الغرباء". أصوات الدعاء الممزوجة ببكاء المعتقَلين، كانت تكسر الحدود بين مهاجع الإذلال، وتصل إلى مسامع أبي يوسف، الذي يتفنّن ومَن معه باستخدام العصي الكهربائية، والسياط الجلدية، على الأجساد الهزيلة.
مَن يذهب لجلسة التحقيق، يعود بحيرةٍ أكبر، وأسئلةٍ أكثر. ومَن يحاول طمأنة نفسه، ينشر شائعةً عن عفوٍ مُرتقبٍ من "البغدادي"، بمناسبة اقتراب حلول عيد الأضحى. لكنّ السجّان السعودي "أبو خطاب" يُثبت عكس ذلك للجميع، بفتح الأبواب الحديدية، وحشرِ المزيد من المعتقلين.
خرجنا من المعتقل بعد أيام، باستثناء بيتر، والمصوّر الصحافي الذي أُفرج عنه لاحقاً. شوارع المدينة لم تعد كما كانت، في نظري على الأقل. مرّ عيد الأضحى، دون صدور عفوٍ من "البغدادي"، لكنه أصدر مرسوماً بإلغاء "في العراق والشام" من اسم "خلافته". راية التنظيم "تمددت" ولحقتني بعد عودتي إلى دير الزور. عنصر "جبهة النصرة" الذي كان يخلع لثامه في مقهى للإنترنت، ويمضي ساعات طوال في التنقّل بين المواقع الإباحية، أصبح هو الآخر "داعشياً". مراسل قناةٍ فضائية "ثورية"، بايع التنظيم، وأصبح أيضاً "داعشياً". الكل من حولي بات "داعشياً".
عدتُ أدراجي إلى الرقة مجدداً، لكن هذه المرة لمتابعة الطريق نحو تركيا. مررتُ بساحة "النعيم" وسط المدينة، وكانت أسوارها تحمل رؤوس عناصر "الفرقة 17". على بعد خطوات من الساحة، سينما الهواء الطلق للتنظيم، كانت تعرض مع الأناشيد التحريضية، اللقطات الأولى لاقتحام "الفرقة" ذاتها. واصلتُ الهروب من هذه الأرض "الداعشية"، وكان آخر محطاتها في ذلك الوقت، حاجزٌ للتنظيم عند بلدة تادف في ريف حلب الشرقي. "افتح لي على الصور الخاصّة"، قالها "الداعشي" الليبي وهو يُفتّش هاتفي المحمول، وكأنها الطريقة المناسبة لتوديع المغادرين.
أبو يوسف بلهجته الشرقية، كان يتحكّم بمصير آلاف المساجين في مهاجع مبنى "المحافظة" في مدينة الرقة. يحكُم على المُتّهمين من خلال "ظواهر الأمور"، إما بالإعدام، أو بالسجن، أو بإطلاق سراحٍ على مضض.
منذ أيام، استعدتُ ذكريات "الولادة من الموت"، حين رأيتُ صورةً حديثة لأحد مسؤولي "ديوان العشائر" التابع لتنظيم "الدولة الإسلامية" في ريف الرقة. لم يمت هذا "الداعشي"، رغم تزاحم الطائرات فوقه، ولم يتغيّر مظهره، منذ لقائنا الوحيد الذي استمرّ دقائق قليلة فقط. حتى أنني أستطيع تمييز صوته، إن تحدّثت الصورة.
الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2013، كان يوماً روتينياً بما يحمله من قصفٍ ونزوح، لمَن كان خارج سيارة الإسعاف المتّجهة من الرقة إلى دير الزور. ساعةٌ يتيمة مضت على بداية رحلة الخوف، التقيتُ خلالها لأول مرةٍ بعامل الإغاثة الأميركي بيتر كاسيغ. كلماتٌ قليلة تبادلناها، وصورةٌ تذكارية التُقطت لنا، بقيت في ذاكرة كاميرا "كانون" تعود لمصوّرٍ صحافي من حلب، كان يُرافق بيتر.
لحظات تأمّل غروب الشمس، وانعكاس أشعّتها البرتقالية على الأسطح المنخفضة للمنازل المتباعدة، فرضت هدوءاً لا إرادياً داخل السيارة البطيئة. تطايرت هذه الأحلام، بمجرّد توقّفنا عند حاجزٍ لتنظيم "الدولة الإسلامية" في "عِراقِه وشامِه"، في منطقة الكرامة التي تبعد 35 كيلومتراً شرقي مدينة الرقة. أمرَنا قائد الحاجز المُلثّم بالعودة إلى مقرّ التنظيم في المنطقة ذاتها، بعدما احتجز الهويات الشخصية لراكبي السيارة الستة. تزامن وصولنا إلى المقرّ مع صلاة المغرب التي كانت جامعةً لعناصره بزعامة "أميرهم". التحق ثلاثةٌ منّا بالصفوف الخلفية للمُصلّين، ربّما بدافع الخوف، واكتفيتُ باستطلاع المكان، وانتظار المجهول. حديثُ نظراتٍ لا يبعث على الطمأنينة، واتهاماتٌ بالتعامل مع "الصليبيين"، كانت كافية لمصادرة ممتلكاتنا، وحبسِنا في زنزانةٍ، تبيّن أنها كانت إحدى قاعات المركز الثقافي الذي اكتسى بالسواد من الخارج.
