ولاية الرقة.. تنهي الوجود المسيحي
فرض تنظيم داعش ومنذ بداية إعلانه لولاية الرقة، سيطرته على الكنائس، محطَّماً صلبانها ومنحوتاتها، ومدمراً كل مقدسٍ ونفيسٍ فيها. لكن للمسيحيين والأرمن في الرقة قصة أخرى، كيف استمروا هناك ومعابدهم اتشحت بالسواد العاتم وطُمرت بحقد غاشم؟ في الوقت الذي ضاق فيه مسلمو الرقة أنفسهم ذرعاً، بفعائل التنظيم وعناصره الذين نصّبوا أنفسهم ممثلين شرعيين لسنة الإسلام.
في منزلٍ خلت جدرانه من أي ميزة أو دلالة، اجتمع عدد من مسيحيي وأرمن مدينة الرقة وتل أبيض، وعلى الرغم من خشيتهم وتأكيدهم المتكرر على سرّية الأسماء والمكان، شرعوا بالحديث دون ممهدات أو محفِّزات. قال أحد الحاضرين: "عائلتي في مدينة الرقة منذ قرابة 130 عاماً. لم نشهد سوءاً كما اليوم، بتنا نخشى من إظهار هويتنا إزاء ما آلت إليه كنائسنا من خراب، ناهيك عن التعرّض والتحرّش الدائم على حواجز الطرقات الخارجية". فعناصر داعش دأبت على وصف المسيحيين بالأنجاس والخونة، وصولاً إلى إجبارهم على نطق الشهادتين. الخوف المستمر على المنازل والأملاك من استيلاء التنظيم عليها، كما حدث للعديد من المسيحيين المهاجرين، "أجبرنا على استمرارية التواجد فيها مهما ألحّت الضرورة، أضف إلى ذلك دوريات داعش التي ما فتئت تطرق أبواب بعضنا طلباً للإخلاء، واضعين الجميع في حالة ترقبٍ دائم". فمنازل بعض مسيحيي الرقة الخالية من سكانها، شهدت حرقاً لمحتواها من رموزٍ دينية وممتلكات، على أرصفة الطرقات، ثم أسدلت على شرفاتها الرايات السود، لتعلن كغنائم لعوائل المجاهدين.
وتروي إحدى مسيحيات تل أبيض عن وضع بلدتها قائلةً: "شرع التنظيم بفرض الجزية السنوية على ذكور عوائلنا، ابتداءً بمبلغ 25 ألف ليرة سورية عن العاطل عن العمل، و50 ألفاً للعامل، وصولاً إلى مئة ألف لأصحاب الأملاك". وهذه الأتاوى المفروضة لا يستطيع الجميع تسديدها، مما دفع بعض الشبان إلى إعلان إسلامهم ظاهرياً، ليغدق التنظيم المنح والعطايا عليهم، كي يبارك دخولهم الإسلام. وتعتبر هذه الظاهرة هي الخطر الأعظم الذي يهدد مسيحيي المنطقة. فاستغلال داعش لفقر أبناء الرقة المسيحيين ممن هم دون السن القانونية، وتشجيعهم على التنازل عن معتقداتهم، مقابل أعطيات مادية لترغيبهم، هي السياسة العامة لدعويي داعش. هذه الممارسات، دفعت عوائل المسيحيين المتبقين في الرقة، إلى إخراج أبنائهم من المدارس خشية الاحتكاك بعناصر التنظيم، في محاولة لإبعادهم خارج المدينة بشكل نهائي، أو الإبقاء عليهم أشبه بالسجناء.
التعديات الكثيرة دفعت البعض لاتخاذ قراراتٍ غريبة، فالمصادر تؤكد أن بعض العوائل المسيحية التي خرجت من المدينة، اضطرت للتنازل عن ملكياتها بعقودٍ صورّية للثقاة من المسلمين، علّها بذلك تؤمن عليها من أطماع داعش.