لم تُجدِ صرخاتنا لمعرفة مصيرنا نفعاً، في قدوم أحد عناصر التنظيم، أو في فتح الباب الذي أٌقفل بإحكام. حاولنا تمضية بعض الوقت بتقليب كتبٍ لـ "ابن تيمية"، وقراءة منشوراتٍ لـ"نواقض الإسلام"، تمّ وضعها في الزنازين بغرض "تثقيف" المساجين دينياً. ساعاتُ مضت، حوّلت فكرة الاعتقال إلى جحيم، في زمنٍ يُفترض أن يكون ثورةً على الظُلم والظلام.
صديقي الذي نال نصيبه من التوبيخ على يد "الداعشي"، لارتدائه قلادةً لعلم الثورة "العلماني"، كَسَرَ صمت الانتظار، ونقشَ على الجدار عبارة "داعش الأسد"، ليبدأ بعدها بركل الباب، الذي دخل منه على وجه السرعة، ثلاثة عناصر قاموا بسحله وضربه ونقله إلى قاعةٍ "ثقافية" أخرى.
عُدنا لخوفنا مجدّداً، وعاد بيتر لمراقبة أعيننا وحركاتنا بحثاً عن إجابةٍ لا نملكها. لم تكن أسوأ الاحتمالات القائمة حينها، تُشير أنّ هذا الشاب الذي قطع آلاف الكيلومترات لمساعدة المحتاجين، سيظهر رأسه مفصولاً عن جسده بعد عامٍ ونيّف، فوق أرض دابق في ريف حلب، التي يتوعّد التنظيم فيها "جيوش الكفّار" بـ"معركةٍ حاسمة"، تُمهّد لنهاية هذا العالم.
نُقلنا في اليوم التالي إلى مبنى "المحافظة" الذي كان يُعدّ معقل التنظيم في سوريا، توزّعنا على ثلاثة مهاجع، يضمّ الواحد منها نحو ثلاثين معتقلاً، كانوا في ازديادٍ مستمر. استعطتُ بصعوبة تأمين مكانٍ للنوم، قرب نصف حائط، يفصل بيني وبين ما يمكن تسميته بـ"دورة مياه".
استبدلتُ الأحلام في ذلك المكان، بقطعة خبزٍ أتحايل فيها على الجوع، وبذكرياتٍ من العام 2003، حين عَرَضَ عليّ صاحب أحد محلات الألبسة الرياضية في مدينة دير الزور، الالتحاق بصفوف "المجاهدين" في العراق، لمقاومة الغزو الأميركي.
لا أحد يعرف لماذا، وإلى متى سيبقى محتجزاً تحت الأرض، عند هؤلاء "الغرباء". أصوات الدعاء الممزوجة ببكاء المعتقَلين، كانت تكسر الحدود بين مهاجع الإذلال، وتصل إلى مسامع أبي يوسف، الذي يتفنّن ومَن معه باستخدام العصي الكهربائية، والسياط الجلدية، على الأجساد الهزيلة.
مَن يذهب لجلسة التحقيق، يعود بحيرةٍ أكبر، وأسئلةٍ أكثر. ومَن يحاول طمأنة نفسه، ينشر شائعةً عن عفوٍ مُرتقبٍ من "البغدادي"، بمناسبة اقتراب حلول عيد الأضحى. لكنّ السجّان السعودي "أبو خطاب" يُثبت عكس ذلك للجميع، بفتح الأبواب الحديدية، وحشرِ المزيد من المعتقلين.
خرجنا من المعتقل بعد أيام، باستثناء بيتر، والمصوّر الصحافي الذي أُفرج عنه لاحقاً. شوارع المدينة لم تعد كما كانت، في نظري على الأقل. مرّ عيد الأضحى، دون صدور عفوٍ من "البغدادي"، لكنه أصدر مرسوماً بإلغاء "في العراق والشام" من اسم "خلافته". راية التنظيم "تمددت" ولحقتني بعد عودتي إلى دير الزور. عنصر "جبهة النصرة" الذي كان يخلع لثامه في مقهى للإنترنت، ويمضي ساعات طوال في التنقّل بين المواقع الإباحية، أصبح هو الآخر "داعشياً". مراسل قناةٍ فضائية "ثورية"، بايع التنظيم، وأصبح أيضاً "داعشياً". الكل من حولي بات "داعشياً".
عدتُ أدراجي إلى الرقة مجدداً، لكن هذه المرة لمتابعة الطريق نحو تركيا. مررتُ بساحة "النعيم" وسط المدينة، وكانت أسوارها تحمل رؤوس عناصر "الفرقة 17". على بعد خطوات من الساحة، سينما الهواء الطلق للتنظيم، كانت تعرض مع الأناشيد التحريضية، اللقطات الأولى لاقتحام "الفرقة" ذاتها. واصلتُ الهروب من هذه الأرض "الداعشية"، وكان آخر محطاتها في ذلك الوقت، حاجزٌ للتنظيم عند بلدة تادف في ريف حلب الشرقي. "افتح لي على الصور الخاصّة"، قالها "الداعشي" الليبي وهو يُفتّش هاتفي المحمول، وكأنها الطريقة المناسبة لتوديع المغادرين.