هذه الشكاوى تتضارب مع بيان "عقد الذمة" الصادر عن تنظيم الدولة الإسلامية بتاريخ 23 شباط/فبراير 2014؛ حيث نصّ على منح المسيحيين حرية ممارسة طقوسهم في دور عبادتهم، دون التعرض لهم بأذىً أو ضغطٍ لتبديل معتقداتهم. لكن المجتمعين سارعوا لتكذيب فحواه، أحد الحضور قال: "لا صحة لما جاء في بيانهم، والأرض تشهد: كنائسنا، منازلنا، عوائلنا تشهد. أين العدل وأنا من هذه الأرض أدفع مالاً لا أملكه، لغريبٍ عن هذه الأرض؟". هذا عدا عن توالي التهديدات بعقوبات قصوى، ضد أي احتفال أو طقس يمارسه المسيحيون في منازلهم. يكمل الشاب "وعلى الرغم من ذلك، فنحن ملتزمون باللباس المفروض على سكان المدينة، دون أي خرقٍ لبياناتهم أو عصيانها".
ما الحل إذاً؟ لم البقاء في جحيم هذه الأرض؟ وأين النظام السوري "حامي الأقليات" عن مآسي الرعايا المسيحيين المتبقين في مدن محافظة الرقة؟ تقول امرأة سبعينية: "لن أعيد مسيرة والدتي، لن أطمس هوية أحفادي، قدِمت أمي إلى هذه الأرض في أوائل القرن العشرين طفلةً وحيدةً ضائعةً شاهدةً على ذبح ذويها على يد العثمانيين. احتوتها عائلة مسيحية من هذه الأرض وتزوجت فلم تعرف وطناً غير هذا الوطن، سوف نبقى هنا حتى آخر رمقٍ، لن أعيد معاناتها".
لكن كان لزوجة ابن السيدة العجوز رأي آخر، فهي تسارع لمقاطعتها، مذكرةً إياها بالخطر الجديد الذي يُحدق بالجميع. فعناصر التنظيم بدأت بمطالبتهم بصورٍ ومعلومات شخصية عن كل فرد منهم، فارضين عليهم أسماءً لرموزٍ إسلامية، ستحل محل أسمائهم. في ادعاء كاذب بأن هذه الخطوة هي لحصر أعدادهم وتحديد امتدادهم. بينما تثور خشية الجميع من فرض قسري للإسلام، أو طرد المسيحيين من أراضيهم، وهو ما يعيد عجلة الزمان لذكريات الأجداد.
عقب ذلك، عمّ صخبٌ وتعالت الأصوات بين مؤيدٍ ومعارض، للهجرة إلى دول أوروبا الشرقية. حيث وصف بعضهم حال أرمن سوريا هناك "بمعيشة الكلاب في الشوارع" لما يقاسونه في غربتهم. ومن جهةٍ أخرى اتفقوا على سوء أحوالهم ونفاذ مدخراتهم، قال أحدهم: "نحن هنا لا نجد كفاف يومنا، فمن أين لنا بتكاليف الهجرة؟".
الأبرشيات الواقعة تحت هيمنة النظام السوري، نأت بنفسها عن عون رعاياها في الرقة. فالنظام اعتبر نفسه في حل من أي التزام بهم، معتبراً إياهم: خارجين عن طوعه، ببقائهم في مناطق وقعت تحت سيطرة الإرهاب. موقف الأبرشيات كان مخيباً للحضور، ودفع أحدهم للتأكيد: "انقطعت عنا أي معونةٍ أو إغاثة كانت تصلنا سابقاً، وأصبحت ممنوعة عنا، لجرمنا المتمثل بتمسكنا بأرضنا".
بشكلٍ أو بآخر تبدّلت معادلة النظام السوري، وخلع عنه رداء الفضيلة، مضحّياً بالأقليّات عند أول مذبحٍ لداعش. مسيحيّو الرقة اليوم بالفعل يلقون معاملةً خاصة، لكنها ليست تلك التي يلوّح بها النظام أمام الإعلام، والتي سقطت عند أول اختبار. بل هي تسلّط المتطرفين على حياتهم، مما أحالها سوداء كالحة، كتلك الرايات التي تكتّظ بها شوارع المدينة.